قوله تعالى : { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } ، من الأوثان . قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة . لذلك قالوا هذا . وقال الأعمش : يعني : أقراءتك .
قوله تعالى : { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } من الزيادة والنقصان . وقيل : كان شعيب عليه السلام نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم وزعم أنه محرم عليهم ، فقالوا : أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء من قطعها .
قوله تعالى : { إنك لأنت الحليم الرشيد } قال ابن عباس رضي الله عنهما : أرادوا : السفينة الغاوي ، والعرب تصف الشيء بضده فتقول : للديغ سليم وللفلاة مفازة . وقيل : قالوه على وجه الاستهزاء . وقيل : معناه الحليم الرشيد بزعمك . وقيل : هو على الصحة أي إنك يا شعيب فينا حليم رشيد ، لا يجمل بك شق عصا قومك ومخالفة دينهم ، كما قال قوم صالح عليه السلام : { قد كنت فينا مرجواً قبل هذا } [ هود-62 ] .
لقد كان ردهم عليه - كما حكاه القرآن الكريم - طافحا بالاستهزاء به ، والسخرية منه ، فقد قالوا له : { ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } .
أى : قال قوم شعيب له - على سبيل التهكم والاستهزاء - : يا شعيب أصلاتك - التى تزعم أن ربك كلفك بها والتى أنت تكثر منها - تأمرك أن نترك عبادة الأصنام التى وجدنا عليها آباءنا ؟ والاستفهام للإِنكار والتعجب من شأنه . .
وأسندوا الأمر إلى الصلاة من بين سائر العبادات التى كان يفعلها ، لأنه - عليه السلام - كان كثير الصلاة ، وكانوا إذا رأوا يصلى سخروا منه .
وجملة " أو أن نفعل فى أموالنا ما نشاء " إنكار منهم لترك ما تعودوه من نقص الكيل والميزان . . .
إن كانت صلاتك تأمرك بذلك ، فهى فى نظرنا صلاة باطلة ، لا وزن لها عندنا ، بل نحن نراها لوناً من ألوان جنونك وهذيانك .
وجملة " إنك لأنت الحليم الرشيد " زيادة منهم فى السخرية منه - عليه السلام - وفى التهكم عليه ، فكأنهم - قبحهم الله - يقولون له : كيف تأمرنا بترك عبادة الأصنام ، وبترك النقص فى الكيل والميزان ، مع علمك اليقينى بأن هذين الأمرين قد بنينا عليهما حياتنا ، ومع زعمك لنا بأنك الحليم الذى يتأنى ويتروى فى أحكامه ، الرشيد الذى يرشد غيره إلى ما ينفعه ؟
إن هذين الوصفين لا يليقان بك ، ما دمت تأمرنا بذلك ، وإنما اللائق بك أضدادهما ، أى الجهالة والسفه والعجلة فى الأحكام .
قال صاحب الكشاف : وأردوا بقولهم : { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } نسبته إلى غايت السفه والغى ، فعكسوا ليتهكموا به ، كما يتهكم بالشحيح الذى لا يبض حجره ، فيقال له : لو أبصرك حاتم لسجد لك . وقيل معناه : إنك للمتواصف بالحلم والرشد فى قومك . يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك وما اشتهرت به . . .
هكذا رد قوم شعيب عليه ، وهو رد يحمل السخرية فى كل مقطع من مقاطعة ، ولكنها سخرية الشخص الذى انطمست بصيرته ، وقبحت سريرته ! !
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد ، وسوء الاستغلال :
( قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ إنك لأنت الحليم الرشيد ! ) . .
وهو رد واضح التهكم ، بين السخرية في كل مقطع من مقاطعه . وإن كانت سخرية الجاهل المطموس ، والمعاند بلا معرفة ولا فقه .
( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ ) . .
فهم لا يدركون - أو لا يريدون أن يدركوا - أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة ، ومن صور العبودية والدينونة . وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم ، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل . فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة .
وقبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة . وارتباطهما معا بالمعاملات . . قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين ، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب . وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكا من الجاهلية الأولى ! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها - بما فيها أولئك الذين يقولون : إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون - فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر . والشريعة والتعامل . فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره ، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله ، ووفق أمر غيره . . وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله . .
وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم - وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف - فلقد قامت أزمة في " الكنيست " مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها - من غير اليهود - أطعمة غير شرعية . وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده - مهما تعرضت للخسارة - فأين من يدعون أنفسهم " مسلمين ! " من هذا الاستمساك بالدين ؟ ! !
إن بيننا اليوم - ممن يقولون : إنهم مسلمون ! - من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق ، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية .
وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم . يتساءلون أولا في استنكار : وما للإسلام وسلوكنا الشخصي ؟ ما للإسلام والعري في الشواطيء ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق ؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل ؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج ؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله " المتحضرون " ؟ ! . . فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين : ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ؟ ) . .
وهم يتساءلون ثانيا . بل ينكرون بشدة وعنف . أن يتدخل الدين في الاقتصاد ، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد ، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد . . فما للدين والمعاملات الربوية ؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي ؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده . وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية - النظرية الأخلاقية مثلا - ويعدونها تخليطا من أيام زمان !
فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى . ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة ، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة ، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله ، والسلوك الشخصي في الحياة ، والمعاملات المادية في السوق . . تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود ! ! !
وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب ، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض . فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد . والشرك ألوان . منه هذا اللون الذي نعيش به الآن . وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان !
ويسخر أهل مدين من شعيب - كما يتوقع بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق - فيقولون :
( إنك لأنت الحليم الرشيد ! ) . .
وهم يعنون عكس معناها . فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير ، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق ! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين ! ! !
{ قالوا يا شُعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } من الأصنام ، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه . وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر . وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى : أصلواتك تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره . { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا . وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على { أن نترك } وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء . وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك . { إنك لأنت الحليم الرّشيد } تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك ، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك .
قرأ جمهور الناس «أصلواتك » بالجمع ، وقرأ ابن وثاب «أصلاتك » بالإفراد ، وكذلك قرأ في براءة { إن صلاتك }{[6469]} وفي المؤمنين : { على صلاتهم }{[6470]} كل ذلك بالإفراد .
واختلف في معنى «الصلاة » هنا ، فقالت فرقة : أرادوا الصلوات المعروفة ، وروي أن شعيباً عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة ، وقال الحسن : لم يبعث الله نبياً إلا فرض عليه الصلاة والزكاة . وقيل : أرادوا قراءتك . وقيل : أرادوا : أمساجدك ؟ وقيل : أرادوا : أدعواتك .
قال القاضي أبو محمد : وأقرب هذه الأقوال الأول والرابع وجعلوا الأمر من فعل الصلوات على جهة التجوز ، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع : فمعنى هذا : ألما كنت مصلياً تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا ؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل : أمرته ، كما قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }{[6471]} .
وقوله : { أن نترك ما يعبد آباؤنا } نص في أنهم كانوا يعبدون غير الله تعالى وقرأ جمهور الناس : «نفعل » و «نشاء » بنون الجماعة فيهما ؛ وقرأ الضحاك بن قيس «تفعل » و «تشاء » بتاء المخاطبة فيهما : ورويت عن أبي عبد الرحمن : «نفعل » بالنون . «ما تشاء » بالتاء ، ورويت عن ابن عباس . فأما من قرأ بالنون فيهما ف { أن } الثانية عطف على { ما } لا على { أن } الأولى ، لأن المعنى يصير : أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ وهذا قلب ما قصدوه . وأما من قرأ بالتاء فيهما فيصح عطف { أن } الثانية على { ما } لا على { أن } الأولى ، قال بعض النحويين ، ويصح عطفها على { ما } ويتم المعنى في الوجهين .
قال القاضي أبو محمد : ويجيء { نترك } في الأول بمعنى نرفض ، وفي الثاني بمعنى نقرر ، فيتعذر عندي هذا الوجه لما ذكرته من تنوع الترك على الحكم اللفظي أو على حذف مضاف ، ألا ترى أن الترك في قراءة من قرأ بالنون في الفعلين إنما هو بمعنى الرفض غير متنوع ، وأما من قرأ بالنون في «نفعل » والتاء في «تشاء » ف { أن } معطوفة على الأولى ، ولا يجوز أن تنعطف على { ما } لأن المعنى - أيضاً - ينقلب ، فتدبره .
وظاهر فعلهم هذا الذي أشاروا إليه هو بخس الكيل والوزن الذي تقدم ذكره ، وروي أن الإشارة هي إلى قرضهم الدينار والدرهم وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس ، قاله بن كعب وغيره ، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : قطع الدراهم والدنانير من الفساد في الأرض ، فتأول ذلك بهذا المعنى المتقدم ، وتؤول أيضاً بمعنى أنه تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس .
واختلف في قولهم : { إنك لأنت الحليم الرشيد } فقيل : إنما كانت ألفاظهم : إنك لأنت الجاهل السفيه ، فكنى الله عن ذلك وقيل : بل هذا لفظهم بعينه ، إلا أنهم قالوه على جهة الاستهزاء - قاله ابن جريج وابن زيد - وقيل المعنى : إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك . وقيل : بل قالوه على جهة الحقيقة وأنه اعتقادهم فيه ، فكأنهم فندوه{[6472]} ، أي أنه حليم رشيد فلا ينبغي لك أن تأمرنا بهذه الأوامر ، ويشبه هذا المعنى قول اليهود من بني قريظة ، حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا إخوة القردة » ، يا م
حمد ما علمناك جهولاً{[6473]} .
قال القاضي أبو محمد : والشبه بين الأمرين إنما هو المناسبة بين كلام شعيب وتلطفه ، وبين ما بادر به محمد عليه السلام بني قريظة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك}، يعني: أن نعتزل {ما} كان {يعبد آباؤنا}، وكانوا يعبدون الأوثان، {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}، يعنون: إن شيئا نقصنا الكيل والميزان، وإن شئنا وفينا.
{إنك لأنت الحليم}... قالوا ذلك لشعيب استهزاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب: يا شُعَيْبُ، أصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أنْ نَتْرُكَ عبادة ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان والأصنام، "أوْ أنْ نَفْعَلَ فِي أمْوَالِنا ما نَشاءُ"، من كسر الدراهم وقطعها، وبخس الناس في الكيل والوزن.
{إنّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ}، وهو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لم يكن ليفعله في حال الرضى، {الرّشِيدُ}، يعني: رشيد الأمر في أمره إياهم أن يتركوا عبادة الأوثان... وأما قولهم لشعيب: {إنّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرّشِيدُ}، فإنهم أعداء الله قالوا ذلك له استهزاء به، وإنما سفهوه وجهلوه بهذا الكلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال ابن عباس: قالوا ذلك له لأن شعيبا كان يكثر الصلاة كأنه يخرج على الإضمار؛ يقولون: أصلاتك تأمرك بأن تأمرنا بترك عبادة ما عبد آباؤنا...
فتخصيص الصلاة من بين غيرها من الطاعات لما لعلها كانت من أظهر طاعاته عندهم، فقالوا له هذا. ثم يحتمل وجهين:
أحدهما: كأنهم قالوا: (أَصَلواتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) أو أن نفعل كذا على التسفيه له أو التجهيل... كمن يوبخ آخر ويسفهه ويقول: أعلمك يأمرك بذلك؟ وإيمانك يأمرك. هذا كقوله (بئس ما يأمركم به إيمانكم) [البقرة: 98] ونحوه من الكلام يخرج على التسفيه له أو التجهيل.
والثاني: يقال ذلك على الإنكار؛ يقول الرجل لآخر: إيمانك يأمرك بذلك، أو علمك يأمرك بهذا؛ أي لا يأمرك بذلك، يحتمل قول هؤلاء (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) أي لا يأمرك بذلك هذا إذا كانت الصلاة التي ذكروها مرضية عندهم. فإن لم تكن مرضية فالتأويل هو الأول. وقوله تعالى: (أصلواتك تأمرك...) حبب إليهم تقليد آبائهم في عبادة الأصنام واتباعهم إياهم... والأموال التي كانت لهم، فمنعهم هذا عن النظر في الحجج والآيات لما حبب إليهم ذلك. وهكذا جميع الكفرة إنما منعهم عن النظر في آيات الله والتأمل في حججه أحد هذه الوجوه التي ذكرنا: حب الذات ودوام الرئاسات والميل إلى الشهوات، ظنوا أنهم لو اتعبوا رسل الله، وأجابوهم إلى ما دعوهم إليه لذهب عنهم ذلك.
(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) يحتمل قضاء جميع الشهوات ويحتمل ما ذكر من نقصان المكيال والميزان... يقولون أموالنا... ليس لأحد فيها حق، نفعل فيها ما نشاء. وقال بعضهم: قوله (أو نفعل) [الألف صلة] [من م، ساقطة من الأصل] و (أن نفعل في أموالنا ما نشاء)...
(إنك لأنت الحليم الرشيد) أي كنت هكذا، فكيف تركت ذلك؟ وهو ما قال قوم صالح لصالح حين قالوا: (يا صالح قد كنت فينا مرجوا) [الآية: 62]...
{أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ تَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}. وإنما قيل أصلاتك تأمرك لأنها بمنزلة الآمر بالخير والناهي عن الشر، كما قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]... وعن الحسن: أدينك يأمرك؟ أي فيه الأمر بهذا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
استوطؤوا مركب الجهل، واستحلبوا مشْربَ التقليد، وأعْفُوا قلوبَهم من استعمال الفكرِ، واستبصارِ طريقِ الرُّشدِ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: {أصلواتك تَأْمُرُكَ} السخرية والهزء -والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] وأن يقال: إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف، كما يقال: تدعو إليه وتبعث عليه- إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعي عقل، ولا يأمرك به آمر فطنة، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وجعلوا الأمر من فعل الصلوات على جهة التجوز، وذلك أن كل من حصل في رتبة من خير أو شر ففي الأكثر تدعوه رتبته إلى التزيد من ذلك النوع: فمعنى هذا: ألما كنت مصلياً تجاوزت إلى ذم شرعنا وحالنا؟ فكأن حاله من الصلاة جسرته على ذلك فقيل: أمرته، كما قال تعالى:"إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"...
اعلم أن شعيبا عليه السلام أمرهم بشيئين، بالتوحيد وترك البخس فالقوم أنكروا عليه أمره بهذين النوعين من الطاعة، فقوله: {أن نترك ما يعبد آباؤنا} إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد.
وقوله: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان حاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً، كان ذلك محكاً للعقول ومحزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها، فكان كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا يا شعيب} سموه باسمه جفاء وغلظة وأنكروا عليه مستهزئين بصلاته {أصلواتك تأمرك} أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا {أن نترك ما يعبد} أي على سبيل المواظبة {آباؤنا أو} نترك {أن نفعل} أي دائماً {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة... فمعنى الآية حينئذ: أما تعانيه من الصلوات: الحقيقية ذات الأركان، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه -فدارت شبهتهم في الأمرين على تقليد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم، وزادت في الأموال بظن التبذير- فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به {إنك} إذاً {لأنت} وحدك {الحليم} في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام {الرشيد*} في تضييع الأموال، يريدون بهذا كما زعموا -سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} قرأ جمهور القراء [صلواتك] بالجمع، واستدل بها على أنه كان كثير الصلاة، وحمزة والكسائي [صلاتك] بالإفراد، والاستفهام للإنكار، والاستهزاء به وبعبادته عليه السلام، والصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر بما تكسبه من مراقبة الله تعالى، ومن نهى نفسه كان جديرا بأن ينهى غيره، يعنون أهذه الصلاة التي تداوم عليها تقتضي بتأثيرها في نفسك أن تحملنا على ما ترك ما كان عليه آباؤنا من عبادة هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها تقربا إلى الله بها، وتشفعا عنده بجاه الأرواح التي تحتلها، أو الأولياء التي وضعت لذكارهم، وما أنت خير منهم، وأجدر باتباعهم.
{أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} من تنمية واستغلال، وتصرف في الكسب من الناس بما نستطيع من حذق واحتيال، وخديعة واهتبال، وهو حجر على حريتنا، وتحكم في ذكائنا؟ ردوا بهذا وبما قبله عليه دعوته من جانبيها الديني والدنيوي نشرا مرتبا على لف، ونقضا لما بنيت عليه من حجة وعطف، ولذلك ذيلوه بما يشير إلى هذا النقض، فقالوا بصد التعريض والتنديد.
{إنك لأنت الحليم الرشيد} الحليم العاقل الكامل في أناته وترويه فلا يتعجل بأمر قبل الثقة من صحته، والرشيد الراسخ في هدايته وهديه، فلا يأمر إلا بما استبان به من الخير والرشد، ووصفه بهما وصفا مركبا بالجملة الاسمية وإن واللام في تعليل إنكارهم لما أمرهم به وما نهاهم عنه كلاهما صريح في الاستهزاء به، والتعريض بما يعتقدون من اتصافه بضدهما، وهو الجهالة والسفه في الرأي، والغواية في الفعل، بهوس الصلاة، قال ابن عباس [رضي الله عنه]: يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن القوم كانوا قد عتوا ومردوا على الانحراف والفساد، وسوء الاستغلال: (قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد!).. وهو رد واضح التهكم، بين السخرية في كل مقطع من مقاطعه. وإن كانت سخرية الجاهل المطموس، والمعاند بلا معرفة ولا فقه. (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟).. فهم لا يدركون -أو لا يريدون أن يدركوا- أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة، ومن صور العبودية والدينونة. وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل. فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة. وقبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور السقيم لارتباط الشعائر بالعقيدة. وارتباطهما معا بالمعاملات.. قبل أن نمضي طويلا في تسفيه هذا التصور من أهل مدين قبل ألوف السنين، يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب. وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكا من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها -بما فيها أولئك الذين يقولون: إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون- فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر. والشريعة والتعامل. فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله، ووفق أمر غيره.. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله.. وإن كان لا يفوتنا أن اليهود وحدهم اليوم هم الذين يتمسكون بأن تكون أوضاعهم ومعاملاتهم وفق ما يزعمونه عقيدتهم وشريعتهم -وذلك بغض النظر عما في هذه العقيدة من انحراف وما في هذه الشريعة من تحريف- فلقد قامت أزمة في "الكنيست "مجلس تشريعهم في إسرائيل بسبب أن باخرة إسرائيلية تقدم لركابها -من غير اليهود- أطعمة غير شرعية. وأرغمت الشركة والسفينة على تقديم الطعام الشرعي وحده -مهما تعرضت للخسارة- فأين من يدعون أنفسهم "مسلمين!" من هذا الاستمساك بالدين؟!! إن بيننا اليوم -ممن يقولون: إنهم مسلمون!- من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية. وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم. يتساءلون أولا في استنكار: وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ ما للإسلام وتناول كأس من الخمر لإصلاح المزاج؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله "المتحضرون "؟!.. فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين: (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟).. وهم يتساءلون ثانيا. بل ينكرون بشدة وعنف. أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد.. فما للدين والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده. وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية -النظرية الأخلاقية مثلا- ويعدونها تخليطا من أيام زمان! فلا يذهبن بنا الترفع كثيرا على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى. ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله، والسلوك الشخصي في الحياة، والمعاملات المادية في السوق.. تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود!!! وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض. فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد. والشرك ألوان. منه هذا اللون الذي نعيش به الآن. وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان! ويسخر أهل مدين من شعيب -كما يتوقع بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق- فيقولون: (إنك لأنت الحليم الرشيد!).. وهم يعنون عكس معناها. فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير، وأن يفصلوا بين العبادة والتعامل في السوق! وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين!!!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كانت الصلاة من عماد الأديان كلّها. وكان المكذبون الملحدون قد تمالؤوا في كل أمة على إنكارها والاستهزاء بفاعلها {أتواصوا به بل هم قومٌ طاغون} [الذاريات: 53]، فلما كانت الصلاة أخص أعماله المخالفة لمعتادهم جعلوها المشيرة عليه بما بلّغه إليهم من أمور مخالفة لمعتادهم بناء على التناسب بين السبب والمسبب في مخالفة المعتاد قصداً للتهكم به والسخرية عليه تكذيباً له فيما جاءهم به، فإسناد الأمر إلى الصلوات غير حقيقي إذ قد علِم كل العقلاء أن الأفعال لا تأمر> والمعنى أنّ صلاته تأمره بأنهم يتركون، أي تأمره بأن يحملهم على ترك ما يعبد آباؤهم. إذ معنى كونه مأموراً بعمل غيره أنه مأمور بالسعي في ذلك بأن يأمرهم بأشياء. و {ما} في قوله: {ما يعبد آباؤنا} موصولة صادقة على المعبودات. ومعنى تركها ترك عبادتها كما يؤذن به فعل {يعبد}. ويجوز أن تكون {ما} مصدرية بتقدير: أن نترك مثل عبادة آبائنا...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
غير أن المستغلين الشرهين من قوم شعيب لم يتمالكوا أنفسهم من الغضب والاستعلاء، وأخذوا يتبجحون بأن المال الذي يكتسبونه من تجارتهم هو مالهم الخاص، ولذلك فهم فيه أحرار يفعلون به ما يشاؤون، ويتصرفون فيه كيف يريدون، ورفضوا تقييد حريتهم بأي قيد في معاملاتهم التجارية التي اعتادوها، فهم حريصون على اكتساب أكبر ربح ممكن، بأقل عوض ممكن، وهم يعتبرون هذا الأسلوب في التجارة هو أسلوب التجار العقلاء الراشدين في معاملاتهم، وما دونه سفه وبله. ثم يختمون ردهم عليه بقول ظاهره المدح وباطنه القدح، فيقولون: {إنك لأنت الحليم الرشيد}، ومرادهم منه أن من يدعو إلى العدل والإنصاف في البيع والشراء مثل دعوته يعد في نظرهم جاهلا وسفيها، لا حليما ورشيدا، فالرشد في نظر المستغلين، تجارا أو غير تجار، هو ابتزاز أموال الناس بأدنى مقابل، أو بدون مقابل بتاتا، وهذه سنتهم المتوارثة في كل عصر وجيل...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
السخرية سلاح القوم... وهكذا ينتهي حديث شعيب في الدعوة إلى توحيد الله، وفي تطبيق تعليماته، ليبدأ ردّهم عليه، فماذا قالوا؟ هل ناقشوا التوحيد كفكرة في مقابل فكرة الشرك؟ أو هل دافعوا عن فكرة التطفيف من الموقع الذي هاجمه شعيب؟ هل أكدوا فكرة الصلاح فيها، في مواجهة ما أثاره من فكرة الفساد والإفساد، لتكون القضية هي قضية فكر يواجه فكراً؟ إنهم لم يفعلوا ذلك، بل لجأوا إلى أسلوب الإثارة لمواجهة الموقف معتمدين على السخريّة، والكلمات الاستعراضية التي لا ترتكز على حجّة أو دليل بغرض التهرُّب من المسؤولية، وتحطيمه نفسياً. وأخذوا يسخرون من صلاته باعتبارها المظهر البارز لتوحيد العبادة لله، والخط الفاصل بين موقفه وموقفهم، حسب ما ورد في دعوته لهم إلى عبادة الله بأسلوب الصلاة، فحاولوا أن ينظروا إليها باستهانةٍ وازدراءٍ وتهكّمٍ، باعتبارها مصدر الإيحاء في حديثه، فهم لم يجدوا فيها شيئاً مهماً، شكلاً ومضموناً، لأنهم لا يستطيعون استيعاب المعنى الروحي العميق للصلاة، لأن تأثيراتها لا تتمثل في الشكل، بل تحتاج إلى المعاناة الداخلية التي تثير الفكر، وتهز الكيان، وتوقظ الروح...
{أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشاء} إنك تتحدث إلينا بلغة غير سليمة، فلا علاقة للصلاة بأموالنا، ولا علاقة للتوحيد والشرك في ذلك، ولا علاقة لك أنت بأموالنا التي ورثناها من آبائنا، أو التي حصلنا عليها بجدّنا وجهدنا وسعينا، فهي تخصنا وحدنا، وليس لأحد أن يفرض علينا كيفية التصرف بها؛ إننا نملك فيها كل الحرّية التي هي فوق كل أمرٍ، وفوق كل تشريع...
محاولات غير مجدية لاحتواء الرسول {إِنَّكَ لأنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} بما تملكه من هدوء الطبع وسعة الأفق، وعمق النظرة للأمور بحيث تراعي الموازين الحقيقية للأشياء، فكيف صدر منك هذا التصرف، وهذا الكلام الذي يدّل على النزق، وعلى عدم الحكم السليم على القضايا؟ إنهم يحاولون بهذا الأسلوب القيام بعملية تطويق عاطفيّ، واحتواءٍ نفسي له، بإثارة شعوره بمكانته الرفيعة عندهم، كي يقوده ذلك إلى التراجع عن موقفه، ليحتفظ بهذه المكانة، كما هو شأن الكثير من الناس الذين يريدون الحصول على ثقة المجتمع، بالانسجام مع ما يحب ويرغب. ولكن أنبياء الله لا يعيشون لأنفسهم، بل يعيشون لرسالتهم، ولذلك فإنّهم لا يتنازلون عن خط الرسالة لحساب الذات، وإذا أرادوا الوصول إلى ثقة المجتمع، فإنما يريدونها على أساس الثقة بالرسالة، لتكون قيمة الذات، في ما تجسّده من السلوك الرساليّ، لا في ما تجسّده من صفات الذات، ولذلك رأينا النبيّ شعيب يقف أمامهم بقوّة من دون أيّ تأثّرٍ عاطفيّ بما قالوه...