189- هو اللَّه الذي أنشأكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها ، واستمرت سلالتهما في الوجود . وكنتم زوجاً وزوجة ، فإذا تغشاها حملت محمولاً خفيفا هو الجنين عند كونه علقة ومضغة ، فلما ثقل الحمل في بطنها دعا الزوج والزوجة ربهما قائلين : واللَّه لئن أعطيتنا ولدا سليما من فساد الخلقة ، لنكونن من الشاكرين لنعمائك .
قوله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } ، يعني : آدم .
قوله تعالى : { وجعل } ، وخلق .
قوله تعالى : { منها زوجها } يعني : حواء .
قوله تعالى : { ليسكن إليها } ، ليأنس بها ، ويأوي إليها .
قوله تعالى : { فلما تغشاها } ، أي واقعها وجامعها .
قوله تعالى : { حملت حملاً خفيفاً } ، وهو أول ما تحمل المرأة من النطفة يكون خفيفاً عليها .
قوله تعالى : { فمرت به } ، أي : استمرت به ، وقامت وقعدت به ، ولم يثقلها .
قوله تعالى : { فلما أثقلت } ، أي : كبر الولد في بطنها ، وصارت ذات ثقل بحملها ، ودنت ولادتها .
قوله تعالى : { دعوا الله ربهما } ، يعني آدم وحواء .
قوله تعالى : { لئن آتيتنا } يا ربنا .
قوله تعالى : { صالحاً } ، أي : بشراً سوياً مثلنا .
قوله تعالى : { لنكونن من الشاكرين } ، قال المفسرون : لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل ، فقال لها : ما الذي في بطنك ؟ قالت : ما أدري ، قال : إني أخاف أن يكون بهيمة ، أو كلباً ، أو خنزيراً ، وما يدريك من أين يخرج ؟ من دبرك فيقتلك ؟ أو من فيك ؟ أو ينشق بطنك ؟ فخافت حواء من ذلك ، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك ، ثم عاد إليها فقال : إني من الله بمنزلة ، فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً سوياً مثلك ، ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث ؟ وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذكرت ذلك لآدم ، فقال لها : لعله صاحبنا الذي قد علمت ، فعاودها إبليس ، فلم يزل بهما حتى غرهما ، فلما ولدت سمياه عبد الحارث ، قال الكلبي : قال إبليس لها : إن دعوت الله فولدت إنساناً أتسمينه بي ؟ قالت : نعم ، فلما ولدت قال : سميه بي ، قالت : وما اسمك ؟ قال الحارث ، ولو سمى لها نفسه لعرفته ، فسمته عبد الحارث . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت حواء تلد لآدم فتسميه عبد الله ، وعبيد الله ، وعبد الرحمن ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس وقال : إن سركما إن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ، فولدت فسمياه عبد الحارث ، فعاش . وجاء في الحديث : ( خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ، ومرة في الأرض ) .
وقال ابن زيد : ولد لآدم ولد فسماه عبد الله ، فأتاهما إبليس فقال : ما سميتما ابنكما ؟ قالا : عبد الله ، وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله ، فمات ، فقال إبليس : أتظنان أن الله تارك عبده عندكما ، لا والله ، ليذهبن به كما ذهب بالآخرين ، ولكن أدلكم على اسم يبقى لكما ما بقيتما ، فسمياه عبد شمس ، والأول أصح ، فذلك قوله : { فلما آتاهما صالحا }
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن مظاهر قدرة الله وأدلة وحدانيته ، فذكرت الناس بمبدأ نشأتهم ، وكيف أن بعضهم قد انحرف عن طريق التوحيد إلى طريق الشرك ، وساقت ذلك في صورة القصة لضرب المثل من واقع الحياة فقالت : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ . . . } .
قوله - تعالى - { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } استئناف مسوق لبيان ما يقتضى التوحيد الذي هو المقصد الأعظم .
أى : إن الذي يستحق العبادة والخضوع ، والذى عنده مفاتح الغيب هو الله الذي خلقكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم ، وجعل من نوع هذه النفس وجنسها زوجها حواء ، ثم انتشر الناس منهما بعد ذلك كما قال - تعالى - { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } وقوله { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أى : ليطمئن إليهاويميل ولا ينفر ، لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس . وإذا كانت بعضا منه كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه .
فالأصل في الحياة الزوجية هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار وهذه نظرة الإسلام إلى تلك الحياة قال - تعالى - { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } والضمير المستكين في { لِيَسْكُنَ } يعود إلى النفس ، وكان الظاهر تأنيثه لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها وهى قوله { وَاحِدَةٍ } إلا أنه جاء مذكرا هنا باعتبار أن المراد من النفس هنا - آدم عليه السلام - " ولو أنث على حسب الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى ، فكان التذكير كما يقول الزمخشرى - أحسن طباقا للمعنى .
وقوله { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ } .
الغشاء : غطاء الشىء الذي يستره من فوقه ، والغاشية ؛ الظلة التي تظل الإنسان من سحابة أو غيرها . والتغشى كناية عن الجماع . أى فلما تغشى الزوج الذي هو الذكر الزوجى التي هى الأنثى وتدثرها لقضاء شهوتهما { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } . أى : حملت منه محمولا خفيفا وهو الجنين في أول حملة لا تجد المرأة له ثقلا لأنه يكون نطفة ثم مضغة ، ولا ثقل له يذكر في تلك الأحوال { فَمَرَّتْ بِهِ } أى : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير نقصان ولا إسقاط . أو المعنى : فاستمرت به كما كانت من قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت من غير مشقة وتلك هى المرحلة الأولى من مراحل الحمل .
وتأمل معى - أيها القارىء الكريم - مرة أخرى قوله - تعالى - : { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } لترى سمو القرآن في تعبيره ، وأدبه في عرض الحقائق . إن أسلوبه يلطف ويدق عند تصوير العلاقة بين الزوجين ، فهو يسوقها عن طريق كناية بديعة تتناسب مع جو السكن والمودة بين الزوجين وتتسق مع جو الستر الذي تدعو إليه الشريعة الإسلامية عند المباشرة بين الرجل والمرأة ، ولا نجد كلمة تؤدى هذه المعانى أفضل من كلمة { تَغَشَّاهَا } .
ثم تأتى المرحلة الثانية من مراحل الحمل فيعبر عنها القرآن بقوله : { فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } .
أى : فحين صارت ذات ثقل يسبب نمو الحمل في بطنها ، فالهمزة للصيرورة كقولهم : أتمر فلان وألبن أى : صار ذا تمر ولبن .
أى : وحين صارت الأم كذلك وتبين الحمل ، وتعلق به قلب الزوجين ، توجها إلى ربهما يدعوانه بضراعة وطمع بقولهما : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } أى لئن أعطيتنا نسلا سويا تام الخلقة ، يصلح للأعمال الإنسانية النافعة { لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } لك على نعمائك التي من أجلها هذه النعمة واستجاب الله للزوجين دعاءهما ، فرزقهما الولد الصالح فماذا كانت النتيجة ؟
لقد كانت النتيجة عدم الوفاء لله فيما عاهداه عليه ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا }
ثم جولة جديدة في قضية التوحيد . تأخذ في أولها صورة القصة ، لتصوير خطوات الإنحراف من التوحيد إلى الشرك في النفس . وكأنما هي قصة انحراف هؤلاء المشركين عن دين أبيهم إبراهيم . . ثم تنتهي إلى مواجهتهم بالسخف الذي يزاولونه في عبادة آلهتهم التي كانوا يشركون بها ، وهي ظاهرة البطلان لأول نظرة ولأول تفكير . وتختم بتوجيه الرسول [ ص ] إلى تحديهم هم وهؤلاء الآلهة التي يعبدونها من دون الله ، وأن يعلن التجاءه إلى الله وحده ، وليه وناصره :
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ، فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما . فتعالى الله عما يشركون ! أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ؟ ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ؟ )
( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ، فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) . .
إنها جولة مع الجاهلية في تصوراتها التي متى انحرفت عن العبودية لله الواحد لم تقف عند حد من السخف والضلال ؛ ولم ترجع إلى تدبر ولا تفكير ! وتصوير لخطوات الانحراف في مدارجه الأولى ؛ وكيف ينتهي إلى ذلك الضلال البعيد !
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها . فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به ، فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها . . أن يتوجهوا إلى الله ربهم ، معترفين له بالربوبية الخالصة ، عند الخوف وعند الطمع . . والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة ، وتركيب الزوجية وطبيعتها :
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) . .
فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها ، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى . وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها . . وهذه هي نظرة الإسلام لحقيقة الإنسان . ووظيفة الزوجية في تكوينه . وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الدين منذ أربعة عشر قرناً . يوم أن كانت الديانات المحرفة تعد المرأة أصل البلاء الإنساني ، وتعتبرها لعنة ونجساً وفخاً للغواية تحذر منه تحذيراً شديداً ، ويوم أن كانت الوثنيات - ولا تزال - تعدها من سقط المتاع أو على الأكثر خادماً أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الإطلاق .
والأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار . ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب ، وينتج فيه المحصول البشري الثمين ، ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه . ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة . كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً ، وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف ، أو تكراراً للاختصاصات والوظائف ؛ كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء
وبعد ذلك تبدأ القصة . . تبدأ من المرحلة الأولى . .
فلما تغشاها حملت حملاًخفيفا فمرت به . .
والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين . . ( فلما تغشاها ) . . تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن ؛ وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين . إيحاء " للإنسان " بالصورة " الإنسانية " في المباشرة . وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة ! . . كذلك تصوير الحمل في أول أمره ( خفيفاً ) . . تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه .
( فلما أثقلت دعوا الله ربهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
لقد تبين الحمل ، وتعلقت به قلوب الزوجين ، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً . . إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم ، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب . . وعند الطمع تستيقظ الفطرة ، فتتوجه إلى الله ، تعترف له بالربوبية وحده ، وتطمع في فضله وحده ، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود . لذلك ( دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ) . .
جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظُهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية ، وليست من القول المأمور به في قوله : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } [ الأعراف : 188 ] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلْم الرسول بالغيب ، وقد تم ذلك ، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم .
ومناسبة الانتقالَ جريان ذكر اسم الله في قوله : { إلاّ ما شاء الله } [ الأعراف : 188 ] وضمير الخطاب في { خلقكم } للمشركين من العرب ، لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير ، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر ، وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ بخلق أصله وهو ءادم وزوجه حواء تمهيداً للمقصود .
وتعليق الفعل باسم الجمع ، في مثله ، في الاستعمال يقع على وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الكل المجموعي ، أي جملة ما يصدق عليه الضمير ، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفسَ آدم الذي تولد منه جميع البشر .
وثانيهما : أن يكون المراد الكل الجميعي أي خَلق كل أحد منكم من نفس واحدة ، فتكون النفس هي الأب ، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى : { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] وقوله : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] .
ولفظ { نفس واحدة } وحْدَه يحتمل المعنيين ، لأن في كلا الخلقين امتناناً ، وفي كليهما اعتباراً واتعاضاً .
وقد جعل كثير من المفسرين النفسَ الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد ، وهو المأثور عن الحسن ، وقتادة ، ومشى عليه الفخر ، والبيضاوي وابنُ كثير ، والأصم ، وابن المنير ، والجبائي .
ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة ، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمّة ، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالاً كثيراً ونساء ، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء .
والذي يظهر لي أن في الكلام استخداماً في ضميري { تغشاها } وما بعده إلى قوله : { فيما آتاهما } وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين .
و ( من ) في قوله : { من نفس واحدة } ابتدائية .
وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل ، لأن المقصود جعل الأنثى زوجاً للذكر ، لا الإخبارُ عن كون الله خلقها ، لأن ذلك قد علم من قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } .
و ( من ) في قوله : { وجعل منها } للتبعيض ، والمراد : من نوعها ، وقوله : { منها } صفة ل { زوجها } قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بأن جعل الزوج وهو الأنثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان .
وقوله : { ليسكن إليها } تعليل لما أفادته ( من ) التبعيضية .
والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي : جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها ، ففي ذلك منة الإيناس بها ، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها ، فلو جعل الله التناسل حاصلاً بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله ، ولو جعله حاصلاً بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه ، بحيث لا تنصرف إليه إلاّ للاضطرار بعد التأمل والتردد ، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع ، وفُرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان .
وصيغت هذه الكنابة بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة .
وذُكِّر الضمير المرفوع في فعلي { يَسْكُنَ } و ( تغشى ) : باعتبار كون ما صْدق المعاد ، وهو النفس الواحدة ، ذكراً ، وأنّث الضمير المنصوب في { تغشاها } ، والمرفوع في { حَملتْ } . و ( مرتْ ) : باعتبار كون ما صْدق المعاد وهو زوجها أنثى ، وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر .
ووُصف الحمل ب { خفيفاً } إدماج ثان ، وهو حكاية للواقع ، فإن الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألماً ، وليس المراد هنا حملاً خاصّاً ، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله ، لأن المراد بالزوجين جنسهما ، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى ، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدىء خفيفاً كالعدم ، ثم يتزايد رويداً رويداً حتى يثقل ، وفي « الموطأ » « قال : مالك وكذلك ( أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف » ) : الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف ، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه { فبشرّناها بإسحاق } [ هود : 71 ] وقال : { حَملت حمْلاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتينا صالحاً لنكونن من الشاكرين } .
وحقيقة المرور : الاجتياز ، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى : { فلما كشفْنا عنه ضُره مر كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضرَ مسّه } [ يونس : 72 ] أي : نسى دعاءنا ، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله ، وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ] .
وقال تعالى : { وكأيّنْ من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها مُعرضون } [ يوسف : 105 ] .
فمعنى { فمرت به } لم تتفطن له ، ولم تفكر في شأنه ، وكل هذا حكاية للواقع ، وهو إدماج .
والإثْقالِ ثَقل الحمل وكلفته ، يقال أثقلت الحامل فهي مُثقل وأثقل المريض فهو مُثقل ، والهمزة للصيرورة مثل أوْرَقَ الشجر ، فهو كما يقال أقْرَبت الحامل فهي مُقْرب إذا أقرب أبان وضعها .
وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب : لما فيه من التذكير بتلك الأطوار ، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته ، وبلطفه بالإنسان .
وظاهر قوله : { دَعَوَا الله ربهما } أن كل أبوين يَدعوان بذلك ، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح ، سواء نطقاً بذلك أم أضمراه في نفوسهما ، فإن مدة الحمل طويلة ، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها ، وإنما يكون التمني منهم على الله ، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية ، وبأنه هو خالق المخلوقات ومُكونها ، ولا حظ للآلهة إلاّ في التصرفات في أحوال المخلوقات ، كما دلت علبه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى : { قل هل من شركائكم من يَبْدَؤا الخلق ثم يعيده } [ يونس : 34 ] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } في الأنعام ( 1 ) .
وإن حمل { دَعوا } على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر بيبالهم الدعاء .
وإجراء صفة { ربهما } المؤذنة بالرفق والإيجاد : للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله ، أي يَذكرَ أنه باللفظ أو ما يفيد مفاده ، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا : ربنا آتنا صالحاً .
وجملة : { لئن آتيتنا صالحاً } مبيّنة لجملة { دَعَوَا الله } .
و { صالحاً } وصف جرى على موصوف محذوف ، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره : ( ذكراً ) وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } [ النحل : 57 ] أي الذكور .
فالدعاء بأن يؤتَيا ذكراً ، وأن يكون صالحاً ، أي نافعاً : لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق ، ويَنذران : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ". يعني بالنفس الواحدة: آدم... ويعني بقوله: "وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها": وجعل من النفس الواحدة، وهو آدم، زوجها حوّاء... ويعني بقوله: "لِيَسْكُنَ إلَيْها": ليأوي إليها لقضاء الحاجة ولذّته. ويعني بقوله: "فَلَمّا تَغَشّاها "فلما تدثرها لقضاء حاجته منها فقضى حاجته منها، "حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفا"... يعني بخفة الحمل: الماء الذي حملته حوّاء في رحمها من آدم أنه كان حملاً خفيفا، وكذلك هو حمل المرأة ماء الرجل خفيف عليها. وأما قوله: "فَمَرّتْ بِهِ "فإنه يعني: استمرّت بالماء: قامت به وقعدت، وأتمت الحمل... [عن] الحسن..."فَمَرّتْ بِهِ": فاستمرّت به... عن قتادة:.."فَمَرّتْ بِهِ" استبان حملها...
وقال آخرون: معنى ذلك: فشكّت فيه...عن ابن عباس، في قوله: "فَمَرّتْ بِهِ" قال: فشكت أحملت أم لا.
ويعني بقوله: "فَلَمّا أثْقَلَتْ": فلما صار ما في بطنها من الحمل الذي كان خفيفا ثقيلاً ودنت ولادتها... "دَعَوَا اللّهَ رَبّهُما"، يقول: نادى آدم وحوّاء ربهما وقالا: يا ربنا "لئن آتيتنا صالحا لنكوننّ من الشاكرين".
واختلف أهل التأويل في معنى الصلاح الذي أقسم آدم وحوّاء عليهما السلام أنه إن آتاهما صالحا في حمل حوّاء لنكوننّ من الشاكرين. فقال بعضهم: ذلك هو أن يكون الحمل غلاما...
وقال آخرون: بل هو أن يكون المولود بشرا سويّا مثلهما... والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحوّاء أنهما دعوا الله ربهما بحمل حَوّاء، وأقسما لئن أعطاهما في بطن حوّاء صالحا ليكونان لله من الشاكرين. والصلاح قد يشمل معاني كثيرة: منها الصلاح في استواء الخلق، ومنها الصلاح في الدين، والصلاح في العقل والتدبير. وإذ كان ذلك كذلك، ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني الصلاح دون بعض، ولا فيه من العقل دليل وجب أن يَعُمّ كما عمه الله، فيقال إنهما قالا لئن آتيتنا صالحا بجميع معاني الصلاح.
وأما معنى قوله: "لَنَكُونَنّ مِنَ الشاكِرِينَ" فإنه لنكوننّ ممن يشكرك على ما وهبت له من الولد صالحا.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمَعْنِيِّ بِهَا: وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ (حَوَّاءُ الْأُمُّ الْأُولَى، حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا، فَلَمْ تَجِدْ لَهُ ثِقَلًا، وَلَا قَطَعَ بِهَا عَنْ عَمَلٍ، فَكُلَّمَا اسْتَمَرَّ بِهَا ثَقُلَ عَلَيْهَا، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهَا: إنْ كُنْت تَعْلَمِينَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِك من أَيْنَ يَخْرُجُ من جِسْمِك؛ إنَّهُ لَيَخْرُجُ من أَنْفِك، أَوْ من عَيْنِك، أَوْ من فَمِك، وَرُبَّمَا كَانَ بَهِيمَةً؛ فَإِنْ خَرَجَ سَلِيمًا يُشْبِهُك تُطِيعِينَنِي فِيهِ؟ قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ، فَقَالَ لَهَا: هُوَ صَاحِبُك الَّذِي أَخْرَجَك من الْجَنَّةِ. فَلَمَّا وَلَدَتْ -فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ- سَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ بِإِشَارَةِ إبْلِيسَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}. وَذَلِكَ مَذْكُورٌ وَنَحْوُهُ فِي ضَعِيفِ الْحَدِيثِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ قَلْبٌ؛ فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنْ كَانَ غَرَّهُمَا بِاَللَّهِ الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ من جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، وَمَا كَانَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقْبَلَا لَهُ نُصْحًا وَلَا يَسْمَعَا مِنْهُ قَوْلًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جِنْسُ الْآدَمِيِّينَ؛ فَإِنَّ حَالَهُمْ فِي الْحَمْلِ وَخِفَّتِهِ وَثِقَلِهِ إلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذَا خَفَّ عَلَيْهِمْ الْحَمْلُ اسْتَمَرُّوا بِهِ؛ فَإِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ نَذَرُوا كُلَّ نَذْرٍ فِيهِ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَلَدُ جَعَلُوا فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَعَمَلِهِ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى الْأَصْنَامِ، وَيَجْعَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ، وَأَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعُمُومُهَا الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ مُتَنَاوَلَاتِهَا، وَيَسْلَمُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ عَنْ النَّقْصِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجُهَّالِ الْبَشَرِ، فَكَيْفَ بِسَادَتِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{هو الذي خلقكم من نفس واحدة} أي خلقكم من جنس واحد أو حقيقة واحدة صورها بشرا سويا، {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} سكونا زوجيا...
عبر التنزيل عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفي سورة الروم بالسكون وذلك أن المرء إذا بلغ سن الحياة الزوجية يجد في نفسه اضطرابا خاصا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحدا ذلك الاقتران والاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به، ولذلك قال بعده {فلما تغشّاها...} الغشاء: غطاء الشيء الذي يستره من فوقه، والغاشية: الظلة تظله من سحابة وغيرها {والليل إذا يغشى} [الليل: 1] أي يحجب الأشياء ويسترها بظلامه، وتغشاها أتاها كغشيها ويزيد ما تعطيه صيغة التفعل من جهد، وهو كناية نزيهة عن أداء وظيفة الزوجية تشير إلى أن مقتضى الفطرة وأدب الشريعة فيها الستر، ولفظ النفس مؤنث فأنث في أول الآية، ولفظ الزوج يطلق على الذكر والأنثى ولهذا ذكّر هنا فاعل التغشي وأنث مفعوله.
أي فلما تغشى الزوج الذي هو الذكر الزوج التي هي الأنثى {حملت حملا خفيفا} أي علقت منه وهو الحبل، والحمل بالفتح يطلق على المصدر وعلى المحمول والمشهور أنه خاص بما كان في بطن أو على شجرة وأن ما حمل على ظهر ونحوه يسمى حملا بكسر الحاء. والحمل هاهنا يحتمل المعنيين وهو يكون في أول العهد خفيفا لا تكاد المرأة تشعر به، وقد تستدل عليه بارتفاع حيضتها {فمرت به} أي فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق كما قاله الزمخشري أو استمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استئصال.
{فلما أثقلت} أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها {دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين} أي توجها إلى الله تعالى ربهما يدعوانه فيما انحصر همها فيه بعد تمام الحمل على سلامة بأن يعطيهما ولدا صالحا أي سويا تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال البشرية النافعة- ولا ينبغي أن يدعو العبد غير ربه، فيما لا يملك هو ولا غيره من العبيد أسبابه، دعواه مخلصين مقسمين له على ما وطنا عليه أنفسهما من الشكر له على هذه النعمة قائلين لئن أعطيتنا ولدا صالحا لنكونن من القائمين لك بحق الشكر قولا وعملا واعتقادا وإخلاصا، كما يدل عليه الوصف المعرّف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها. فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به، فلما أثقلت دعوا الله ربهما: لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين).. إنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. أن يتوجهوا إلى الله ربهم، معترفين له بالربوبية الخالصة، عند الخوف وعند الطمع.. والمثل المضروب هنا للفطرة يبدأ من أصل الخليقة، وتركيب الزوجية وطبيعتها: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها).. فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها، وإن اختلفت وظيفتها بين الذكر والأنثى. وإنما هذا الاختلاف ليسكن الزوج إلى زوجه ويستريح إليها... الأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار. ليظلل السكون والأمن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ الزغب، وينتج فيه المحصول البشري الثمين، ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والإضافة إليه. ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة. كما أنه لم يجعله شقاقاً ونزاعاً، وتعارضاً بين الاختصاصات والوظائف، أو تكراراً للاختصاصات والوظائف؛ كما تخبط الجاهليات في القديم والحديث سواء وبعد ذلك تبدأ القصة.. تبدأ من المرحلة الأولى.. فلما تغشاها حملت حملاً خفيفا فمرت به.. والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشف عند تصوير العلاقة الأولية بين الزوجين.. (فلما تغشاها).. تنسيقاً لصورة المباشرة مع جو السكن؛ وترقيقاً لحاشية الفعل حتى ليبدو امتزاج طائفين لا التقاء جسدين. إيحاء "للإنسان "بالصورة "الإنسانية" في المباشرة. وافتراقها عن الصورة الحيوانية الغليظة!.. كذلك تصوير الحمل في أول أمره (خفيفاً).. تمر به الأم بلا ثقلة كأنها لا تحسه. ثم تأتي المرحلة الثانية: (فلما أثقلت دعوا الله ربهما: لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين).. لقد تبين الحمل، وتعلقت به قلوب الزوجين، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليماً صحيحاً صبوحاً.. إلى آخر ما يطمع الآباء والأمهات أن تكون عليه ذريتهم، وهي أجنة في ظلام البطون وظلام الغيوب.. وعند الطمع تستيقظ الفطرة، فتتوجه إلى الله، تعترف له بالربوبية وحده، وتطمع في فضله وحده، لإحساسها اللدني بمصدر القوة والنعمة والإفضال الوحيد في هذا الوجود. لذلك (دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وظاهر قوله: {دَعَوَا الله ربهما} أن كل أبوين يَدعوان بذلك، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبوان مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح، سواء نطقاً بذلك أم أضمراه في نفوسهما، فإن مدة الحمل طويلة، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها، وإنما يكون التمني منهم على الله، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية، وبأنه هو خالق المخلوقات ومُكونها، ولا حظ للآلهة إلاّ في التصرفات في أحوال المخلوقات، كما دلت عليه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى: {قل هل من شركائكم من يَبْدَؤا الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} في الأنعام (1)...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وانتقل كتاب الله إلى وصف حالة يختلط فيها الإيمان بالشرك عند كثير من الناس، ذلك أن الله تعالى طبع الإنسان، ذكرا وأنثى، على حب الذرية والرغبة في إنجاب الأولاد، ومن أجل تحقيق هذه الرغبة يستعمل بعض الناس لجهلهم كل الوسائل الممكنة، حتى الوسائل غير المشروعة، لاسيما إذا طال على بعضهم الانتظار وامتد به الأمد، وهكذا يصبح الزوج والزوجة في قلق واضطراب، تارة يستجيبان لفطرة الله فيتوجهان بدعائهما ورجائهما في إنجاب الولد إلى الله، وتارة ينحرفان عن الفطرة فيعقدان الأمل والرجاء على غير الله، ويظهر أثر ذلك فيما يقدمه الأب أو الأم من نذر إلى غير الله، ومن اعتقاد بأن ذلك الغير كان له تأثير مباشر في تحقيق مناه، أيا كان ذلك الغير، صنما أو إنسانا، حيا أو ميتا...