قوله تعالى : { دعواهم } ، أي : قولهم وكلامهم . وقيل : دعاؤهم . { فيها سبحانك اللهم } ، وهي كلمة تنزيه ، تنزه الله من كل سوء . وروينا : { أن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح ، كما يلهمون النفس } . قال أهل التفسير : هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام ، فإذا أرادوا الطعام قالوا : سبحانك اللهم ، فأتوهم في الوقت بما يشتهون على الموائد ، كل مائدة ميل في ميل ، على كل مائدة سبعون ألف صحفة ، وفي كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا ، فإذ فرغوا من الطعام حمدوا لله ، فذلك قوله تعالى :{ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } .
قوله تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } أي : يحي بعضهم بعضا بالسلام . وقيل : تحية الملائكة لهم بالسلام . وقيل : تأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام . { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } ، يريد : يفتتحون كلامهم بالتسبيح ، ويختمونه بالتحميد .
وأما قوله : دَعْوَاهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمْ فإن معناه : دعاؤهم فيها سبحانك اللهمّ . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرت أن قوله : دعْوَاهُمْ فِيها سُبْحانَك اللّهُمّ قال : إذا مرّ بهم الطير فيشتهونه ، قالوا : سبحانك اللهمّ وذلك دعواهم ، فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فيسلم عليهم ، فيردّون عليه ، فذلك قوله : وتَحِيّتُهُمْ فِيها سَلامٌ . قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم ، فذلك قوله : وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : دعْوَاهُمْ فِيها سُبْحانَك اللّهُمّ يقول : ذلك قولهم فيها وتَحِيّتُهُمْ فِيها سَلامٌ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله الأشجعي ، قال : سمعت سفيان يقول : دعْوَاهُمْ فِيها سُبْحانَك اللّهُمّ وتَحِيّتُهُمْ فِيها سَلامٌ قال : إذا أرادوا الشيء قالوا : اللهمّ فيأتيهم ما دعوا به .
وأما قوله : سُبْحانَكَ اللّهُمّ فإن معناه : تنزيها لك يا ربّ مما أضاف إليك أهل الشرك بك من الكذب عليك والفرية .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن غير واحد عطية فيهم : سبحان الله تنزيه لله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : سمعت موسى بن طلحة ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبحان الله ، قال : «إبْرَاءُ اللّهِ عَنِ السّوءِ » .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب وخلاد بن أسلم ، قالوا : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا قابوس ، عن أبيه : أن ابن الكوّاء سأل عليّا رضي الله عنه عن «سبحان الله » قال : كلمة رضيها الله لنفسه .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان بن سعيد الثوري عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي ، عن موسى بن طلحة ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن سبحان الله ، فقال : «تَنْزِيها لِلّهِ عَنِ السّوءِ » .
حدثني عليّ بن عيسى البزار ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن حماد ، قال : ثني حفص بن سليمان ، قال : حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبيد الله ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله ، فقال : «هُوَ تَنْزِيهُ اللّهِ مِنْ كُلّ سُوءٍ » .
حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ، قال : حدثنا سليمان بن أيوب ، قال : ثني أبي ، عن جدي ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله قول سبحان الله ؟ قال : «تَنْزِيهُ اللّهِ عَنِ السّوءِ » .
وتَحِيّتُهُمْ يقول : وتحية بعضهم بعضا فِيها سَلامٌ : أي سلمت وأمنت مما ابتلي به أهل النار . والعرب تسمى الملك التحية ومنه قول عمرو بن معديكرّب :
أزُورُ بها أبا قابُوسَ حتى *** أنِيخَ عَلى تَحِيّتِهِ بِجُنْدِي
ومنه قول زهير بن جناب الكلبي :
مِنْ كُلّ ما نالَ الفَتَى *** قَدْ نِلْتُهُ إلاّ التّحِيّهْ
وقوله : وآخِرُ دَعْوَاهُمْ يقول : وآخر دعائهم أن الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ يقول : وآخر دعائهم أن يقولوا : الحمد لله ربّ العالمين ولذلك خففت «أن » ولم تشدّد ، لأنه أريد بها الحكاية .
جملة : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } وما عطف عليها أحوال من ضمير { الذين آمنوا } .
والدعوى : هنا الدعاء . يقال : دعوة بالهاء ، ودعوَى بألف التأنيث .
وسبحان : مصدر بمعنى التسبيح ، أي التنزيه .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا } في سورة [ البقرة : 32 ] .
{ اللهم } نداء لله تعالى ، فيكون إطلاق الدعاء على هذا التسبيح من أجل أنه أريد به خطاب الله لإنشاء تنزيهه ، فالدعاء فيه بالمعنى اللغوي . ويجوز أن تكون تسمية هذا التسبيح دعاء من حيث إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة الرحمات والنعيم ، كما قال أمية بن أبي الصلت :
إذَا أثنى عليك المرءُ يوماً *** كَفَاه عن تَعَرضِه الثناء
واعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة { سبحانك اللهم } يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول ، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر ، ( وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام ) ولكن قوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } يفيد أن هذا التحميد من دعواهم ، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى .
ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعَموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه ، فهو جامع للعبارة عن الكمالات .
والتحية : اسم جنس لما يُفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة . وأصلها مشتقة من مصدر حيَّاهُ إذا قال له عند اللقاء أحياك الله . ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء ، كما غلب لفظ السلام ، فيشمل : نحو حيَّاك الله ، وعِم صباحاً ، وعِمْ مساء وصبّحك الله بخير ، وبتّ بخير . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } في سورة [ النساء : 86 ] .
ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام ، أي لفظ سلام ، إخباراً عن الجنس بفرد من أفراده ، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم .
والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة ( سلام ) ، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم ، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام ، وهو كلمة السلام عليكم . وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى : { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] وأما قوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 23 ، 24 ] فهو تلطف معهم بتحيتهم التي جاءهم بها الإسلام .
ونكتة حذف كلمة ( عليكم ) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحيّة بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخبر والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم ، بخلاف تحيّة أهل الدنيا فإنها تقع كثيراً بين المتلاقين الذين لا يعرِف بعضهم بعضاً فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدَث البشر لأجله السلامَ ، وهو معنى تأمين الملاقِي من الشر المتوقَّع من بين كثير من المتناكرين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{دعواهم فيها سبحانك اللهم}، فهذا علم بين أهل الجنة وبين الخدم إذا أرادوا الطعام والشراب دعواهم أن يقولوا في الجنة: {سبحانك اللهم}،
{وتحيتهم فيها سلام} وذلك أن يأتيه ملك من عند رب العزة، فلا يصل إليه حتى يستأذن له حاجب فيقوم بين يديه، فيقول: يا ولي الله، ربك يقرأ عليك السلام، وذلك قوله تعالى: {وتحيتهم فيها سلام}، من عند الرب تعالى، فإذا فرغوا من الطعام والشراب، قالوا: الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله عز وجل: {وآخر دعواهم} يعني قولهم حين فرغوا من الطعام والشراب {أن الحمد لله رب العالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أما قوله:"دَعْوَاهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمْ" فإن معناه: دعاؤهم فيها سبحانك اللهمّ..
وأما قوله: "سُبْحانَكَ اللّهُمّ "فإن معناه: تنزيها لك يا ربّ مما أضاف إليك أهل الشرك بك من الكذب عليك والفرية...
"وتَحِيّتُهُمْ" يقول: وتحية بعضهم بعضا "فِيها سَلامٌ": أي سلمت وأمنت مما ابتلي به أهل النار...
وقوله: "وآخِرُ دَعْوَاهُمْ" يقول: وآخر دعائهم "أن الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ" يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله ربّ العالمين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: يخبر أنه ليس على أهل الجنة من العبادات شيء سوى التوحيد.
والثاني: يقولون ذلك لعظيم ما رأوا من النعيم وعجيب ما عاينوا.
والثالث: شكرا لما أعطاهم من ألوان النعيم والأطعمة.
(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) قال أهل التأويل: إن الملائكة يأتون من ألوان النعيم بما اشتهوا، ويسلمون عليهم، ويردون السلام على الملائكة. فذلك قوله (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) فإذا طعموا، وفرغوا، قالوا عند ذلك: (أَن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وهو قول ابن عباس وغيره من أهل التأويل.
ويشبه أن يكون قوله: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) الكلام الذي لا عيب فيه، ولا مطعن؛ أي كلام بعضهم لبعض منزه منفي عن جميع العيوب والمطاعن كقوله: (لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما) [مريم: 62] وقوله (إلا قيل سلاما سلاما) [الواقعة: 26] ونحوه.
(وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)... وقال الحسن: إن الله رضي من عباده بالشكر لما أنعم عليهم في الدنيا والآخرة ب: (الحمد لله رب العالمين) ويشبه أن يكون قوله: (آخر دعواهم) أي دعواهم في الآخرة (الحمد لله رب العالمين) كما كان دعواهم في الدنيا (الحمد لله رب العالمين).
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}: والحمد ها هنا بمعنى المدح والثناء، فيثنون عليه ويحمدونه بحمدِ أبديٍّ سرمديٍّ، والحقُّ- سبحانه- يُحَييِّهم بسلامٍ أزليٍّ وكلام أبدي..
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا} التحيةُ التكرمةُ بالحالة الجليلة أصلُها أحياك الله حياةً طيبة...
{أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أي أن يقولوا ذلك نعتاً له عز وجل بصفات الإكرام إثرَ نعتِه تعالى بصفات الجلال، أي دعاؤهم منحصِرٌ فيما ذُكر إذ ليس لهم مطلبٌ مترقّبٌ حتى ينتظموا في سلك الدعاء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
في هذه الآية بيان لكلمات ثلاث تمثل حياة أهل الجنة الروحانية في عامة أحوالهم من مبادئ دعاء ربهم وتنزيهه، وما يدعونه- أي يطلبونه- من فضله وكرامتهم ومن تحيته تعالى وتحية ملائكته لهم، ومن تحيتهم فيما بينهم عند تزاورهم أو تلاقيهم، ومن حمدهم له في خواتيم أقوالهم وأفعالهم، وهي خير الكلم وأخصره وأعذبه.
الدعوى في اللغة الدعاء بمعانيه، والدعاوة في الشيء والادعاء للشيء، فالدعاء للناس هو النداء والطلب المعتاد بينهم في دائرة الأسباب المسخرة لهم، والدعاء التعبدي لله نداؤه وسؤاله والرغبة فيما عنده الصادر عن الشعور بالحاجة إليه والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه، ولاسيما دفع الضر وجلب النفع مما يعجز عنه العبد من طريق الأسباب، للإيمان بأنه سبحانه هو المسخر لها والهادي إليها والقادر على تصريفها، وعلى المن بها من غير طريقها، والدعوى للشيء تشمل في اللغة تمنيه وقوله وطلبه من مالكه، وادعاء ملكيته، وهذه المعاني كلها للفظ الدعوى تصح إرادتها من أهل الجنة -إلا الأخير منها- وقول بعض المفسرين وغيرهم: إن من معاني الدعاء العبادة لا يصح على إطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية، فإن الصيام لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا، وإنما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية، وأعظم أركان التكليفية منها- كما ورد في الحديث- فكل دعاء شرعي عبادة، وما كل عبادة شرعية دعاء. والتسبيح تنزيه الله تعالى وتقديسه، وكلمة (اللهم) نداء له عزّ وجلّ أصله يا الله.
والمعنى أنهم يبدؤون كل دعاء وثناء يناجون به الله عزّ وجلّ -وهو النعيم الروحاني- وكل طلب لكرامة أو لذة من لذات الجنة -وهو النعيم الجسماني- بهذه الكلمة: سبحانك اللهم، أي تنزيها وتقديسا لك يا الله، قيل: أو بما تدل عليه، وإن كان بلفظ آخر، وأن تحيتهم فيها كلمة (سلام) الدالة على السلامة من النقص والآثام، وهي تحية المؤمنين في الدنيا، وهذه التحية تكون منه عزّ وجلّ لهم كما قال في سورة الأحزاب {تحيتهم يوم يلقونه سلام} [الأحزاب: 44]، وفي سورة يس {سلام قولا من رب رحيم} [يس: 58]، وتكون من الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال في سورة الزمر: {وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، ومثله في سورة النحل {الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وفي كل وقت يدخلون فيه عليهم كما قال في سورة الرعد {والمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار} [الرعد:ِ 23 24]، وتكون منهم بعضهم لبعض وهو المتبادر من قوله تعالى في سورة مريم {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما} [مريم: 62]، وفي سورة الواقعة {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ولَا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} [الواقعة: 25 26]، فإن اللغو والتأثيم من شأن كلام البشر، فلما نفى وقوعهما منهم في الجنة واستدرك على نفيه باستثناء كلمة "سلام "استثناء منقطعا ترجح أن يكون المراد به سلام بعضهم على بعض أو عاما يشمله. والجملة في آيتنا {وتحيتهم فيها سلام} تشمل الأنواع كلها، وإنه لإيجاز بليغ غفل عنه من نعرف من المفسرين لغفلتهم عن هذه الأنواع.
وأما قوله: {وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فمعناه أن الحمد له جلّ ثناؤه هو آخر كل حال من أحوال أهل الجنة من دعاء يناجون به الله تعالى، ومطلب يطلبونه من إحسانه وإكرامه، كما أنه أول ثنائهم عليه عند دخولها، كما قال في آخر سورة الزمر بعد آية السلام عليهم من الملائكة {وقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وعْدَهُ وأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]، وآخر كلام الملائكة أيضا، وهو قوله بعده {وتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75].
فعلى كل قارئ لهذه الآية الجامعة وقد فسرناها له هنا بما في معناها من الآيات في السور الأخرى أن يمثل لنفسه حالة أهل الجنة في هذه الكلمات الثلاث المبينة لنعيمهم الروحاني بلقاء الله عزّ وجلّ ومناجاته في جميع أطوارهم، ولما يكون بينهم وبين ملائكته وبين بعضهم مع بعض، ومنه يعلمون أن معظم نعيم الجنة روحاني، فعليهم أن يستعدوا لها بتزكية أنفسهم، وترقية أرواحهم، وأن يعلموا أنهم لن يكونوا أهلا لها بالاتكال على التوسلات بأشخاص الأولياء والتمني لشفاعتهم {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ولاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ ولِيّاً ولاَ نَصِيراً* ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُو مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ولاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 123 124] {ومَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُو فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء: 72].
ومن التفسير المأثور ما أخرجه ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا عن أهل الجنة "إذا قالوا: سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة" وروي مثله عن بعض التابعين، فالكلمة علامة بين أهل الجنة وخدمهم في إحضار الطعام وغيره، فإذا أكلوا حمدوا الله تعالى. وهذا مما يدخل في عموم ما تقدم سواء أصحت الرواية أم لا؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فما همومهم في هذه الجنة وما هي شواغلهم، وما هي دعواهم التي يحبون تحقيقها؟ إن همومهم ليست مالاً ولا جاهاً، وإن شواغلهم ليست دفع أذى ولا تحصيل مصلحة. لقد كفوا شر ذلك كله، ولقد اكتفوا فما لهم من حاجة من تلك الحاجات، ولقد استغنوا بما وهبهم الله، ولقد ارتفعوا عن مثل هذه الشواغل والهموم. إن أقصى ما يشغلهم حتى ليوصف بأنه (دعواهم) هو تسبيح الله أولا وحمده أخيرا، يتخلل هذا وذاك تحيات بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين ملائكة الرحمن: (دعواهم فيها: سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم: أن الحمد لله رب العالمين).. إنه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا وشواغلها؛ والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها، والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسلام. تلك الآفاق اللائقة بكمال الإنسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعلم أن الاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة {سبحانك اللهم} يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر، (وإن لم يكن هو من طرق القصر لكنه يستفاد من المقام) ولكن قوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} يفيد أن هذا التحميد من دعواهم، فتحصل من ذلك أن لهم دعوى وخاتمة دعوى. ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم أنها تدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعَموا بمقام دعاء ربهم الذي هو مقام القرب لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا إلى التزام التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه، فهو جامع للعبارة عن الكمالات.
والتحية: اسم جنس لما يُفاتح به عند اللقاء من كلمات التكرمة. وأصلها مشتقة من مصدر حيَّاهُ إذا قال له عند اللقاء أحياك الله. ثم غلبت في كل لفظ يقال عند اللقاء، كما غلب لفظ السلام، فيشمل: نحو حيَّاك الله، وعِم صباحاً، وعِمْ مساء وصبّحك الله بخير، وبتّ بخير. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} في سورة [النساء: 86]. ولهذا أخبر عن تحيتهم بأنها سلام، أي لفظ سلام، إخباراً عن الجنس بفرد من أفراده، أي جعل الله لهم لفظ السلام تحية لهم. والظاهر أن التحية بينهم هي كلمة (سلام)، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام، وهو كلمة السلام عليكم.
ونكتة حذف كلمة (عليكم) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحيّة بينهم مجرد إيناس وتكرمة فكانت أشبه بالخبر والشكر منها بالدعاء والتأمين كأنهم يغتبطون بالسلامة الكاملة التي هم فيها في الجنة فتنطلق ألسنتهم عند اللقاء معبرة عما في ضمائرهم، بخلاف تحيّة أهل الدنيا فإنها تقع كثيراً بين المتلاقين الذين لا يعرِف بعضهم بعضاً فكانت فيها بقية من المعنى الذي أحدَث البشر لأجله السلامَ، وهو معنى تأمين الملاقِي من الشر المتوقَّع من بين كثير من المتناكرين.