قوله تعالى : { إن فرعون علا } استكبر وتجبر وتعظم ، { في الأرض } أرض مصر ، { وجعل أهلها شيعاً } . فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير ، { يستضعف طائفةً منهم } أراد بالطائفة بني إسرائيل ، ثم فسر الاستضعاف فقال : { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } . سمى هذا استضعافاً لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم . { إنه كان من المفسدين* }
وقوله - تعالى - : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً . . } كلام مستأنف لتفصيل ما أجمله من النبأ .
وقوله { عَلاَ فِي الأرض } أى تكبر فيها وطغى ، من العلو بمعنى الارتفاع . والمقصود أنه جاوز كل حد فى غروره وظلمه وعدوانه . والمراد بالأرض : أرض مصر وما يتبعها من بلاد .
و { شِيَعاً } جمع شيعة ، وهم الأتباع والجماعات ، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعته .
أى : إن فرعون طغى وبغى وتجبر فى الأرض ، وجعل أهلها شيعا وأتباعا له ، وصار يستعمل كل طائفة منهم ، فيما يريده من أمور دولته ، فهذه الطائفة للبناء ، وتلك للسحر ، وثالثة لخدمته ومناصرته على ما يريد . . .
وجملة { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } لبيان حال الذين جعلهم شيعا وأحزابا .
والمراد بهذه الطائفة : بنو إسرائيل .
أى : أنه بعد أن جعل أهل مملكته شيعا وأحزابا اختص طائفة منهم بالإذلال والقهر والظلم ، فصار يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم . أى : يذبح الذكور من بنى إسرائيل بمجرد ولادتهم ، ويترك الإناث أحياء .
قال الإمام الرازى ما ملخصه : وفى ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه :
أحدهما : أن ذبح الأبناء يقتضى فناء الرجال . وذلك يقتضى انقطاع النسل . .
ثانيها : أن هلاك الذكور يقتضى فساد مصالح النساء فى المعيشة ، فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها تعهد الرجال .
ثالثها : أن قتل الذكور عقب الحمل الطويل ، وتحمل الكد ، والرجاء القوى فى الانتفاع به ، من أعظم العذاب . . .
رابعها : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهن ، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات للأعداء ، وذلك نهاية الذل والهوان .
قالوا : وإنما كان فرعون يذبح الذكور من بنى إسرائيل دون الإناث . لأن الكهنة أخبروه ، بأن مولودا سيولد من بنى إسرائيل ، يكون ذهاب ملك فرعون على يده .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } تعليل وتأكيد لما كان عليه فرعون من تجبر وطغيان .
أى : إن فرعون كان من الراسخين فى الفساد والإفساد ، ولذلك فعل ما فعل من ظلم لغيره ، ومن تطاول جعله يقول للناس : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى }
وبعد هذا الافتتاح يبدأ في عرض النبأ . نبأ موسى وفرعون . يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة - حلقة ميلاده - ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها . ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى ، والظروف القاسية التي ولد فيها ؛ وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة ؛ وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون . . ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي ؛ ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر ؛ وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر ؛ وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ؛ وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية . وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته ؛ وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه .
ولقد كانت قصة موسى - عليه السلام - تبدأ غالبا في السور الأخرى من حلقة الرسالة - لا من حلقة الميلاد - حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي ؛ ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان في النهاية . فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود ؛ إنما المقصود أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته ؛ والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر ؛ بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم ، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم ، وتربيهم ، وتجعلهم أئمة ، وتجعلهم الوارثين .
فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة ؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه ، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض . فهي أداة تربية للنفوس ، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ . وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه ، وتتعاون في بناء القلوب ، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب .
والحلقات المعروضة من القصة هنا هي : حلقة مولد موسى - عليه السلام - وما أحاط بهذا المولد من ظروف قاسية في ظاهرها ، وما صاحبه من رعاية الله وعنايته . وحلقة فتوته وما آتاه الله من الحكم والعلم ، وما وقع فيها من قتل القبطي ، وتآمر فرعون وملئه عليه ، وهربه من مصر إلى أرض مدين ، وزواجه فيها ، وقضاء سنوات الخدمة بها . وحلقة النداء والتكليف بالرسالة . ثم مواجهة فرعون وملئه وتكذيبهم لموسى وهارون . والعاقبة الأخيرة - الغرق - مختصرة سريعة .
ولقد أطال السياق في عرض الحلقة الأولى والحلقة الثانية - وهما الحلقتان الجديدتان في القصة في هذه السورة - لأنهما تكشفان عن تحدي القدرة السافرة للطغيان الباغي . وفيها يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ : ( ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) .
وعلى طريقة القرآن في عرض القصة ، قسمها إلى مشاهد ؛ وجعل بينها فجوات فنية يملؤها الخيال ، فلا يفوت القارى ء شيء من الأحداث والمناظر المتروكة بين المشهد والمشهد ، مع الاستمتاع الفني بحركة الخيال الحية .
وقد جاءت الحلقة الأولى في خمسة مشاهد . والحلقة الثانية في تسعة مشاهد والحلقة الثالثة في أربعة مشاهد . وبين الحلقة والحلقة فجوة كبيرة أو صغيرة وبين كل مشهد ومشهد ، كما يسدل الستار ويرفع عن المنظر أو المشهد .
وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث ، والظرف الذي يجري فيه القصص ، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث ، والتي من أجلها يسوق هذا القصص . . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة . تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن :
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم ، يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ، ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ، ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون . .
وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث ، وتنكشف اليد التي تجريها . وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها . وانكشاف هذه اليد ، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها ، متمش مع أبرز هدف لها . ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء . وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب .
ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده ، فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية ؛ ولا يزيد في دلالتها شيئا . ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف - عليه السلام - الذي استقدم أباه وإخوته . وأبوه يعقوب هو " إسرائيل " وهؤلاء كانوا ذريته . وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا .
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية ( علا في الأرض )وتكبر وتجبر ، وجعل أهل مصر شيعا ، كل طائفة في شأن من شئونه . ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل ، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه ؛ فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ؛ ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف ، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد ؛ وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا .
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر ؛ ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف ، فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب ، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته ، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال ، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب . وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم ، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم . وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث ، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب .
وروي أنه وكل بالحوامل من نسائهم قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل ، ليبادر بذبح الذكور ، فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة ، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة .
هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى - عليه السلام - عند ولادته ، كما وردت في هذه السورة :
( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم . إنه كان من المفسدين ) . .
و { علا في الأرض } من علو الطغيان والتغلب ، وقوله { في الأرض } يريد في أرض مصر وموضع ملكه ، ومتى جاءت { الأرض } هكذا عامة فإنما يراد بها الأرض التي تشبه قصة القول المسوق لأن الأشياء التي تعم الأرض كلها قليلة والأكثر ما ذكرناه ، و «الشيع » الفرق ، وكان هذا الفعل من فرعون بأن جعل القبط ملوكاً مستخدِمين ، وجعل بني إسرائيل عبيداً مستخدَمين ، وهم كانوا الطائفة المستضعفة ، و { يذبح } مضعف للمبالغة والعبارة عن تكرار الفعل ، وقال قتادة كان هذا الفعل من فرعون بأنه قال له كهنته وعلماؤه إن غلاماً لبني إسرائيل يفسد ملكك ، وقال السدي : رأى في ذلك رؤيا - فأخذ بني إسرائيل يذبح الأطفال سنين فرأى أنه يقطع نسلهم ، فعاد يذبح عاماً ويستحيي عاماً ، فولد هارون في عام الاستحياء وولد موسى في عام الذبح ، وقرأ جمهور القراء «يُذبح » بضم الياء وكسر الباء على التكثير ، وقرأ أبو حيوة ، وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال ، قال وهب بن منبه : بلغني أن فرعون ذبح في هذه المحاولة سبعين ألفاً من الأطفال ، وقال النقاش ، جميع ما قتل ستة عشر طفلاً .
قال الفقيه الإمام القاضي : طمع بجهله أن يرد القدر{[9104]} وأين هذا المنزع من قول النبي عليه السلام «فلن تقدر عليه » يعني ابن صياد ، وباقي الآية بين .
وهذه الجملة وما عطف عليها بيان لجملة { نتلو } [ القصص : 3 ] أو بيان ل { نبأ موسى وفرعون } [ القصص : 3 ] فقدم له الإجمال للدلالة على أنه نبأ له شأن عظيم وخطر بما فيه من شتى العبر . وافتتاحها بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر .
وابتدئت القصة بذكر أسبابها لتكون عبرة للمؤمنين يتخذون منها سنناً يعلمون بها علل الأشياء ومعلولاتها ، ويسيرون في شؤونهم على طرائقها ، فلولا تجبر فرعون وهو من قبيح الخلال ما حلّ به وبقومه الاستئصال ، ولما خرج بنو إسرائيل من ذل العبودية . وهذا مصداق المثل : مصائب قوم عند قوم فوائد ، وقوله تعالى { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } [ البقرة : 216 ] .
وصورت عظمة فرعون في الدنيا بقوله { علا في الأرض } لتكون العبرة بهلاكه بعد ذلك العلو أكبر العبر .
ومعنى العلوّ هنا الكِبْر ، وهو المذموم من العلو المعنوي كالذي في قوله تعالى { نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض } [ القصص : 83 ] . ومعناه : أن يستشعر نفسه عالياً على موضع غيره ليس يساويه أحد ، فالعلو مستعار لمعنى التفوّق على غيره ، غير محقوق لحق من دين أو شريعة أو رعي حقوق المخلوقات معه فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح وتجنب فساد وضر وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته وإرضاء هواه ، وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلهاً وأنه ابن الشمس .
فليس من العلو المذموم رجحان أحد في أمر من الأمور لأنه جدير بالرجحان فيه جرياً على سبب رجحان عقلي كرجحان العالم على الجاهل والصالح على الطالح والذكي على الغبي ، أو سبب رجحان عادي ويشمل القانوني وهو كل رجحان لا يستقيم نظام الجماعات إلا بمراعاته كرجحان أمير الجيش على جنوده ورجحان القاضي على المتخاصمين .
وأعدل الرجحان ما كان من قبل الدين والشريعة كرجحان المؤمن على الكافر ، والتقي على الفاسق ، قال تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] ويترجح في كل عمل أهل الخبرة به والإجادة فيه وفيما وراء ذلك فالأصل المساواة .
وفرعون هذا هو ( رعمسيس ) الثاني وهو الملك الثالث من ملوك العائلة التاسعة عشرة في اصطلاح المؤرخين للفراعنة ، وكان فاتحاً كبيراً شديد السطوة وهو الذي ولد موسى عليه السلام في زمانه على التحقيق .
و { الأرض } : هي أرض مصر ، فالتعريف فيها للعهد لأن ذكر فرعون يجعلها معهودة عند السامع لأن فرعون اسم ملك مصر . ويجوز أن تجعل المراد بالأرض جميع الأرض يعني المشهور المعروف منها ، فإطلاق الأرض كإطلاق الاستغراق العرفي فقد كان ملك فرعون ( رعمسيس ) الثاني ممتداً من بلاد الهند من حدود نهر ( الكنك ) في الهند إلى نهر ( الطونة ) في أوروبا ، فالمعنى أرض مملكته ، وكان علوه أقوى من علو ملوك الأرض وسادة الأقوام .
والشيع : جمع شيعة . والشيعة : الجماعة التي تشايع غيرها على ما يريد ، أي تتابعه وتطيعه وتنصره كما قال تعالى { هذا من شيعته وهذا من عدوه } [ القصص : 15 ] ، وأطلق على الفرقة من الناس على سبيل التوسع بعلاقة الإطلاق عن التقييد قال تعالى { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } [ الروم : 32 ] .
ومن البلاغة اختياره هنا ليدل على أنه جعل أهل بلاد القبط فرقاً ذات نزعات تتشيع كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض ، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال « فرّق تحكم » وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة .
وكان ( رعمسيس ) الثاني قسم بلاد مصر إلى ست وثلاثين إيالة وأقام على كل إيالة أمراء نواباً عنه ليتسنى له ما حكي عنه في هذه الآية بقوله تعالى { يستضعف طائفة منهم } الواقع موقع الحال من ضمير { جعل } وأبدلت منها بدل اشتمال جملة { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } لأنه ما فعل ذلك بهم إلا لأنه عدّهم ضعفاء ، أي أذلة فكان يسومهم العذاب ويسخّرهم لضرب اللبن وللأعمال الشاقة . والطائفة المستضعفة هي طائفة بني إسرائيل ، وضمير { منهم } عائد إلى { أهلها } لا إلى { شيعاً } . وتقدم الكلام على ذبح أبناء بني إسرائيل في سورة البقرة .
وجملة { إنه كان من المفسدين } تعليل لجملة { إن فرعون علا في الأرض } . وقد علمت مما مضى عند قوله { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة [ البقرة : 67 ] أن الخبر بتلك الصيغة أدل على تمكن الوصف مما لو قيل : أن أكون جاهلاً ، فكذلك قوله { إنه كان من المفسدين } دال على شدة تمكن الإفساد من خلقه ولفعل الكون إفادة تمكن خبر الفعل من اسمه .
فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون ، ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة .
المفسدة الأولى : التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم ، وسوء ظنه بهم وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل سوى ما يرضي شهوته وغضبه ، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضية سوء رعايته لهم والاجتراء على دحض حقوقهم ، وأن يرمقهم بعين الاحتقار فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم ، وأن يبتز منافعهم لنفسه ويسخر من استطاع منهم لخدمة أغراضه وأن لا يلين لهم في سياسة فيعاملهم بالغلظة وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته ، فهذه الصفة هي أمّ المفاسد وجماعها ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها ثم أعقبت بأنه { كان من المفسدين } .
المفسدة الثانية : أنه جعل أهل المملكة شيعاً وفرّقهم أقساماً وجعل منهم شيعاً مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينها التحاسد والتباغض ، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض ، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى ، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين .
وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فيكون بعضهم لبعض فتنة ، وشأن الملك الصالح أن يجعل الرعية منه كلها بمنزلة واحدة بمنزلة الأبناء من الأب يحب لهم الخير ويقومهم بالعدل واللين ، لا ميزة لفرقة على فرقة ، ويكون اقتراب أفراد الأمة منه بمقدار المزايا النفسية والعقلية .
المفسدة الثالثة : أنه يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى ، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشأوا فيها .
والمراد بالطائفة : بنو إسرائيل وقد كانوا قطنوا في أرض مصر برضى ملكها في زمن يوسف وأعطوا أرض ( جاسان ) وعمروها وتكاثروا فيها ومضى عليهم فيها أربعمائة سنة ، فكان لهم من الحق في أرض المملكة ما لسائر سكانها فلم يكن من العدل جعلهم بمنزلة دون منازل غيرهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى { طائفة منهم } إذ جعلها من أهل الأرض الذين جعلهم فرعون شيعاً .
وأشار بقوله { طائفة } إلى أنه استضعف فريقاً كاملاً ، فأفاد ذلك أن الاستضعاف ليس جارياً على أشخاص معيّنين لأسباب تقتضي استضعافهم ككونهم ساعين بالفساد أو ليسوا أهلاً للاعتداد بهم لانحطاط في أخلاقهم وأعمالهم بل جرى استضعافه على اعتبار العنصرية والقبلية وذلك فساد لأنه يقرن الفاضل بالمفضول .
من أجل ذلك الاستضعاف المنوط بالعنصرية أجرى شدته على أفراد تلك الطائفة دون تمييز بين مستحق وغيره ولم يراع غير النوعية من ذكورة وأنوثة وهي :
المفسدة الرابعة : أنه { يذبح أبناءهم } أي يأمر بذبحهم ، فإسناد الذبح إليه مجاز عقلي . والمراد بالأبناء : الذكور من الأطفال . وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة . وقصده من ذلك أن لا تكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم حتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة .
المفسدة الخامسة : أنه يستحيي النساء ، أي يستبقي حياة الإناث من الأطفال ، فأطلق عليهم اسم النساء باعتبار المآل إيماء إلى أنه يستحييهن ليصرن نساء فتصلحن لما تصلح له النساء وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج . وإذ كان احتقارهن بصد قومه عن التزوج بهن فلم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة ، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء إذ كل ذلك اعتداء على الحق . وقد تقدم آنفاً موقع جملة { إنه كان من المفسدين } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن فرعون، فقال سبحانه: {إن فرعون علا} يعني: تعظم {في الأرض} يعني: أرض مصر {وجعل أهلها} يعني: من أهل مصر {شيعا} يعني: أحزابا {يستضعف طائفة منهم} يعني: من أهل مصر يستضعف بني إسرائيل {يذبح} يعني: يقتل {أبناءهم} يعني: أبناء بني إسرائيل {ويستحيي نساءهم} يقول: ويترك بناتهم فلا يقتلهن... {إنه} يعني: فرعون {كان من المفسدين} يعني: كان يعمل في الأرض بالمعاصي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن فرعون تجبر في أرض مصر وتكبر، وعلا أهلها وقهرهم، حتى أقرّوا له بالعبودة... عن قَتادة "إنّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ "أي بغى في الأرض.
وقوله: "وَجَعَلَ أهْلَها شِيَعا" يعني بالشيع: الفِرَق، يقول: وجعل أهلَها فِرقا متفرّقين...
وقوله: "يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ" ذكر أن استضعافه إياها كان استعباده... عن قَتادة: يستعبد طائفة منهم، ويذبح طائفة، ويقتل طائفة، ويستحيي طائفة.
وقوله: "إنّهُ كانَ مِنَ المُفْسِدِينَ" يقول: إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحقّ منه القتل، واستعباده من ليس له استعباده وتجبره في الأرض على أهلها، وتكبره على عبادة ربه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{علا في الأرض} أي بغى، وقهر. فيكون تفسيره ما ذكر على إثره: {يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم}.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وهذه الأرض أرض مصر لأن فرعون ملك مصر ولم يملك الأرض كلها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ فِرْعَوْنَ} جملة مستأنفة كالتفسير للمجمل، كأن قائلاً قال: وكيف كان نبؤهما فقال: {إن فرعون عَلاَ فِي الارض} يعني أرض مملكته قد طغى فيها وجاوز الحدّ في الظلم والعسف {شِيَعاً} فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه...
أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته. أو أصنافاً في استخدامه يتسخر صنفاً في بناء وصنفاً في حرث وصنفاً في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية، أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة، وهم بنو إسرائيل والقبط...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كأنه قيل: ما هذا المقصوص من هذا النبأ؟ قال: {إن فرعون} ملك مصر الذي ادعى الإلهية {علا} أي بادعائه الإلهية وتجبره على عباد الله وقهره لهم {في الأرض} أي لأنا جمعنا عليه الجنود فكانوا معه إلباً واحداً فأنفذنا بذلك كلمته، وهي وأن كان المراد بها أرض مصر ففي إطلاقها ما يدل على تعظيمها وأنها كجميع الأرض في اشتمالها على ما قل أن يشتمل عليه غيرها.
ولما كان التقدير بما دل عليه العاطف: فكفر تلك النعمة، عطف عليه قوله: {وجعل} بما جعلنا له من نفوذ الكلمة {أهلها} أي الأرض المرادة {شيعاً} أي فرقاً يتبع كل فرقة شيئاً وتنصره، والكل تحت قهره وطوع أمره، قد صاروا معه كالشياع، وهو دق الحطب، فرق بينهم لئلا يتمالؤوا عليه، فلا يصل إلى ما يريده منهم، فافترقت كلمتهم فلم يحم بعضهم لبعض فتخاذلوا فسفل أمرهم، فالآية من الاحتباك، ذكر العلو أولاً دليلاً على السفول ثانياً، والافتراق ثانياً دليلاً على الاجتماع أولاً، جعلهم كذلك حال كونه {يستضعف} أي يطلب ويوجد أن يضعف، أو هو استئناف {طائفة منهم} وهم بنو إسرائيل الذين كانت حياة جميع أهل مصر على يدي واحد منهم، وهو يوسف عليه السلام.
وفعل معهم من الخير ما لم يفعله والد مع ولده، ومع ذلك كافؤوه في أولاده وإخوته بأن استعبدوهم، ثم ما كفاهم ذلك حتى ساموهم على يدي هذا العنيد سوء العذاب فيا بأبي الغرباء بينهم قديماً وحديثاً، ثم بين سبحانه الاستضعاف بقوله: {يذبح} أي تذبيحاً كثيراً {أبناءهم} أي عند الولادة، وكل بذلك أناساً ينظرون كلما ولدت امرأة ذكراً ذبحوه خوفاً على ملكه زعم من مولود منهم {ويستحيي نساءهم} أي يريد حياة الإناث فلا يذبحهن.
ولما كان هذا أمراً متناهياً في الشناعة، ليس مأموراً به من جهة شرع ما، ولا له فائدة أصلاً، لأن القدر -على تقدير صدق من أخبره- لا يرده الحذر، قال تعالى مبيناً لقبحه، شارحاً لما أفهمه ذلك من حاله: {إنه كان} أي كوناً راسخاً {من المفسدين} أي الذين لهم عراقة في هذا الوصف، فلا يدع أن يقع منه هذا الجزئي المندرج تحت ما هو قائم به من الأمر الكلي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذا الافتتاح يبدأ في عرض النبأ. نبأ موسى وفرعون. يبدأ في عرضه منذ أول حلقة في القصة -حلقة ميلاده- ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها. ذلك أن الحلقة الأولى من قصة موسى، والظروف القاسية التي ولد فيها؛ وتجرده في طفولته من كل قوة ومن كل حيلة؛ وضعف قومه واستذلالهم في يد فرعون.. ذلك كله هو الذي يؤدي هدف السورة الرئيسي؛ ويبرز يد القدرة سافرة متحدية تعمل وحدها بدون ستار من البشر؛ وتضرب الظلم والطغيان والبغي ضربة مباشرة عندما يعجز عن ضربها البشر؛ وتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة؛ وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية. وهو المعنى الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى تقريره وتثبيته؛ وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه.
ولقد كانت قصة موسى -عليه السلام- تبدأ غالبا في السور الأخرى من حلقة الرسالة -لا من حلقة الميلاد- حيث يقف الإيمان القوي في وجه الطغيان الباغي؛ ثم ينتصر الإيمان وينخذل الطغيان في النهاية. فأما هنا فليس هذا المعنى هو المقصود؛ إنما المقصود أن الشر حين يتمحض يحمل سبب هلاكه في ذاته؛ والبغي حين يتمرد لا يحتاج إلى من يدفعه من البشر؛ بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم، وتربيهم، وتجعلهم أئمة، وتجعلهم الوارثين. فهذا هو الغرض من سوق القصة في هذه السورة؛ ومن ثم عرضت من الحلقة التي تؤدي هذا الغرض وتبرزه، والقصة في القرآن تخضع في طريقة عرضها للغرض المراد من هذا العرض. فهي أداة تربية للنفوس، ووسيلة تقرير لمعان وحقائق ومبادئ. وهي تتناسق في هذا مع السياق الذي تعرض فيه، وتتعاون في بناء القلوب، وبناء الحقائق التي تعمر هذه القلوب...
وقبل أن يبدأ القصة يرسم الجو الذي تدور فيه الأحداث، والظرف الذي يجري فيه القصص، ويكشف عن الغاية المخبوءة وراء الأحداث، والتي من أجلها يسوق هذا القصص.. وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصة. تساوق موضوعها وأهدافها في هذا الموضع من القرآن... وهكذا يرسم المسرح الذي تجري فيه الحوادث، وتنكشف اليد التي تجريها. وتنكشف معها الغاية التي تتوخاها. وانكشاف هذه اليد، وبروزها سافرة بلا ستار منذ اللحظة الأولى مقصود في سياق القصة كلها، متمش مع أبرز هدف لها. ومن ثم تبدأ القصة هذا البدء. وذلك من بدائع الأداء في هذا الكتاب العجيب. ولا يعرف على وجه التحديد من هو الفرعون الذي تجري حوادث القصة في عهده، فالتحديد التاريخي ليس هدفا من أهداف القصة القرآنية؛ ولا يزيد في دلالتها شيئا. ويكفي أن نعلم أن هذا كان بعد زمان يوسف -عليه السلام- الذي استقدم أباه وإخوته. وأبوه يعقوب هو "إسرائيل "وهؤلاء كانوا ذريته. وقد تكاثروا في مصر وأصبحوا شعبا كبيرا. فلما كان ذلك الفرعون الطاغية (علا في الأرض) وتكبر وتجبر، وجعل أهل مصر شيعا، كل طائفة في شأن من شئونه. ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه؛ فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب؛ ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف، فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد؛ وإنكار ألوهية فرعون والوثنية الفرعونية جميعا. وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مصر؛ ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف، فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته، تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب. وبعد ذلك كله تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة عدد الإناث، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب.هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى -عليه السلام- عند ولادته، كما وردت في هذه السورة: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. إنه كان من المفسدين).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصورت عظمة فرعون في الدنيا بقوله {علا في الأرض} لتكون العبرة بهلاكه بعد ذلك العلو أكبر العبر. ومعنى العلوّ هنا الكِبْر، وهو المذموم من العلو المعنوي كالذي في قوله تعالى {نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض} [القصص: 83]. ومعناه: أن يستشعر نفسه عالياً على موضع غيره ليس يساويه أحد، فالعلو مستعار لمعنى التفوّق على غيره، غير محقوق لحق من دين أو شريعة أو رعي حقوق المخلوقات معه فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح وتجنب فساد وضر وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته وإرضاء هواه، وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلهاً وأنه ابن الشمس. فليس من العلو المذموم رجحان أحد في أمر من الأمور لأنه جدير بالرجحان فيه جرياً على سبب رجحان عقلي كرجحان العالم على الجاهل والصالح على الطالح والذكي على الغبي،... وأعدل الرجحان ما كان من قبل الدين والشريعة كرجحان المؤمن على الكافر، والتقي على الفاسق، قال تعالى {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] ويترجح في كل عمل أهل الخبرة به والإجادة فيه وفيما وراء ذلك فالأصل المساواة...
وجملة {إنه كان من المفسدين} تعليل لجملة {إن فرعون علا في الأرض}...
دال على شدة تمكن الإفساد من خلقه، ولفعل الكون إفادة تمكن خبر الفعل من اسمه. فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.
المفسدة الأولى: التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم، وسوء ظنه بهم وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل سوى ما يرضي شهوته وغضبه، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضية سوء رعايته لهم والاجتراء على دحض حقوقهم، وأن يرمقهم بعين الاحتقار فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم، وأن يبتز منافعهم لنفسه ويسخر من استطاع منهم لخدمة أغراضه وأن لا يلين لهم في سياسة فيعاملهم بالغلظة وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أمّ المفاسد وجماعها ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها ثم أعقبت بأنه {كان من المفسدين}.
المفسدة الثانية: أنه جعل أهل المملكة شيعاً وفرّقهم أقساماً وجعل منهم شيعاً مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينها التحاسد والتباغض، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين. وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فيكون بعضهم لبعض فتنة، وشأن الملك الصالح أن يجعل الرعية منه كلها بمنزلة واحدة بمنزلة الأبناء من الأب يحب لهم الخير ويقومهم بالعدل واللين، لا ميزة لفرقة على فرقة، ويكون اقتراب أفراد الأمة منه بمقدار المزايا النفسية والعقلية.
المفسدة الثالثة: أنه يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشأوا فيها. والمراد بالطائفة: بنو إسرائيل وقد كانوا قطنوا في أرض مصر برضى ملكها في زمن يوسف وأعطوا أرض (جاسان) وعمروها وتكاثروا فيها ومضى عليهم فيها أربعمائة سنة، فكان لهم من الحق في أرض المملكة ما لسائر سكانها فلم يكن من العدل جعلهم بمنزلة دون منازل غيرهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى {طائفة منهم} إذ جعلها من أهل الأرض الذين جعلهم فرعون شيعاً. وأشار بقوله {طائفة} إلى أنه استضعف فريقاً كاملاً، فأفاد ذلك أن الاستضعاف ليس جارياً على أشخاص معيّنين لأسباب تقتضي استضعافهم ككونهم ساعين بالفساد أو ليسوا أهلاً للاعتداد بهم لانحطاط في أخلاقهم وأعمالهم بل جرى استضعافه على اعتبار العنصرية والقبلية وذلك فساد لأنه يقرن الفاضل بالمفضول. من أجل ذلك الاستضعاف المنوط بالعنصرية أجرى شدته على أفراد تلك الطائفة دون تمييز بين مستحق وغيره ولم يراع غير النوعية من ذكورة وأنوثة وهي:
المفسدة الرابعة: أنه {يذبح أبناءهم} أي يأمر بذبحهم، فإسناد الذبح إليه مجاز عقلي. والمراد بالأبناء: الذكور من الأطفال. وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة. وقصده من ذلك أن لا تكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم حتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.
المفسدة الخامسة: أنه يستحيي النساء، أي يستبقي حياة الإناث من الأطفال، فأطلق عليهم اسم النساء باعتبار المآل إيماء إلى أنه يستحييهن ليصرن نساء فتصلحن لما تصلح له النساء وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج. وإذ كان احتقارهن بصد قومه عن التزوج بهن فلم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء إذ كل ذلك اعتداء على الحق. وقد تقدم آنفاً موقع جملة {إنه كان من المفسدين}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{إنه كان من المفسدين} سجل كتاب الله هنا على فرعون صفة "الفساد "التي هي أبغض صفة إلى الله تحرق الأخضر واليابس، وتدمر البلاد والعباد، وبهذا التسجيل الإلهي المؤكد أبرز كتاب الله أنه لا يرضى للرؤساء من عباده الكبر والجبروت، ولا يرضى للمرؤوسين منهم الفرقة والشتات، ولا يرضى استضعاف طائفة وتسخيرها وإهدار حقوقها لصالح بقية الطوائف، وإنما يرضى لهم جميعا المساواة في الحقوق والواجبات والعيش الكريم.