قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } الآية .
اعلم أنَّهُ تعالى رجع هنا إلى تقرير التَّوحيدِ ، وإبطال الشرك .
قال ابنُ عبَّاسٍ : المرادُ بالنفس الواحدة آدم - عليه الصلاة والسلام{[17067]} - { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] أي حواء خلقها اللَّهُ من ضلع آدم - عليه الصلاة والسلام - من غير أذَى ليسكن إليها أي : ليأنس بها ويأوي إليها قالوا : والحكمة في كونها مخلوقة من نفس آدم : أنَّ الجنسَ أميل إلى جِنْسهِ .
قال ابنُ الخطيبِ : وهذا مشكل ؛ لأنَّهُ تعالى لمَّا كان قادراً على خلق آدم ابتداء فما الذي يحملنا على أن نقُولَ خلق حواء من جزء من أجزاء آدم ؟ ولِمَ لم نقل إنَّهُ تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء ؟ وأيضاً فالقادرُ على خلق الإنسان من عظم واحد لِمَ لا يقدر على خلقه ابتداء ؟ وأيضاً فقولهم إنَّ عدد أضلاع الجانب الأيسرِ من الذَّكرِ أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن بشيء واحد ، على خلاف الحسن والتَّشريح . وإذا عرف ذلك فنقول : المرادُ من كلمة مِنْ في قوله : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أنَّ الإشارة إلى شيءٍ تكون تارة بحسب شخصه ، وتارة بحسب نوعه .
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ " هَذَا وضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصلاة إلاَّ بِهِ "
والمرادُ نوعه لا ذلك الفرد المعين ، وقال - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - " في يوم عاشوراء هَذَا هُو اليومُ الذي أظهر اللَّهُ فيه موسى على فِرعون " والمُرادُ : نوعه .
وقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } [ البقرة : 35 ] والمرادُ نوعها لا شخصها فكذا ههنا .
{ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : وخلق من نوع الإنسان زوجٍ آدم ، أي : جعل زوج آدم إنساناً مثله ، " فلمَّا تَغشَّاهَا " أي واقعها وجامعها : { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } وهو أوَّلُ ما تحمل المرأة من النُّطفةِ يكون خفيفاً عليها : " فَمَرَّتْ بِهِ " أي : استمرَّت به ، وقامت وقعدت به لم يثقلها .
قوله حَمْلاً المشهورُ أنَّ الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة . وحكى أبُو عُبيدٍ في حمل المرأةِ : حَمْل وحِمْل .
وحكى يعقوب في حمل النَّخْلةِ : الكسر ، والحمل في الآية يجوزُ أن يُرادَ به المصدرُ فينتصب انتصابهُ ، وأن يُرادَ به نفسُ الجنين ، وهو الظَّاهِرُ ، فينتصب انتصابَ المفعُولِ به ، كقولك : حَمَلْتُ زيداً .
قوله : " فَمَرَّتْ " الجمهور على تشديد الراء ، أي : استمرت به ، أي : قامت وقعدت .
وقيل : هو على القلب أي : فمَرَّ بها أي : استمرَّ ودام .
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ{[17068]} : وأبو العالية ويحيى بن يعمر ، وأيوب : فَمَرَتْ خفيفه الرَّاءِ ، وفيها تخريجان :
أحدهما : أنَّ أصلها التشديد ، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مُكرر فتركوه ، وهذه كقراءة : { وَقَرْنَ } [ الأحزاب : 33 ] بفتح القاف إذَا جعلناهُ من القرارِ .
والثاني : أنه من المرية وهو الشَّكُ ، أي : فشكَّت بسببه أهو حَمْلٌ أم مرض ؟
وقرأ عبدُ الله{[17069]} بن عمرو بن العاص ، والجحدريُّ : فَمَارَتْ بألف وتخفيف الرَّاءِ ، وفيها أيضاً وجهان ، أحدهما : أنَّها من : " مَارَ ، يمُورُ " إذا جاء وذهب ، ومَارتِ الرِّيحُ ، أي : جاءت وذهَبَتْ وتصرَّفَتْ في كُلِّ وجهٍ ، ووزنه حينئذٍ " فَعَلَتْ " والأصلُ " مَوَرَتْ " ثم قلبت الواو ألفاً فهو ك : طَافَتْ ، تَطُوفُ .
والثاني : أنَّها من المريةِ أيضاً قاله الزمخشريُّ ، وعلى هذا فوزنه " فَاعلَتْ " .
والأصْلُ " مَارَيتْ " ك " ضَارَبَتْ " فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتح ما قبله فقُلِبَ ألفاً ، ثمَّ حُذفتْ لالتقاء الساكنين ، فهو ك : بَارَتْ ، ورَامَتْ . وقرأ سعدُ{[17070]} بنُ أبي وقَّاصٍ ، وابنُ عبَّاسٍ أيضاً والضحَّاكُ : فاسْتَمَرَّتْ بِهِ وهي واضحة .
وقرأ أبيّ{[17071]} فَاسْتمَارَتْ وفيها الوجهان المتقدمان في " فَمَارَتْ " أي : أنَّهُ يجوز أن يكون من " المِرْيَة " ، والأصلُ : اسْتَمْريَتْ وأن يكون من " المَوْرِ " ، والأصلُ : اسْتَمْورَتْ .
قوله : " فَلمَّا أثقَلَتْ " أي : صَارتْ ذات ثقل ودنت ولادتها كقولِهِمْ ألبَنَ الرَّجُلُ ، وأتْمَرَ أي : صار ذَا لبَنٍ وتَمْرٍ .
وقيل : دخلت في الثقل ؛ كقولهم : أصبح وأمسى ، أي : دخل في الصَّباح والمساءِ ، وقرئ{[17072]} أثْقِلَتْ مبنيّاً للمفعُولِ .
قوله : " دَعَوا اللَّهَ " متعلَّقُ الدُّعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسميَّةِ عليه ، أي : دعواهُ في أن يُؤتيهُمَا ولداً صالحاً .
قوله : " لَئِنْ آتيْتَنَا " هذا القسمُ وجوابه فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ مُفَسِّرٌ لجملة الدُّعاءِ كأنه قيل :
فقيل : كان دعاؤهما كيت وكيت ؛ ولذلك قلنا إنَّ هذه الجملة دالةٌ على متعلق الدُّعاءِ .
والثاني : أنَّهُ معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، تقديره : فقالا لئن آتيتنا ، ولنكُوننَّ جوابُ القسم ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ على ما تقرَّر .
وصَالِحاً فيه قولان أظهرهما : أنه مفعولٌ ثان ، أي : ولداً صالحاً .
والثاني : قال مكي إنه نعتُ مصدر محذوف ، أي : إيتاءً صالحاً ، وهذا لا حاجة إليه ، لأنه لا بد من تقدير المؤتى لهما .
قال المفسِّرون : المعنى لَئِنْ آتيتنا صالحاً بشراً سويّاً مثلنا لنكوننَّ من الشَّاكرين .
وكانت القصةُ أنَّهُ لمَّا حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما الذي في بطنكِ ؟
قالت : ما أدْرِي ، قال : إني أخافُ أن يكُون بهيمةً ، أو كلباً ، أو خنزيراً ، وما يُدريك من أين يَخْرُجُ ؟ أمن دبرك فيقتلك ، أو من فيك أو ينشق بطنك ؟ فخافت حوَّاءُ من ذلك وذكرته لآدم ، فلم يزالاَ في هُمّ من ذلك ، ثمَّ عاد إليها فقال : إني من اللَّهِ بمنزلةٍ فإن دعوتُ الله أن يجعله خلقاً سويّاً مثلك ، ويُسهِّل عليك خروجه تسميه عبد الحارثِ .
وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذكرت ذلك لآدم .
فقال : لعلَّهُ صاحبنا الذي قد علمت ؛ فعاودها إبليس ، فلم يزل بها حتَّى غرَّها ؛ فلمَّا ولدْتهُ سمَّيَاهُ عبد الحارثِ .
وروي عن ابن عباسٍ ، قال : كانت حوَّاءُ تلدُ فتسميه عبد الله ، وعبيد الله ، وعبد الرحمن فيصيبهم الموتُ ، فأتاهما إبليسُ ، وقال : إن سَرَّكُمَا أن يعيش لكما ولدٌ فسمياه عبد الحارث ؛ فولدت فسمياهُ عبد الحارث فعاش ، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض .
واعلم أن هذا التأويل فاسدٌ لوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } فدلَّ على أن الذين أتوا بهذا الشركِ جماعةٌ .
وثانيها : قال بعدهُ : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وهذا يدلُّ على أن المقصود من الآية : الرَّد على من جعل الأصنام شركاء للَّهِ تعالى ، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر .
وثالثها : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركُون من لا يخلُقُ ؛ لأن العاقلَ إنَّما يُذْكَرُ بصيغة من .
ورابعها : أنَّ آدم - عليه السَّلام - كان من أشدّ النَّاس معرفة بإبليس ، وكان عالماً بجميع الأسماءِ كما قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] فلا بد وأن يكُون قد علم أن اسم إبليس هو الحارثُ ، فمع العداوة الشَّديدة التي بينهُمَا ومع علمه بأنَّ اسم إبليس الحارث كيف يسمِّي ولدهُ بعبد الحارث ؟ وكيف ضاقت عليه الأسماءُ بحيث لم يجد سوى هذا الاسم ؟
وخامسها : أنَّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءهُ إنسان ، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار ، فآدم - عليه السلام - مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا } وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر ؟
وسادسها : أن بتقدير أن آدم عليه الصلاة والسلام ، سماه بعبد الحارث ، فلا يخلو إمَّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له ، بمعنى أنَّهُ أخبر بهذا اللفظ أنَّهُ عبد الحارثِ ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم - عليه الصلاة والسلام - اعتقد أنَّ لله شريكاً في الخلق والإيجاد ، وذلك يُوجبُ الجزم بكُفْر آدم ، وذلك لا يقوله عاقل ؛ فثبت فساد هذا القول .
وإذا عُرِفَ ذلك لنقُولُ في تأويل الآية وجوه :
الأول : قال القفالُ{[17073]} - رحمه الله - إنَّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضَرْب المثل وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك ، كأنَّهُ تعالى يقولُ : هو الذي خلق كُلَّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلمَّا تغشَّى الزَّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزَّوج والزَّوجة ربهما إن أتانا ولداً صالحاً سويّاً لنكونن من الشَّاكرين لآلائك ونعمائك ، فلمَّا آتاهُمَا اللَّهُ ولداً صالحاً سويّاً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ؛ لأنَّهُم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطَّبائعِ كما يقولُ الطبيعيون ، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المُنجمين ، وتارة إلى الأصنامِ والأوثان كقول عبدة الأصنام .
ثم قال تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزَّه الله تعالى عن ذلك الشِّرْكِ . وهذا قول عكرمة .
والثاني : أن يكون الخطابُ لقريش الذين كانُوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " وهم آل أقصى " .
والمرادُ من قوله : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ } قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلمَّا آتاهما ما طلبا من الولد الصَّالح السَّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة : عبد منافٍ ، وعبد العزَّى ، وعبد قُصيٍّ وبعد اللاَّتِ وعبد الدَّار ، وجعل الضمير في يُشركُونَ لهما ، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك .
الثالث : إن سلَّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصَّةِ آدم -عليه السَّلام- .
وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه :
أحدها : أن المشركين كانوا يقولون : أنَّ آدم - عليه الصلاة والسلام - كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - وحكى عنهما أنهما قالا : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } أي : ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولداً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النِّعمة .