قوله تعالى : { قال عيسى ابن مريم } . عند ذلك .
قوله تعالى : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدةً من السماء } ، وقيل : إنه اغتسل ، ولبس المسح ، وصلى ركعتين ، وطأطأ رأسه ، وغض بصره ، وبكى ، ثم قال : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء .
قوله تعالى : { تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا } ، أي : عائدة من الله علينا حجة ، وبرهاناً ، والعيد : يوم السرور ، سمي به للعود من الترح إلى الفرح ، وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك ، وسمي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان في كل سنة ، قال السدي : معناه : نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً لأولنا ، وآخرنا ، أي : نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان : نصلي فيه ، قوله : { لأولنا } أي : لأهل زماننا { وآخرنا } ، أي : لمن يجيء بعدنا ، وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
ثم حكى - سبحانه - ما تضرع به عيسى بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه في سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء فقال - تعالى - { قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } .
وقوله : { اللهم } أي : يا الله . فالميم المشددة عوض عن حرف النداء ، ولذلك لا يجتمعان . وهذا التعويض خاص بنداء الله ذي الجلالة والإِكرام .
وقوله : { عيدا } أي سرورا وفرحا لنا ، لأن كلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور .
قال القرطبي : والعيد واحد الأعياد . أصله من عاد يعود أي : رجع وقيل ليوم الفطر والأضحى عيد ، لأنهما يعودان كل سنة . وقال الخليل : " العيد كل يوم يجمع الناس فيه كأنهم عادوا إليه ، وقال ابن الانباري : سمعى عيدا للعود إلى المرح والفرح فهو يوم سرور " .
والمعنى : قال عيسى بضراعة وخشوع - بعد أن سمع من الحواريين حجتهم - { اللهم رَبَّنَآ } أي : يا الله يا ربنا ومالك أمرنا ، ومجيب سؤالنا . أتوسل إليك أن تنزل علينا { مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } أي : أطعمة كائنة من السماء هذه الأطعمة { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } أي : يكون يوم نزولهاه عيدا نعظمه ونكثر من التقرب إليك فيه نحن الذين شاهدناها ، ويكون - أيضاً - يوم نزولها عيداً وسروراً وبهجة لمن سيأتي بعدنا ممن لم يشاهدنا .
قال ابن كثير . قال السدي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا . وقال سفيان الثوري : يعني يوما نصلي فيه . وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم . وقال سلمان الفارسي : تكون عظة لنا ولمن بعدنا .
وقوله : { وَآيَةً مِّنْكَ } معطوف على قوله { عيداً } .
أي : تكون هذه المائدة النازلة من السماء عيداً لأولنا وآخرنا ، وتكون أيضاً - دليلا - وعلامة منك - سبحانك - على صحة نبوتي ورسالتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك ، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك .
وقوله : { وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } تذييل بمثابة التعليل لما قبله . أي : أنزلها علينا يا ربنا وأزرقنا من عندك رزقنا هنيئا رغداً ، فإنك أنت خير الرازقين ، وخير المعطين ، وكل عطاء من سواك لا يغني ولا يشبع .
وقد جمع عيسى في دعائه بين لفظي " اللهم ربنا " إظهاراً لنهاية التضرع وشدة الخضوع ، حتى يكون تضرعه أهلا للقبول والإِجابة .
وعبر عن مجيء المائدة بالإنزال من السماء للإِشارة إلى أنها هبة رفيعة ، ونعمة شريفة ، آتية من مكان عال مرتفع في الحسن والمعنى ، فيجب أن تقابل بالشكر لواهبها - عز وجل - وبتمام الخضوع والإِخلاص له .
وقوله { تَكُونُ لَنَا عِيداً } صفة ثانية لمائدة ، وقوله { لنا } خبر كان وقوله { عيداً } حال من الضمير في الظرف .
قال الفخر الرازي : تأمل في هذا الترتيب ، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا ، فقدموا ذكر الأكل فقالوا { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } وأخروا الأغراض الدينية الروحانية .
فأما عيسى فإنه لما ذكر المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال : { وارزقنا } وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحية ، وبعضها جسمانية .
ثم إن عيسى لشدة صفاء دينه لما ذكرالرزق انتقل إلى الرازق بقوله { وارزقنا } لم يقف عليه : بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال : { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } فقوله : { ربنا } ابتداء منه بذكر الحق . وقوله { أَنزِلْ عَلَيْنَا } انتقال من الذات إلى الصفات .
وقوله { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة ، بل من حيث إنها اصدرة من المنعم .
وقوله : { وَآيَةً مِّنْكَ } إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظرو الاستدلال .
وقوله : { وارزقنا } إشارة إلى حصة النفس .
ثم قال الإِمام الرازي : فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون .
ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ، ومن غير الله إلى الله ، وعند ذلك تلوح لك سمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية إلى الكمالات الإِلهية ونزولها .
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا } قال السُّدِّي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظمه نحن وَمَنْ بعدنا ، وقال سفيان الثوري : يعني يومًا نصلي فيه ، وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم ، وعن سلمان الفارسي : عظة لنا ولمن بعدنا . وقيل : كافية لأولنا وآخرنا .
{ وَآيَةً مِنْكَ } أي : دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء ، وعلى إجابتك دعوتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك { وَارْزُقْنَا } أي : من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفة ولا تعب { وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ } .
{ اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا } أي يكون يوم نزولها عيدا نعظمه . وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيدا . وقرئ " تكن " على جواب الأمر . { لأولنا وآخرنا } بدل من لنا بإعادة العامل أي عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا . روي : أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا . وقيل يأكل منها أولنا وآخرنا . وقرئ " لأولانا وأخرانا " بمعنى الأمة أو الطائفة . { وآية } عطف على عيدا { منك } صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي . { وارزقنا } المائدة والشكر عليها . { وأنت خير الرازقين } أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض .
إن كان قوله : { إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء } [ المائدة : 112 ] من تمام الكلام الذي يلقيه الله على عيسى يوم يجمع الله الرسل كانت هذه الجملة وهي { قال عيسى ابن مريم اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة } الخ . . . معترضة بين جملة { وإذ أوحيت إلى الحواريّين } [ المائدة : 111 ] وجملة { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ] الآية .
وإن كان قوله : { إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزّل } [ المائدة : 112 ] الآية ابتداء كلام بتقدير فعل اذكر كانت جملة : { قال عيسى ابن مريم اللهم ربّنا } الآية مجاوبة لقول الحواريّين { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك } [ المائدة : 112 ] الآية على طريقة حكاية المحاورات .
وقوله : { اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة } اشتمل على نداءين ، إذ كان قوله : { ربّنا } بتقدير حرفِ النداء . كرّر النداء مبالغة في الضراعة . وليس قوله : { ربّنا } بدلاً ولا بياناً من اسم الجلالة ، لأنّ نداء { اللهمّ } لا يتبع عند جمهور النحاة لأنّه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال . ومن النحاة من أجاز إتْباعه ، وأيّاً ما كان فإنّ اعتباره نداء ثانياً أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى { ربّنا } مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران . وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريّين استعطافاً لله ليجيب دعاءهم .
ومعنى { تكون لنا عيداً } أي يكون تذكّر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كلّ سنة عيداً ، فإسناد الكون عيداً للمائدة إسناد مجازي ، وإنّما العيد اليوم الموافق ليوم نزولها ، ولذلك قال : { لأوّلنا وآخرنا } ، أي لأوّل أمّة النصرانية وآخرها ، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية .
والعيد اسم ليوم يعود كلّ سنة ، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار . وقد ورد ذكره في كلام العرب . وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم ، قال العجاج :
مثل يوم السباسب في قول النابغة :
يُحَيَّوْنَ بالرّيْحَان يوْمَ السَّبَاسب
وهو عيد الشعانين عند النصارى .
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر عيداً في قوله لأبي بكر لمَّا نهى الجواريَ اللاّء كنّ يغَنِّين عند عائشة « إنّ لكلّ قوم عيداً وهذا عيدنا » وسمّى يوم النحر عيداً في قوله : « شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجّة » .
والعيد مشتقّ من العَوْد ، وهو اسم على زنة فعل ، فجعلت واوه ياء لوقوعها إثر كسرة لازمة . وجمعوه على أعياد بالياء على خلاف القياس ، لأنّ قياس الجمع أنّه يردّ الأشياء إلى أصولها ، فقياس ، جمعه أعواد لكنَّهم جمعوه على أعياد ، وصغّروه على عُييد ، تفرقة بينه وبين جمع عُودٍ وتصغيره .
وقوله : { لأوّلنا } بدل من الضمير في قوله { لنا } بدلَ بعض من كلّ ، وعطف { وآخرنا } عليه يصيّر الجميع في قوة البدل المطابق . وقد أظهر لام الجرّ في البدل ، وشأن البدل أن لا يظهر فيه العامل الذي عمل في المبدل منه لأنّ كون البدل تابعاً للمبدل منه في الإعراب مناف لذكر العامل الذي عمل في المتبوع ، ولهذا قال النحاة : إنّ البدل على نية تكرار العامل ، أي العامل منوي غير مصرّح به . وقد ذكر الزمخشري في « المفصّل » أنّ عامل البدل قد يصرّح به ، وجعل ذلك دليلاً على أنّه منوي في الغالب ولم يقيّد ذلك بنوع من العوامل ، ومثّله بقوله تعالى : { لجعلنا لمنْ يكفر بالرحمان لبيُوتهم سُقفاً من فضّة } [ الزخرف : 33 ] ، وبقوله في سورة الأعراف ( 75 ) { قال الملأ الذين استكبروا . . للذين استضعفوا لمَنْ آمن منهم } وقال في الكشاف في هذه الآية { لأوّلنا وآخرنا } بدل من { لَنَا } بتكرير العامل . وجوّز البدل أيضاً في آية الزخرف ثم قال : ويجوز أن يكون اللاّمان بمنزلة اللاّمين في قولك : وهبت له ثوباً لقميصه . يريد أن تكون اللام الأولى متعلّقة ب { تكون } والثانية متعلّقة ب { عيدا } .
وقد استقريْتُ ما بلغت إليه من موارد استعماله فتحصّل عندي أنّ العامل الأصيل من فعل وشبهه لا يتكرّر مع البدل ، وأمّا العامل التكميلي لعامل غيره وذلك حرف الجرّ خاصّة فهو الذي ورد تكريره في آيات من القرآن من قوله تعالى : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } في سورة الأعراف ( 75 ) ، وآية سورة الزخرف ، وقوله : { ومن النخل من طلعها قنوان دانية } [ الأنعام : 99 ] . ذلك لأنّ حرف الجرّ مكمّل لعمل الفعل الذي يتعلّق هو به لأنّه يعدّي الفعل القاصر إلى مفعوله في المعنى الذي لا يتعدّى إليه بمعنى مصدره ، فحرف الجرّ ليس بعامل قوي ولكنّه مكمّل للعامل المتعلّق هو به .
ثمّ إنّ علينا أن نتطلّب الداعي إلى إظهار حرف الجرّ في البدل في مواقع ظهوره . وقد جعل ابن يعيش في « شرح المفصّل » ذلك للتأكيد قال : « لأن الحرف قد يتكرّر لقصد التأكيد » . وهذا غير مقنع لنا لأنّ التأكيد أيضاً لا بدّ من داع يدعو إليه .
فما أظهر فيه حرف الجرّ من هذه الآيات كان مقتضي إظهاره إمّا قصد تصوير الحالة كما في أكثر الآيات ، وأمّا دفع اللبس ، وذلك في خصوص آية الأعراف لئلاّ يتوهّم السامع أنّ من يتوهّم أنّ « من آمن » من المقول وأنّ « من » استفهام فيظنّ أنّهم يسألون عن تعيين من آمن من القوم ، ومعنى التأكيد حاصل على كلّ حال لأنّه ملازم لإعادة الكلمة . وأمّا ما ليس بعامل فهو الاستفهام وقد التزم ظهور همزة الاستفهام في البدل من اسم استفهام ، نحو : أين تنزل أفي الدار أم في الحائط ، ومنْ ذا أسعيد أم عَلِي .
وهذا العيد الذي ذكر في هذه الآية غير معروف عند النصارى ولكنّهم ذكروا أنّ عيسى عليه السلام أكل مع الحواريّين على مائدة ليلة عيد الفِصح ، وهي الليلة التي يعتقدون أنّه صلب من صباحها . فلعلّ معنى كونها عيداً أنّها صيّرت يوم الفصح عيداً في المسيحية كما كان عيداً في اليهودية ، فيكون ذلك قد صار عيداً باختلاف الاعتبار وإن كان اليوم واحداً لأنّ المسيحيين وفّقوا لأعياد اليهود مناسبات أخرى لائقة بالمسيحية إعفاء على آثار اليهودية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم أنه أجاب القوم إلى ما سألوه من مسألة ربه مائدة تنزل عليهم من السماء.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تَكُونُ لَنا عِيدا لأَوّلِنا وآخِرِنا"؛ فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا.
وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعا. عن ابن عباس، أنه قال: أكل منها يعني من المائدة حين وضعت بين أيديهم آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.
وقال آخرون: معنى قوله "عِيدا "عائدة من الله تعالى علينا حجة وبرهانا.
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: تكون لنا عيدا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه ونصلي له فيه، كما يعيّد الناس في أعيادهم. لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في العيد ما ذكرنا دون القول الذي قاله من قال معناه: عائدة من الله علينا وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به أولى من توجيهه إلى المجهول منه ما وجد إليه السبيل.
وأما قوله: "لأَوّلِنا وآخِرِنا" فإن الأولى من تأويله بالصواب قول من قال: تأويله للأحياء منا اليوم ومن يجيء بعدنا منا للعلة التي ذكرناها في قوله: "تَكُونُ لَنا عِيدا" لأن ذلك هو الأغلب من معناه.
"وآيَةً مِنْكَ": وعلامة وحجة منك يا ربّ على عبادك في وحدانيتك، وفي صدق على أني رسول إليهم بما أرسلتني به. "وَارْزُقْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ": وأعطنا من عطائك، فإنك يا ربّ خير من يعطي وأجود من تفضّل، لأنه لا يدخل عطاءه منّ ولا نكد.
وقد اختلف أهل التأويل في المائدة، هل أنزلت عليهم أم لا؟ وما كانت؟ فقال بعضهم: نزلت وكانت حوتا وطعاما، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداث منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى.
وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم.
وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة: ثم اختلف قائلو هذه المقالة؛ فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات.
وقال آخرون: إن القوم لما قيل لهم:"فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أعذّبُه أحَدا مِنَ العالَمِينَ "استعْفَوا منها فلم تنزل.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه. وإنما قلنا ذلك للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم غير من انفرد بما ذكرنا عنه. وبعد، فإن الله تعالى لا يخلف وعده ولا يقع في خبره الخلف، وقد قال تعالى مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك:"إنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ"، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره إني منزلها عليكم، ثم لا ينزلها لأن ذلك منه تعالى خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: إني منزلها عليكم، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول: "فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِن العالَمِينَ" ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة، وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى بذلك.
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا، وجائزٌ أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيلُ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) أي طعاما دائما. قال بعضهم: قوله: (تكون لنا عيدا) أي مجتمعا، وسمى يوم العيد عيدا لاجتماع الخلق. ثم قيل: نزلت يوم الأحد، فجعلوا ذلك اليوم يوم عيدهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وارزقنا" قيل في معناه قولان: أحدهما: واجعل ذلك رزقا لنا. الثاني: وارزقنا الشكر عليها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شَتَّان بين أمة طلب لهم نبيُّهم سكوناً بإنزال المائدة عليهم، وبين أمة بدأهم -سبحانه بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. وقال في صفتهم: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. وفَرْقٌ بين مَنْ زيادةُ إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تُبَاحُ لهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة... والعيد: المجتمع واليوم المشهود، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر والجمعة ونحوه. وهو من عاد يعود...
المسألة الثانية: تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا {نريد أن نأكل منها} وأخروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال {وارزقنا} وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله {وارزقنا} لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال {وأنت خير الرازقين} فقوله {ربنا} ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى، وقوله {أنزل علينا} انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله {تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله {وآية منك} إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله {وارزقنا} إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال. فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون. ثم قال: {وأنت خير الرازقين} وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها، اللهم اجعلنا من أهله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال عيسى} ونسبه زيادة في التصريح به تحقيقاً ولأنه لا أب له وتسفيهاً لمن أطراه أو وضع من قدره فقال: {ابن مريم اللهم} فافتتح دعاءه بالاسم الأعظم ثم بوصف الإحسان فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {أنزل علينا} وقدم المقصود فقال: {مائدة} وحقق موضع الإنزال بقوله: {من السماء} ثم وصفها بما تكون به بالغة العجب عالية الرتب فقال: {تكون} أي هي أو يوم نزولها {لنا عيداً} وأصل العيد كل يوم فيه جمع، ثم قيد بالسرور فالمعنى: نعود إليها مرة بعد مرة سروراً بها، ولعل منها ما يأتي من البركات حين ترد له عليه السلام -كما في الأحاديث الصادقة، ويؤيد ذلك قوله مبدلاً من "لنا ": {لأولنا وآخرنا}. ولما ذكر الأمر الدنيوي، أتبعه الأمر الديني فقال: {وآية منك} أي علامة على صدقي {وارزقنا} أي رزقاً مطلقاً غير مقيد بها؛ ولما كان التقدير: فأنت خير المسؤولين، عطف عليه قوله: {وأنت خير الرّازقين} أي فإنك تغني من تعطيه وتزيده عما يؤمله ويرتجيه بما لا ينقص شيئاً مما عندك، ولا تطلب منه شيئاً غير أن ينفع نفسه بما قويته عليه من طاعتك بذلك الرزق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما علم عيسى عليه السلام صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزا ولا تجربة دعا الله تعالى بهذا الدعاء، فناداه باسم الذات الجامع لمعنى الألوهية والقدرة والحكمة والرحمة وغير ذلك فقال: «اللهم» ومعناه يا الله، ثم باسم الرب الدال على معنى الملك والتدبير والتربية والإحسان خاصة، فقال: «ربنا» أي يا ربنا ومالكنا كلنا ومتولي أمورنا لأمر بينا، أنزل علينا مائدة سماوية، جثمانية أو ملكوتية، يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم، وتتغذى بها أبدانهم أو أرواحهم، ولو لم يقل من السماء لشمل الطلب إعطاءهم مائدة من الأرض ولو بطريقة عادية، فإن كل ما يعطى من الله تعالى يسمى إنزالا لتحقق معنى العلو المطلق غير المقيد بجهة من الجهات لله سبحانه فإنه هو العلي القاهر فوق عباده.
ثم وصف عيسى عليه السلام هذه المائدة بما أحب أن يستفاد من إنزالها فقال في وصفها «تكون لنا عيدا» أي عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا، أو تكون كرامة ومتاعا لنا في عيدنا. ثم قال: «لأولنا وآخرنا» وهو بدل من قوله: «لنا» الذي ذكر أولا لإفادة الحصر والاختصاص، أي عيدا لأول من آمن منا وآخر من آمن، والمتبادر أنه أراد بأولهم من كان آمن عند ذلك الدعاء وبآخرهم من يؤمن بعد نزول المائدة ممن يشهد لهم من شهدها وغيرهم، ويحتمل على بعد أن يراد أول جماعته الحاضرين معهم إيمانا وآخرهم، وروي أن المعنى يأكل منها آخر القوم كما يأكل أولهم أو كافية للفريقين.
وكلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور، وبمعنى الموسم الديني أو المدني الذي يجتمع له الناس في يوم معين أو أيام معينة من السنة للعبادة أو لشيء آخر من أمور الدنيا، ولذلك قال السدي في تفسير العبارة: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثوري: يعني يوما نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه عظة لنا ولمن بعدنا، ويصح أن يسمى طعام العيد عيدا على سبيل المجاز كما أشرنا إليه آنفا وقوله: «وآية منك» معناه وتكون آية وعلامة منك على صحة نبوتي ودعوتي، ولعل المراد بنص قوله: «منك» – مع العلم بأن كل شيء منه تعالى ولا سيما الآيات – النص على أن الآيات إنما تكون من الله وحده، أو أن تكون المائدة من لدنه تعالى بغير واسطة منه عليه السلام تشبه السبب كالآيات السابقة...
وأما قوله عليه السلام: {وارزقنا وأنت خير الرازقين (114)} فمعناه وارزقنا منها أو من غيرها ما تتغذى به أجسامنا أيضا وأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بحساب، وترزق من تشاء بغير حساب. ومن محاسنه أنه أخر ذكر فائدة المائدة المادية عن ذكر فائدتها الدينية الروحية، أو معناها وارزقنا الشكر عليها، وربما يقويه إنذار الله من يكفر بعد إنزالها إذ قال: {قال الله إني منزلها عليكم}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. وقوله: {اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة} اشتمل على نداءين، إذ كان قوله: {ربّنا} بتقدير حرفِ النداء. كرّر النداء مبالغة في الضراعة. وليس قوله: {ربّنا} بدلاً ولا بياناً من اسم الجلالة، لأنّ نداء {اللهمّ} لا يتبع عند جمهور النحاة لأنّه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال. ومن النحاة من أجاز إتْباعه، وأيّاً ما كان فإنّ اعتباره نداء ثانياً أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى {ربّنا} مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران. وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريّين استعطافاً لله ليجيب دعاءهم.
ومعنى {تكون لنا عيداً} أي يكون تذكّر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كلّ سنة عيداً، فإسناد الكون عيداً للمائدة إسناد مجازي، وإنّما العيد اليوم الموافق ليوم نزولها، ولذلك قال: {لأوّلنا وآخرنا}، أي لأوّل أمّة النصرانية وآخرها، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية.
والعيد اسم ليوم يعود كلّ سنة، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار. وقد ورد ذكره في كلام العرب. وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الواضح هنا أنّ الأُسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.