قوله تعالى : { فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } يعني : يتشرف بأن يكون له الفضل عليكم فيصير متبوعاً وأنتم له تبع ، { ولو شاء الله } أن لا يعبد سواه ، { لأنزل ملائكة } يعني بإبلاغ الوحي . { ما سمعنا بهذا } الذي يدعونا إليه نوح { في آبائنا الأولين } وقيل : ( ما سمعنا بهذا ) أي : بإرسال بشر رسولاً .
ثم حكى - سبحانه - ما رد به قوم نوح عليه فقال : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . . } .
والمراد بالملأ : أصحاب الجاه والغنى من قوم نوح . وهذا اللفظ اسم جمع لا واحد له من لفظه - كرهط - وهو مأخوذ من قولهم : فلان ملىء بكذا ، إذا كان قادراً عليه . أو لأنهم متمالئون . أى : متظاهرون متعاونون ، أو لأنهم يملأون القلوب والعيون مهابة .
وفى وصفهم بالكفر : تشنيع عليهم وذم لهم ، وإشعار بأنهم عريقون فيه . أى : فقال الأغنياء وأصحاب النفوذ الذين مردوا على الكفر ، فى الدر على نبيهم نوح عليه السلام : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } .
أى : قالوا لأتباعهم على سبيل التحذير من الاستماع إلى دعوة نبيهم ، ما هذا ، أى : نوح عليه السلام - إلا بشر مثلكم ، ومن جنسكم ، ولا فرق بينكم وبينه فكيف يكون نبياًّا ؟
ولم يقولوا : ما نوح إلا بشر مثلكم ، بل أشاروا إليه بدون ذكر اسمه ، لأنهم لجهلهم وغرورهم يقصدون تهوين شأنه - عليه الصلاة والسلام - فى أعين قومه .
وقوله : { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } أى : أ ، نوحاً جاء بما جاء به بقصد الرياسة عليكم .
ومرادهم بهذا القول : تنفير الناس منه ، وحضهم على عداوته .
وقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } استبعاد منهم لكون الرسول من البشر أى : ولو شاء الله أن يرسل رسولاً ليأمرنا بعبادته وحده . لأرسل ملائكة ليفعلوا ذلك ، فهم - لانطماس بصائرهم وسوء تفكيرهم - يتوهمون أن الرسول لا يكون من البشر ، وإنما يكون من الملائكة .
ومفعول المشيئة محذوف . أى : ولو شاء الله عبادته وحده لأرسل ملائكة ليأمرونا بذلك ، فلما لم يفعل علمنا أنه ما أرسل رسولاً ، فنوح - فى زعمهم - كاذب فى دعواه .
وقولهم : { مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } أى ما سمعنا بهذا الكلام الذى جاءنا به نوح فى آباءنا الأولين ، الذين ندين باتباعهم ، ونقتدى بهم فى عبادتهم لهذه الأصنام .
{ فقال الملأ } - وهم السادة والأكابر منهم - : { مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } يعنون : يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى{[20534]} النبوة ، وهو بشر مثلكم . فكيف أوحي إليه دونكم ؟ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً } أي : لو أراد أن يبعث نبيًّا ، لبعث مَلَكًا من عنده ولم يكن بشرًا ! { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أي : ببعثة البشر في آبائنا الأولين . يعنون{[20535]} بهذا أسلافهم وأجدادهم والأمم{[20536]} الماضية .
فرع على الأمر بإفراده بالعبادة استفهامُ إنكار على عدم اتقائهم عذاب الله تعالى . وقد خولفت في حكاية جواب الملإ من قومه الطريقة المألوفة في القرآن في حكاية المحاورات وهي ترك العطف التي جرى عليها قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) . فعطف هنا جواب الملإ من قومه بالفاء لوجهين :
أحدهما : أنهم لم يوجهوا الكلام إليه بل تركوه وأقبلوا على قومهم يفندون لهم ما دعاهم إليه نوح .
والثاني : ليُفاد أنهم أسرعوا بتكذيبه وتزييف دعوته قبل النظر . ووصفُ الملإ بأنهم الذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو الذي أنطقهم بهذا الرد على نوح ، وهو تعريض بأن مثل ذلك الرد لا نُهوض له ولكنهم روّجُوا به كفرهم خشية على زوال سيادتهم .
وقوله : { من قومه } صفة ثانية .
وقول الملأ من قومه : { ما هذا إلاّ بشر مثلكم } خاطب به بعْضُهُم بعضاً إذ الملأ هم القوم ذوو السيادة والشَّارة ، أي فقال عظماء القوم لعامتهم .
وإخبارهم بأنه بشر مثلهم مستعمل كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة بدليللٍ من ذاته ، أوهموهم أن المساواة في البشرية مانعة من الوساطة بين الله وبين خلقه ، وهذا من الأوهام التي أضلت أمما كثيرة . واسم الإشارة منصرف إلى نوح وهو يقتضي أن كلام الملإ وقع بحضرة نوح في وقت دعوته ، فعدلوا من اسمه العلم إلى الإشارة لأن مقصودهم تصغير أمره وتحقيره لدى عامتهم كيلا يتقبلوا قوله ، وقد تقدم نظير هذا في سورة هود .
وزادت هذه القصة بحكاية قولهم : { يُريد أن يتفضل عليكم } فإن سادة القوم ظنوا أنه ما جاء بتلك الدعوة إلاّ حباً في أن يَسُود على قومهم فَخَشُوا أن تزول سيادتهم وهم بجهلهم لا يتدبرون أحوال النفوس ولا ينظرون مصالح الناس ولكنهم يقيسون غيرهم على مقياس أنفسهم .
فلما كانت مطامح أنفسهم حبّ الرئاسة والتوسل إليها بالانتصاب لخدمة الأصنام توهموا أن الذي جاء بإبطال عبادة الأصنام إنما أراد منازعتهم سلطانهم .
والتفضل : تكلف الفَضل وطلبه ، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة ، أي يريد أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال .
وقولهم : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } عطف على جملة { ما هذا إلاّ بشر مثلكم } بعد أن مهدوا له بأن البشرية مانعة من أن يكون صاحبها رسولاً لله ، وحذف مفعول فعل المشيئة لظهوره من جواب ( لو ) ، أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رُسُلاً ، وحَذف مفعول المشيئة جائز إذا دلت عليه القرينة ، وذلك من الإيجاز ، ولا يختص بالمفعول الغريب مثلما قال صاحب « المفتاح » : ألا ترى قول المعري :
وإن شئت فازعُم أنّ مَن فوقَ ظهرها *** عَبيدُكَ واستشهِدْ إلهك يَشْهَدِ
وهل أغرب من هذا الزعم لو كانت الغرابة مقتضية ذكرَ مفعول المشيئة . فلما دل عليه مفعول جواب الشرط حسن حذفه من فعل الشرط .
وجملة { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين } مستأنفة قَصدوا بها تكذيب الدعوة بعد تكذيب الداعي ، فلذلك جيء بها مستأنفة غير معطوفة تنبيهاً على أنها مقصودة بذاتها وليست تكملة لها قبلها ، بخلاف أسلوب عطف جملة : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } إذ كان مضمونُها من تمام غرض ما قبلها .
فالإشارة ب { هذا } إلى الكلام الذي قاله نوح ، أي ما سمعنا بأن ليس لنا إله غير الله في مدة أجدادنا ، فالمقصود بالإشارة معنى الكلام لا نفسه ، وهو استعمال شائع . ولما كان حرف الظرفية يقتضي زمناً تعين أن يكون مدخوله على تقدير مضاف ، أي في مدة آبائنا لأن الآباء لا يصلح للظرفية .
ولما كان السماع المنفي ليس سماعاً بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا ، عُدّي فعل { سمعنا } بالباء لتضمينه معنى الاتصال . جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء ، وهو مجادلة سفسطائيَّة إذ قد يكون انتفاءُ العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات ، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك ، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحاً فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة .