قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت } ، أي : استقم على دين ربك ، والعمل به ، والدعاء إليه كما أمرت ، { ومن تاب معك } ، أي : ومن آمن معك فليستقيموا ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغان الثعلب . أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ، أنا والدي إملاء ، ثنا أبو بكر محمد بن إسحاق ، ثنا محمد بن العلاء بن كريب ، ثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : " قلت ، يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال قل آمنت بالله ثم استقم " .
قوله تعالى : { ولا تطغوا } لا تجاوزوا أمري ولا تعصوني ، وقيل : معناه ولا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت ونهيت .
قوله تعالى : { إنه بما تعملون بصير } ، لا يخفى عليه من أعمالكم شيء . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية ، ولذلك قال : " شيبتني هود وأخواتها " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد ابن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام بن مطهر ثنا عمر بن علي ، عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة " .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه بالتزام الصرام المستقيم فقال - سبحانه - : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
والفاء للتفريع على ما تقدم من الأوامر والنواهى .
والاستقامة - كما يقول القرطبى - هي الاستمرار فى جهة واحدة من غير أخذ فى جهة اليمين والشمال . . .
والطغيان : مجاوزة الحد . ومنه طغى الماء ، أى ارتفع وتجاوز الحدود المناسبة .
والمعنى : لقد علمت - أيها الرسول الكريم - حال السعداء وحال الأشقياء ، وعرفت أن كل مكلف سيوفى جزاء أعماله .
وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا أن تتجاوزوا حدود الاعتدال فى كل أقوالكم وأعمالكم .
وما دام الأمر كذلك فالزم أنت ومن معك من المؤمنين طريق الاستقامة على الحق ، وداوموا على ذلك كما أمركم الله ، بدون إفراط أو تفريط ، واحذروا أن تتجاوزوا حدود الاعتدال فى كل أقوالكم وأعمالكم .
ووجه - سبحانه - الأمر بالاستقامة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تنويها بشأنه ، وليبنى عليه قوله - { كَمَآ أُمِرْتَ } ، فيشي بذلك إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - هو وحده المتلقى للأوامر الشرعية من الله - تعالى - .
وقد جمع قوله - تعالى - { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } أصول الإِصلاح الدينى وفروعه ، كما جمع قوله - تعالى - " ولا تطغوا " أصول النهى عن المفاسد وفروعه ، فكانت الآية الكريمة بذلك جامعة لإِقامة المصالح ولدرء المفاسد .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : يأمر الله - تعالى - رسوله وعباده المؤمنين فى هذه الآية بالثبات والدوام على الاستقامة ، لأن ذلك من العون على النصر على الأعداء ، وينهاهم عن الطغيان وهو البغى ، لأنه مصرعه حتى ولو كان على مشرك .
وقال الآلوسى : والاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق .
أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال ، لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -
" شمروا شمروا ، وما رؤى بعد ضاحكا " .
وعن ابن عباس قال : ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آية أشد من هذه الآية ولا أشق " .
وفى صحيح مسلم عن سفيان عن عبد الله الثقفى قال : " قلت يا رسول الله ، قل لى فى الإِسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك . قال : " قل آمنت بالله ثم استقم " " .
وجملة { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تعليل للأمر بالاستقامة وللنهى عن الطغيان .
أى : الزموا المنهج القويم ، وابتعدوا عن الطغيان ، لأنه - سبحانه - مطلع على أعمالكم اطلاع المبصر ، العليم بظواهرها وبواطنها ، وسيجازيكم يوم القيامة عليها بما تستحقون من ثواب وعقاب .
ذلك البيان مع هذا التوكيد يلقي في النفس أن سنة الله ماضية على استقامتها في خلقه وفي دينه وفي وعده وفي و عيده . وإذن فليستقم المؤمنون بدين الله والداعون له على طريقتهم - كما أمروا - لا يغلون في الدين ولا يزيدون فيه ، ولا يركنون إلى الظالمين مهما تكن قوتهم ، ولا يدينون لغير الله مهما طال عليهم الطريق . ثم يتزودون بزاد الطريق ، ويصبرون حتى تتحقق سنة الله عندما يريد .
( فاستقم كما أمرت - ومن تاب معك - ولا تطغوا . إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين ، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) . .
هذا الأمر للرسول [ ص ] ومن تاب معه :
( فاستقم كما أمرت ) . . أحس - عليه الصلاة والسلام - برهبته وقوته حتى روي عنه أنه قال مشيرا إليه : " شيبتني هود . . . " . فالاستقامة : الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف . وهو في حاجة إلى اليقظة الدائمة ، والتدبر الدائم ، والتحري الدائم لحدود الطريق ، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلا أو كثيرا . . ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة .
وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة ، لم يكن نهيا عن القصور والتقصير ، إنما كان نهيا عن الطغيان والمجاوزة . . وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه في الضمير من يقظة وتحرج قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر . والله يريد دينه كما أنزله ، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو ، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير . وهي التفاتة ذات قيمة كبيرة ، لإمساك النفوس على الصراط ، بلا انحراف إلى الغلو أو الإهمال على السواء . .
والبصر - من البصيرة - مناسب في هذا الموضع ، الذي تتحكم فيه البصيرة وحسن الإدراك والتقدير . .
{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك }
ترتب عن التسلية التي تضمّنها قوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } [ هود : 110 ] وعن التثبيت المفاد بقوله : { فلا تك في مرية ممّا يَعبد هؤلاء } [ هود : 109 ] الحضّ على الدّوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم . وعبّر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدّوام على العمل بتعاليم الإسلام ، دواماً جماعهُ الاستقامة عليه والحذر من تغييره .
ولمّا كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السّلام إنّما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمرُ المؤمنين بتلك الاستقامة أيضاً ، لأنّ الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم ، ولأنّ مخالفة الأمّة عمداً إلى أحكام كتابها إن هو إلاّ ضرب من ضروب الاختلاف فيه ، لأنّه اختلافها على أحكامه . وفي الحديث : " فإنّما أهلكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم " ، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلاً دون ذلك ، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قِيد شبر . ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأنّ الإيمان أصل فلا تتعلّق به الاستقامة . وقد أشار إلى صحّة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبِي عَمْرَةَ الثقفي لمّا قال له : « يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك . قال : قل آمنت بالله ثم استَقِمْ » فجعل الاستقامة شيئاً بعد الإيمان .
ووُجّه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنه ليبني عليه قوله : { كما أمرتَ } فيشير إلى أنّه المتلقّي للأوامر الشرعيّة ابتداء . وهذا تنويه له بمقام رسالته ، ثم أُعلم بخطاب أمّته بذلك بقوله : { ومن تاب معك } . وكاف التّشبيه في قوله : { كما أمرت } في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من ( استقم ) . ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لكون الاستقامة مماثلة لسائر ما أمر به ، وهو تشبيه المجمل بالمفصّل في تفصيله بأن يكون طبقه . ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى ( على ) كما يقال : كن كما أنت . أي لا تتغيّر ، ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه .
{ ومن تاب } عطف على الضمير المتّصل في { أمرت } . ومصحّح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور .
{ ومن تاب } هم المؤمنون ، لأنّ الإيمان توبة من الشّرك ، و { معك } حال من { تاب } وليس متعلّقاً ب { تاب } لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من المشركين .
وقد جمع قوله : { فاستقم كما أمرت } أصول الصّلاح الديني وفروعه لقوله : { كما أمرتَ } .
قال ابن عبّاس : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ ولا أشق من هذه الآية عليه .
ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب « شيبتني هود وأخواتها » . وسئل عمّا في هود فقال : قوله { فاستقم كما أمرت } .
{ ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير }
الخطاب في قوله : { ولا تطغوا } موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم { ومن تاب معك } .
والطغيان أصله التّعاظم والجراءة وقلة الاكتراث ، وتقدّم في قوله تعالى : { ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون } في سورة [ البقرة : 15 ] . والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به ، قال تعالى : { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي } [ طه : 81 ] . فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل .
وقد شمل الطغيان أصول المفاسد ، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودَرْء المفاسد ، فكان النهي عنه جامعاً لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بعد هذا : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار } [ هود : 113 ] .
وعن الحسن البصري : جعل الله الدّين بين لاءَيْن { ولا تطغوا } { ولا تركنوا } [ هود : 113 ] .
وجملة { إنّه بما تعملون بصير } استئناف لتحذير من أخفى الطغيان بأن الله مطلع على كل عمل يعمله المسلمون ، ولذلك اختير وصف { بصير } من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البين ودلالة صيغته على قوته .