قوله تعالى : { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } ، قيل : هذا عند السد ، يقول : تركنا يأجوج ومأجوج ، أي : يدخل ، بعضهم في بعض ، كموج الماء ، ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم . وقيل : هذا عند قيام الساعة ، يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيهم بجنيهم حيارى . { ونفخ في الصور } ، لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة ، { فجمعناهم جمعاً } ، في صعيد واحد .
وقوله : { وتركنا } بمعنى جعلنا وصيرنا ، والضمير المضاف فى قوله { بعضهم } يعود إلى يأجوج ومأجوج ، والمراد { بيومئذ } : يوم تمام بناء السد الذى بناه ذو القرنين .
وقوله - سبحانه - { يموج } من الموج بمعنى الاضطراب والاختلاط يقال : ماج البحر إذا اضطرب موجه وهاج واختلط . ويقال : ماج القوم إذا اختلط بعضهم ببعض وتزاحموا حائرين فزعين .
والمعنى وجعلنا وصيرنا بمقتضى حكمتنا وإرادتنا وقدرتنا ، قبائل يأجوج ومأجوج يموج بعضهم فى بعض . أى : يتزاحمون ويضطربون من شدة الحيرة لأنهم بعد بناء السد ، صاروا لا يجدون مكانا ينفذون منه إلى ما يريدون النفاذ إليه ، فهم خلفه فى اضطراب وهرج .
ويجوز أن يكون المراد بيومئذ : يوم مجئ الوعد بخروجهم وانتشارهم فى الأرض ، وهذا الوعد قد صرحت به الآية السابقة فى قوله - تعالى - { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } فيكون المعنى : وتركنا قبائل يأجوج ومأجوج ، يوم جاء وعد الله بجعل السد مدكوكا ومتساويا مع الأرض ، يموج بعضهم فى بعض ، بعد أن خرجوا منتشرين فى الأرض ، وقد تزاحموا وتكاثروا واختلط بعضهم ببعض .
قال الفخر الرازى : " اعلم أن الضمير فى قوله { بعضهم } يعود إلى يأجوج ومأجوج . وقوله : { يومئذ } فيه وجوه :
الأول : أن يوم السد ماج بعضهم فى بعض خلفه لما منعوا من الخروج .
الثانى : أنه عند الخروج يموج بعضهم فى بعض . قيل : إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين فى البلاد .
الثالث : أن المراد من قوله { يومئذ } يوم القيامة .
وكل ذلك محتمل ، إلا أن الأقرب أن المراد به : الوقت الذى جعل الله فيه السد دكا فعنده ماج بعضهم ونفخ فى الصور ، وصار ذلك من آيات القيامة " .
وقال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } الضمير فى { تركنا } لله - تعالى - أى : تركنا الجن والإِنس يوم القيامة يموج بعضهم فى بعض .
وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج { يومئذ } أى : يوم كمال السد يموج بعضهم فى بعض ، واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم فى بعض .
وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السدِّ يموجون فى الدنيا مختلطين لكثرتهم . فهذه أقوال ثلاثة : أظهرها أوسطها وأبعدها آخرها . وحسن الأول ، لأنه تقدم ذكر القيامة فى تأويل قوله - تعالى - { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } .
وقوله - سبحانه - { وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } بيان لعلامة من علامات قيام الساعة .
والنفخ لغة : إخراج النفس من الفم لإِحداث صوت معين . والصور : القرن الذى ينفخ فيه إسرافيل - عليه السلام - نفخة الصعق والموت ، ونفخة البعث والنشور ، كما قال - تعالى - : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }
والمعنى : وتركنا يأجوج ومأجوج يموج بعضهم فى بعض . وأمرنا إسرافيل بالنفخ فى الصور ، فجمعناهم وجميع الخلائق جمعا تاما ، دون أن نترك أحدا من الخلائق بدون إعادة إلى الحياة ، بل الكل مجموعون ليوم عظيم هو يوم البعث والحساب .
والمراد بالنفخ هنا : النفخة الثانية التى يقوم الناس بعدها من قبورهم للحساب ، كما أشارت إلى ذلك آية سورة الزمر السابقة .
وفى التعبير بقوله : { فجمعناهم جمعا } . أى : جمعناهم جمعا تاما كاملا لا يشذ عنه أحد ، ولا يفلت منه مخلوق ، كما قال - سبحانه - : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } هذا ، وهنا مسألة تكلم عنها العلماء ، وهى وقت خروج يأجوج ومأجوج .
فمنهم من يرى أنه لا مانع من أن يكونوا قد خرجوا ، بدليل ما جاء فى الحديث الصحيح من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ويل للعرب من شر قد اقترب . فتح اليوم من سد يأجوج ومأجوج مثل هذا ، وحلق أى بين أصابعه " .
ولأن الآيات الكريمة تقول : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ . . } ووعد الله لا مانع من أن يكون قد أتى .
قال الشيخ القاسمى : " والغالب أن المراد بخروجهم هذا خروج المغول التتار . وهم من نسل يأجوج ومأجوج - وهو الغزو الذى حصل منهم للأمم فى القرن السابع الهجرى . وناهيك بما فعلوه إذ ذاك فى الأرض من فساد . . " .
وقال الشيخ المراغى عند تفسير قوله - تعالى - : { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } وقد جاء وعده - تعالى - بخروج جنكيز خان وسلائله فعاثوا فى الأرض فساداً . . وأزالوا معالم الخلافة من بغداد . . .
وقال صاحب الظلال : وبعد ، فمن يأجوج ومأجوج ؟ وأين هم الآن ؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون ؟
كل هذه أسئلة تصعب الإِجابة عليها على وجه التحقيق ، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد فى القرآن ، وفى بعض الأثر الصحيح .
والقرآن يذكر فى هذا الموضع ما حكاه من قول ذى القرنين : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } وهذا النص لا يحدد زمانا ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ، ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار وانساحوا فى الأرض . ودمروا الممالك تدميرا .
وفى موضع آخر من سورة الأنبياء : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ واقترب الوعد الحق } وهذا النص - أيضاً - لا يحدد زمانا معينا لخروجهم ، فاقتراب الوعد الحق ، بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء فى القرآن : { اقتربت الساعة وانشق القمر } والزمان فى الحساب الإِلهى غيره فى حساب البشر ، فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون .
وإذا فمن الجائز أن يكون السد قد فتح ما بين : { اقتربت الساعة } ، ويومنا هذا .
وتكون غارات المغول والتتار التى اجتاحت الشرق ، هى انسياح يأجوج ومأجوج . . وكل ما نقوله ترجيح لا يقين .
هذه بعض حجج القائلين بأنه لا مانع من أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا .
وهناك فريق آخر من العلماء ، يرون أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد ، وأن خروجهم إنما يكون قرب قيام الساعة .
ومن العلماء الذين أيدوا ذلك صاحب أضواء البيان ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه :
اعلم أن هذه الآية : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ } وآية الأنبياء : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } قد دلتا فى الجملة على أن السد الذى بناه ذو القرنين ، دون يأجوج ومأجوج ، إنما يجعله الله دكا عند مجئ الوقت الموعود بذلك فيه . وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة . . لأن المراد بيومئذ فى قوله { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } أنه يوم مجئ وعد ربى بخروجهم وانتشارهم فى الأرض .
وآية الأنبياء تدل فى الجملة على ما ذكرنا هنا . وذلك يدل على بطلان قول من قال : إنهم " روسيا " وأن السد فتح منذ زمن طويل .
والاقتراب الذى جاء فى قوله - تعالى - { اقتربت الساعة } وفى الحديث : " ويل للعرب من شر قد اقترب " لا يستلزم اقترانه من دك السد ، بل يصح اقترابه مع مهلة .
وهذه الآيات لا يتم الاستدلال بها على أن يأجوج ومأجوج لم يخرجوا بعد - إلا بضميمة الأحاديث النبوية لها .
ومن ذلك ما رواه الإِمام مسلم فى صحيحه فى ذلك ، وفيه : خروج الدجال وبعث عيسى ، وقتله للدجال . . ثم يبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون .
فينحاز عيسى ومن معه من المؤمنين إلى الطور . . ثم يرسل الله على يأجوج ومأجوج النغف فى رقابهم فيموتون .
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبى صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحى إلى عيسى ابن مريم بخروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال فمن يدعى أنهم " روسيا " وأن السد قد اندك منذ زمان ، فهو مخالف لما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها ، ولا شك أن كل خبر يخالف الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل ، لأن نقيض الخبر الصادق . كاذب ضرورة كما هو معلوم .
ولم يثبت فى كتاب الله ولا فى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شئ يعارض هذا الحديث الذى رأيت صحة سنده ، ووضوح دلالته على المقصود . . .
والذى يبدو لنا أن ما ذهب إليه صاحب أضواء البيان ، أقرب إلى الحق والصواب للأسباب التى ذكرها ، ولقرينة تذييل الآيات التى تحدثت عن يأجوج ومأجوج عن أهوال يوم القيامة .
ففى سورة الكهف يقول الله - تعالى - فى أعقاب الحديث عنهم { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } .
وفى سورة الأنبياء يقول الله - تعالى - : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ واقترب الوعد الحق . . } وفضلا عن كل ذلك فإن الحديث الذى رواه الإِمام مسلم عنهم ، صريح فى أن خروجهم سيكون من علامات الساعة ، والله - تعالى - أعلم .
الترك : حقيقته مفارقة شيء شيئاً كان بقربه ، ويطلق مجازاً على جعل الشيء بحالة مخالفة لحالة سابقة تمثيلاً لحال إلفائه على حالة ، ثم تغييرها بحال من كان قرب شيء ثم ذهب عنه ، وإنما يكون هذا المجاز مقيداً بحالة كان عليها مفعول تَرك ، فيفيد أن ذلك آخر العهد ، وذلك يستتبع أنه يدوم على ذلك الحال الذي تركه عليها بالقرينة .
والجملة عطف على الجملة التي قبلها ابتداء من قوله { حتى إذا بلغ بين السدين ، } فهذه الجملة لذكر صنع الله تعالى في هذه القصة الثالثة من قصص ذي القرنين إذ ألهمه دفع فساد ياجوج وماجوج ، بمنزلة جملة { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب } في القصة الأولى ، وجملة { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } فجاء أسلوب حكاية هذه القصص الثلاث على نسق واحد .
و { يومئذ } هو يوم إتمام بناء السد المستفاد من قوله { فما اسطاعوا أن يظهروه } الآية .
و { يَمُوج } يضطرب تشبيهاً بموج البحر .
وجملة { يَمُوج } حال من { بعضهم } أو مفعول ثان ل { تَرَكنا } على تأويله ب ( جعلنا ) ، أي جعلنا ياجوج وماجوج يومئذ مضطربين بينهم فصار فسادهم قاصراً عليهم ودفع عن غيرهم .
والنار تأكل نفسها *** إن لم تجد ما تأكله
لأنهم إذا لم يجدوا ما اعتادوه من غزو الأمم المجاورة لهم رجع قويهم على ضعيفهم بالاعتداء .
{ وَنُفِخَ فِى الصور فجمعناهم جَمْعاً }
تخلصٌ من أغراض الاعتبار بما في القصة من إقامة المصالح في الدنيا على أيدي من اختاره الله لإقامتها من خاصة أوليائه ، إلى غرض التذكير بالموعظة بأحوال الآخرة ، وهو تخلص يؤذن بتشبيه حال تموجهم بحال تموج الناس في المحشر ، تذكيراً للسامعين بأمر الحشر وتقريباً بحصوله في خيال المشركين . فإن القادر على جمع أمة كاملة وراء هذا السد ، بفعل من يسره لذلك من خلقه ، هو الأقدر على جمع الأمم في الحشر بقدرته ، لأنّ متعلقات القدرة في عالم الآخرة أعجب . وقد تقدّم أن من أهم أغراض هذه السورة إثبات البعث . واستعمل الماضي موضع المضارع تنبيهاً على تحقيق وقوعه .
والنفخ في الصور تمثيلية مكنية تشبيهاً لحال الدّاعي المطاع وحال المدعو الكثير العدد السريع الإجابة ، بحال الجند الذين ينفذون أمر القائد بالنفير فينفخون في بوق النفير ، وبحال بقية الجند حين يسمعون بوق النفير فيسرعون إلى الخروج . على أنه يجوز أن يكون الصور من مخلوقات الآخرة .
والحالة الممثلة حالة غريبة لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى .
وتأكيد فعلي { جمعناهم } و { عرضنا } بمصدريهما لتحقق أنه جمع حقيقي وعرض حقيقي ليسا من المجاز ، وفي تنكير الجمع والعرض تهويل .