قوله تعالى : { مسومةً } ، من نعت الحجارة ، وهي نصب على الحال ، ومعناها معلمة : قال ابن جريج : عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض . وقال قتادة وعكرمة : علها خطوط حمر على هيئة الجزع . وقال الحسن والسدي : كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم . وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به .
قوله تعالى : { عند ربك وما هي } ، يعني : تلك الحجارة ، { من الظالمين } ، أي : من مشركي مكة ، { ببعيد } ، وقال قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأمة ، والله ما أجار الله منها ظالما بعد . وفي بعض الآثار : ما من ظالم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة . وروي : أن الحجر اتبع شذاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلاد ، ودخل رجل منهم الحرم فكان الحجر معلقا في السماء أربعين يوما حتى خرج فأصابه فأهلكه .
{ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أى : معلمة بعلامات من عند ربك لا يعلمها إلا هو ، ومعدة إعداداً خاصاً لإِهلاك هؤلاء القوم .
{ وَمَا هِيَ } أى تلك القرى المهلكة { مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } وهم مشركو مكة { بِبَعِيدٍ } أى : ببعيدة عنهم ، بل هى قريبة منهم ، ويمرون عليها فى أسفارهم إلى الشام .
قال - تعالى - { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ . وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى : وإنكم يا أهل مكة لتمرون على هؤلاء القوم المهلكين من قوم لوط فى وقت الصباح أى النهار ، وتمرون عليهم بالليل أفلا تعقلون ذلك فتعتبروا وتتعظوا ؟ ؟
ويجوز أن يكون الضمير فى قوله { وَمَا هِيَ } يعود إلى الحجارة التى أهلك الله بها هؤلاء القوم .
أى : وما هى تلك الحجارة الموصوفة بما ذكر من الظالمين ببعيد ، بل هى حاضرة مهيئة بقدرة الله - تعالى - لإِهلاك الظالمين بها .
والمراد بالظالمين ما يشمل قوم لوط ، ويشمل كل من عصى الله وتجاوز حدوده ، ولم يتبع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وهكذا كانت نهاية قوم لوط ، فقد انطوت صفحتهم كما انطوت من قبلهم صفحات قوم نوح وهود وصالح - عليهم الصلاة والسلام - .
هذا ومن العبر والأحكام التى نأخذها من هذه الآيات الكريمة ، أنه لا بأس على المسلم من أن يستعين بغيره لنصرة الحق الذى يدعو إليه ، ولخذلان الباطل الذى ينهى عنه .
فلوط - عليه السلام - عندما رأى من قومه الإِصرار على غوايتهم ومفاسدهم تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم وتردعهم وتمنعهم عن فسادهم .
وقد علق الإِمام ابن حزم على ما جاء فى الحديث الشريف بشأن لوط - عليه السلام - فقال ما ملخصه :
وظن بعض الفرق أن ما جاء فى الحديث الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - " رحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد " إنما هو من باب الإِنكار على لوط - عليه السلام - فى قوله { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } .
والحق أنه لا تخالف بين القولين ، بل كلاهما حق ، لأن لوطاً - عليه السلام - إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش . من قرابة أو عشيرة أو أتباع المؤمنين ، وما جهل قط لوط - عليه السلام - أنه يأوى من ربه - تعالى - إلى أمنع قوة ، وأشد ركن .
ولا جناح على لوط - عليه السلام - فى طلب قوة من الناس - فقد قال الله - تعالى - { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } وقد طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه ، فكيف ينكر على لوط أمراً هو فعله ؟ ! !
تالله ما أنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أخبر أن لوطا كان يأوى إلى ركن شديد ، يعنى من نصر الله له بالملائكة ، ولم يكن لوط علم بأنه ملائكة .
هذه الحجارة . . ( مسومة عند ربك ) . . كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة . فكأنما هذه الحجارة مرباة ! ومطلقة لتنمو وتتكاثر ! لوقت الحاجة . . وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس ، ولا يفصح عنه التفسير ، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه . .
( وما هي من الظالمين ببعيد ) . .
فهي قريبة وتحت الطلب ، وعند الحاجة تطلق فتصيب !
والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل وعند ربك للظالمين كثير ! ! !
ولا نقول هذا الكلام لنقول : إنه كان بركان من تلك البراكين ، ثار في ذلك الوقت ، فوقع ما وقع . إننا لا ننفي هذا . فقد يكون هو الذي وقع فعلا . ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة . .
وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم . وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقا مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه .
وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين . وفهم علاقة مشيئة الله بالكون على النحو الذي بيناه قريبا في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم ، لا يبقى مجالا لمشكلة تقوم في التصوير الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور . .
{ مُسوّمةً } معلمة للعذاب . وقيل معلمة ببياض وحمرةً . أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمى بها . { عند ربك } في خزائنه . { وما هي من الظالمين ببعيد } فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم ، وفيه وعيد لكل ظالم . وعنه عليه الصلاة والسلام " أنه سأل جبريل عليه السلام فقال : يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة " . وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام ، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان .
و { مسومة } معناه معلمة بعلامة ، فقال عكرمة وقتادة : إنه كان فيها بياض وحمرة : ويحكى أنه كان في كل حجر اسم صاحبه ، وهذه اللفظة هي من سوم إذا أعلم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : «سوموا فقد سومت الملائكة » ويحتمل أن تكون { مسومة } ها هنا بمعنى : مرسلة ، وسومها من الهبوط .
وقوله { وما هي } إشارة إلى الحجارة . و { الظالمين } قيل : يعني قريشاً . وقيل : يريد عموم كل من اتصف بالظلم ، وهذا هو الأصح لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة »{[6464]} ، وقد ورد أيضاً حديث : «إن هذه الأمة بمنجاة من ذلك » وقيل يعني ب { هي } : المدن ، ويكون المعنى : الإعلام بأن هذه البلاد قريبة من مكة - والأول أبين - وروي أن هذه البلاد كانت بين المدينة والشام ، وحكى الطبري في تسمية هذه المدن : صيعة ، وصعدة وعمزة ، ودوما وسدوم{[6465]} ، وسدوم وهي القرية العظمى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{مسومة}، يعني معلمة، {عند ربك}، يعني جاءت من عند الله عز وجل، ثم قال: {وما هي من الظالمين ببعيد}؛ لأنها قريب من الظالمين، يعني من مشركي مكة، فإنها تكون قريبا، يخوفهم منها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأما قوله:"مُسَوّمَةً عِنْدَ رَبّكَ" فإنه يقول: معلمة عند الله، أعلمها الله، والمسوّمة من نعت الحجارة، ولذلك نصبت ونعت بها...
وأما قوله: "وَما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ "فإنه يقول تعالى ذكره متهدّدا مشركي قريش: وما هذه الحجارة التي أمطرتها على قوم لوط من مشركي قومك يا محمد ببعيد أن يمطَروها إن لم يتوبوا من شِركهم...
عن مجاهد: "وَما هِيَ مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ" قال: يرهب بها من يشاء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (مسومة)...قال بعضهم: مسومة أي مكتوبا عليه اسم صاحبها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ذكر سبحانه ما نالهم من العقوبة على عصيانهم، ثم أخبر أنَّ تلك العقوبةَ لاحقةٌ بمن سَلَكَ سبيلَهم تحذيراَ لمن لم يعتبر بهم إذا عرف طريقَهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...ويحتمل أن تكون {مسومة} ها هنا بمعنى: مرسلة، وسومها من الهبوط.
وقوله {وما هي} إشارة إلى الحجارة. و {الظالمين} قيل: يعني قريشاً. وقيل: يريد عموم كل من اتصف بالظلم، وهذا هو الأصح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مسومة} أي معلمة بعلامات تدل على أنها معدة للعذاب.. ثم فخمها بقوله: {عند ربك} وعبر بالرب إشارة إلى كثرة إحسانه إليه وأنه إنما أمره صلى الله عليه وسلم بالإنذار رحمة لأمته التي جعلها خير الأمم وسيجعلها أكثر الأمم، ولا يهلكها كما أهلكهم؛ ومادة سجل -بأي ترتيب كان- تدور على العلو... ولما كان المعنى أنها من مكان هو في غاية العلو ليعظم وقعها، حسن كل الحسن اتباع ذلك قوله: {وما هي} على شدة بعد مكانها {من الظالمين} أي من أحد من العريقين في الظلم في ذلك الزمان ولا هذا ولا زمن من الأزمان {ببعيد} لئلا يتوهم الاحتياج في وصولها إلى المرمى بها إلى زمن طويل...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وقد ذكر المفسرون روايات وقصصاً في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة، وليس في ذكرها فائدة لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك، وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح، وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب، وحالهم في الرواية معروف. وقد أمرنا بأنا لا نصدّقهم ولا نكذبهم، فاعرف هذا، فهو الوجه في حذفنا لكثير من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{مسومة عند ربك} لها سومة، أي علامة خاصة في علم ربك أيها الرسول، أي أمطرناها خاصة بها لا تصيب غير أهلها، أو هي من قولهم: سومت فلانا في مالي أو في الأمر إذا حكمته فيه، وخليته وما يريد لا تثنى له يد في تصرفه، وقد ظهر لي هذا المعنى الآن من مراجعة المجاز الأساس، والمعنى أنه سخرها عليهم وحكمها في إهلاكهم لا يمنعها منه شيء، كما قال في الملائكة التي أمد الله المؤمنين في غزوة بدر: [مسومين].. {وما هي من الظالمين ببعيد} أي وما هذه العقوبة أو القرى أو الأرض التي حل بها العذاب المخزي بمكان بعيد المسافة من مشركي مكة الظالمين لأنفسهم بتكذيبك والتماري بنذرك أيها الرسول، بل هي قريبة منهم واقعة على طريقهم في رحلة الصيف إلى الشام كما قال: {فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم} [الحجر: 73، 76] أي في طريق ثابت معروف بين المدينة والشام، وقال في سورة الصافات بعد ذكر هلاكهم: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} [الصافات: 137، 138] قال الجلال:"وإنكم لتمرون عليهم" على آثارهم ومنازلهم في أسفاركم. "مصبحين "أي وقت الصباح، يعني بالنهار، "وبالليل أفلا تعقلون" ما حل بهم فتعتبروا به اه. والتعبير بصفة الظالمين وكون العقوبة آية مرادة لا مصادفة، يجعل العبارة عبرة لكل الأقوام الظالمة في كل زمان، وإن كان العذاب يختلف باختلاف الأحوال من أنواع الظلم وكثرته وعمومه وما دونهما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الحجارة.. (مسومة عند ربك).. كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة. فكأنما هذه الحجارة مرباة! ومطلقة لتنمو وتتكاثر! لوقت الحاجة.. وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس، ولا يفصح عنه التفسير، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه.. (وما هي من الظالمين ببعيد).. فهي قريبة وتحت الطلب، وعند الحاجة تطلق فتصيب! والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل وعند ربك للظالمين كثير!!! ولا نقول هذا الكلام لنقول: إنه كان بركان من تلك البراكين، ثار في ذلك الوقت، فوقع ما وقع. إننا لا ننفي هذا. فقد يكون هو الذي وقع فعلا. ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة.. وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم. وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقا مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه. وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين. وفهم علاقة مشيئة الله بالكون على النحو الذي بيناه قريبا في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم، لا يبقى مجالا لمشكلة تقوم في التصوير الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمسوّمَة: التي لها سِيما، وهي العلامة. والعلامات توضع لأغراض، منها عدم الاشتباه، ومنها سهولة الإحضار، وهو هنا مكنّى به عن المُعدّة المهيّئة لأن الإعداد من لوازم التوسيم بقرينة قوله: {عند ربك} لأن تسويمها عند الله هو تقديره إياها لهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لَمِ قلب الله عاليها سافلها؟ قلنا: إِنّ العذاب ينبغي أن يتناسب مع الإِثم، وحيث أنّ هؤلاء القوم قلبوا كل شيء عن طريق الانحراف الجنسي فإنّ الله جعل مدنهم عاليها سافلها أيضاً، وحيث كانوا دائماً يتقاذفون بالكلمات البذيئة فيما بينهم، فإنّ الله أمطرهم بحجارة لتتهاوى على رؤوسهم أيضاً.