فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتۡ حَمۡلًا خَفِيفٗا فَمَرَّتۡ بِهِۦۖ فَلَمَّآ أَثۡقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنۡ ءَاتَيۡتَنَا صَٰلِحٗا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (189)

{ هو الذي خلقكم } خطاب لأهل مكة { من نفس واحدة } أي آدم قاله جمهور المفسرين والتأنيث باعتبار لفظ النفس وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها بما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية وأنه المتفرد بالإلهية .

{ وجعل منها } أي من هذه النفس وقيل من جنسها كما في قوله تعالى : { جعل لكم من أنفسكم أزواجا } والأول أولى { زوجها } وهي حواء خلقها من ضلع من أضلاعه { ليسكن } علة للجعل أي لأجل أن يأنس { إليها } ويطمئن بها فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس ، وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما فقال :

{ فلما تغشاها } أي آدم زوجه والتغشي كناية عن الوقاع أي فلما جامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها { حملت حملا خفيفا } أي علقت به بعد الجماع ، والمشهور أن الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على شجرة ، والحمل بالكسر خلافه وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح وهو هنا إما مصدر فينتصب انتصاب المفعول المطلق أو الجنين المحمول فيكون مفعولا به ، ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخف منه عند كونه علقة ، وعند كونه علقة أخف منه عند كونه مضغة ، وعند كونه مضغة أخف مما بعده ، وقيل إنه خف عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه ولم تجد منه ثقلا كما تجده الحوامل من النساء لقوله :

{ فمرت به } أي استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد وتمضي في حوائجها ، لا تجد به ثقلا ولا مشقة ولا كلفة ، وقرئ فمرت به بالتخفيف أي فجزعت لذلك ، وقرئ فمارت به المور وهو المجيء والذهاب ، قال سمرة : حملا خفيفا لم يستبن فمرت به لما استبان حملها ، وقال ابن عابس : فمرت به أي شكت أحملت أم لا .

وعن الحسن سئل عن قوله فمرت به قال : لو كنت عربيا لعرفتها إنما هي استمرت بالحمل ، وعن السدي قال : حملا خفيفا هي النطفة فمرت به أي استمرت به ، وبه قال ابن عباس وعن ميمون بن مهران قال : استخفته والوجه الأول أولى لقوله :

{ فلما أثقلت } فإن معناه فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها { دعوا الله } جواب لما أي دعا آدم وحواء { ربهما } ومالك أمرهما { لئن آتيتنا } ولدا { صالحا } عن أبي صالح قال : أشفقا أن يكون بهيمة فقالا لئن آتيتنا بشرا سويا ، وعن مجاهد نحوه ، وعن الحسن قال : غلاما سويا أي متسوي الأعضاء خليا من العوج والعرج وغير ذلك ، وقيل ولدا ذكرا لأن الذكورة من الصلاح { لنكونن من الشاكرين } لك على هذه النعمة ، وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب{[807]} .


[807]:- قال: "الطبري" 13/307- 308: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحواء أنهما دعوا الله ربهما بحمل حواء، وأقسما لئن أعطاهما ما في بطن حواء صالحا، ليكونان لله من الشاكرين، والصلاح قد يشمل معاني كثيرة، منها الصلاح في استواء الخلق، ومنها الصلاح في الدين، والصلاح في العقل والتدبير، وإذ كان ذلك كذلك ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني الصلاح دون بعض، ولا فيه من العقل دليل، وجب أن يعم كما عمه الله فيقال: إنهما قالا: لئن آتيتنا صالحا بجميع معاني الصلاح.