البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَاۖ فَلَمَّا تَغَشَّىٰهَا حَمَلَتۡ حَمۡلًا خَفِيفٗا فَمَرَّتۡ بِهِۦۖ فَلَمَّآ أَثۡقَلَت دَّعَوَا ٱللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنۡ ءَاتَيۡتَنَا صَٰلِحٗا لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (189)

{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها } .

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث ذكر ابتداء خلق الإنسان وإنشائه تنبيهاً على أن الإعادة ممكنة ، كما أن الإنشاء كان ممكناً وإذا كان إبرازه من العدم الصرف إلى الوجود واقعاً بالفعل وإعادته أحرى أن تكون واقعة بالفعل ، وقيل : وجه المناسبة أنه لما بين الذين يلحدون في أسمائه ويشتقون منها أسماء لآلهتهم وأصنامهم وأمر بالنظر والاستدلال المؤدي إلى تفرده بالإلهية والربوبية بين هنا أن أصل الشرك من إبليس لآدم وزوجته حين تمنيا الولد الصالح وأجاب الله دعاءهما فأدخل إبليس عليهما الشرك بقوله سمياه عبد الحرث فإنه لا يموت ففعلا ذلك ، وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه لما أمر بالنظر في الملكوت الدال على الوحدانية وقسم خلقه إلى مؤمن وكافر ونفى قدرة أحد من خلقه على نفع نفسه أو ضرّها رجع إلى تقرير التوحيد انتهى ، والجمهور على أن المراد بقوله { من نفس واحدة } آدم عليه السلام فالخطاب بخلقكم عام والمعنى أنكم تفرعتم من آدم عليه السلام وأن معنى وجعل منها زوجها هي حواء و { منها } إما من جسم آدم من ضلع من أضلاعه وإما أن يكون من جنسها كما قال تعالى { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } وقد مرّ هذان القولان في أول النساء مشروحين بأكثر من هذا ويكون الإخبار بعد هذه الجملة عن آدم وحواء ويأتي تفسيره إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا القول فسّر الزمخشري الآية وقد رد هذا القول أبو عبد الله الرازي وأفسده من وجوه .

الأول { فتعالى الله عما يشركون } فدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة .

الثاني أنه قال بعده { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } وهذا ردّ على من جعل الأصنام شركاء ولم يجر لإبليس في هذه الآية ذكر ، الثالث لو كان المراد إبليس لقال أيشركون من لا يخلق ثم ذكر الرازي ثلاثة وجوه أخر من جهة النظر يوقف عليها من كتابه .

وقال الحسن وجماعة الخطاب لجميع الخلق والمعنى في هو { الذي خلقكم من نفس واحدة } من هيئة واحدة وشكل واحد { وجعل منها زوجها } أي من جنسها ثم ذكر حال الذكر والأنثى من الخلق ومعنى { جعلا له شركاء } أي حرفاه عن الفطرة إلى الشرك كما جاء : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه » .

وقال القفال نحو هذا القول قال هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها وذكر حال الزوج والزوجة { وجعلا } أي الزوج والزوجة ، لله تعالى شركاء فيما آتاهما لأنهما تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجّمين وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام انتهى ، وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية ، وقيل الخطاب بخلقكم خاص وهو لمشركي العرب كما يقرّبون المولود للات والعزى والأصنام تبركاً بهم في الابتداء وينقطعون بأملهم إلى الله تعالى في ابتداء خلق الولد إلى انفصاله ثم يشركون فحصل التعجب منهم ، وقيل : الخطاب خاص أيضاً وهو لقريش المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم و { نفس واحدة } هو قضى منها أي من جنسها زوجة عربية قرشية ليسكن إليها والصالح الولد السوي { جعلا له شركاء } حيث سميا أولادهما الأربعة عبد مناف وعبد العزّى وعبد قصي وعبد الدار والضمير في { يشركون } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك انتهى .

{ ليسكن إليها } ليطمئن ويميل ولا ينفر لأنّ الجنس إلى الجنس أمْيَل وبه آنس وإذا كان منها على حقيقته فالسكون والمحبة أبلغ كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه أو أكثر لكونه بعضاً منه وأنث في قوله { منها } ذهاباً إلى لفظ النفس ثم ذكر في قوله { ليسكن } حملاً على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذكر آدم أو غيره على اختلاف التأويلات وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى .

{ فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به } إن كان الخبر عن آدم فخلق حواء كان في الجنة وأما التغشّي والحمل فكانا في الأرض والتغشي والغشيان والإتيان كناية عن الجماع ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالى ويحتمل أن يكون { حملاً } مصدراً وأن يكون ما في البطن والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس الشجرة وبالكسر ما كان على ظهر أو على رأس غير شجرة ، وحكى يعقوب في حمل النخل ، وحكى أبو سعيد في حمل المرأة حمل وحمل ، وقال ابن عطية : الحمل الخفيف هو المني الذي تحمله المرأة في فرجها ، وقرأ حماد بن سلمة عن ابن كثير { حملاً } بكسر الحاء ، وقرأ الجمهور { فمرت به } ، قال الحسن : أي استمرت به ، وقيل : هذا على القلب أي فمر بها أي استمر بها ، وقال الزمخشري : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق ، وقيل : { حملت حملاً خفيفاً } يعني النطفة { فمرت به } فقامت به وقعدت فاستمرت به انتهى ، وقرأ ابن عباس فيما ذكر النقاش وأبو العالية ويحيى بن يعمر وأيوب { فمرت به } خفيفة الراء من المرية أي فشكت فيما أصابها أهو حمل أو مرض ، وقيل معناه استمرت به لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه نحو وقرن فيمن فتح من القرار ، وقرأ عبد الله بن عمرو بن العاصي والجحدري : فمارت به بألف وتخفيف الراء أي جاءت وذهبت وتصرفت به كما تقول مارت الريح موراً ووزنه فعل ، وقال الزمخشري : من المرية كقوله تعالى

{ أفتمارونه } ومعناه ومعنى المخففة فمرت وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت به ووزنه فاعل ، وقرأ عبد الله فاستمرت بحملها ، وقرأ سعد بن أبي وقاص وابن عباس أيضاً والضحاك فاستمرت به ، وقرأ أبي بن كعب والجرمي فاستمارت به والظاهر رجوعه إلى المرية بني منها استفعل كما بنى منها فاعل في قولك ماريت .

{ فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين } .

أي دخلت في الثقل كما تقول أصبح وأمسى أو صارت ذات ثقل كما تقول أتمر الرجل وألبن إذا صار ذا تمر ولبن ، وقال الزمخشري : أي حان وقت ثقلها كقوله أقربت ، وقرىء أثقلت على البناء للمفعول ربهما أي مالك أمرهما الذي هو الحقيق أن يدعى ومتعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم أي دعوا الله ورغبا إليه في أن يؤتيَهما صالحاً ثم أقسما على أنهما يكونان من الشاكرين إن آتاهما صالحاً لأن إيتاء الصالح نعمة من الله على والديه كما جاء في الحديث : « إن عمل ابن آدم ينقطع إلا من ثلاث » فذكر الولد الصالح يدعو لوالده فينبغي الشكر عليها إذ هي من أجل النعم ومعنى صالحاً مطيعاً لله تعالى أي ولداً طائعاً أو ولداً ذكراً لأنّ الذكورة من الصلاح والجودة ، قال الحسن : سمياه غلاماً ، وقال ابن عباس : بشراً سوياً سليماً ، ولنكونن جواب قسم محذوف تقديره وأقسما لئن آتيتنا أو مقسمين لئن آتيتنا وانتصاب صالحاً على أنه مفعول ثان لآتيتنا وفي المشكل لمكي أنه نعت لمصدر أي ابناً صالحاً .