102- وإذا كنت - أيها النبي الأمين - فيهم وقامت صلاة الجماعة ، فلا تنسوا الحذر من الأعداء ، وذلك بتقسيم المسلمين إلى طائفتين : إحداهما تبدأ الصلاة مقتدية بك ، وتكون الأخرى قائمة على الأسلحة والأمتعة لحراستها ، فإذا أتممت نصف الصلاة ذهبت التي صلت وراءك وجاءت الأخرى فصليت بها الباقي ، ثم تصلي ما فاتها وتصلي الأولى بقية الصلاة ، وتسمى لاحقة{[44]} والأخرى مسبوقة ، إذ تؤدى أول الصلاة ، واللاحقة تؤدى آخرها ، وذلك التنظيم لكي لا تفوت الصلاة ، وللحذر من الكافرين الذين يودون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلوا عليكم دفعة واحدة ، ويَنْقَضوُّا عليكم وأنتم في الصلاة ، وأن قتال المشركين مستمراً واجب ، ولكن لا إثم عليكم أن تسكنوا إذا كان بكم مرض أو نزل مطر عاق عن القتال ، ولكن على أن تكونوا على حذر دائم ، وهذا عقاب الله للكافرين في الدنيا ، وفي الآخرة أعد لهم عذاباً مهيناً مذلاً .
قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن المشركين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يصلون جماعة ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم ، فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ، يعني صلاة العصر ، فإذا قاموا فيها فشدوا عليهم فاقتلوهم ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، إنها صلاة الخوف ، وإن الله عز وجل يقول : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } فعلمه صلاة الخوف . وجملته : أن العدو إذا كانوا في معسكرهم في غير ناحية القبلة ، فيجعل الإمام القوم فرقتين ، فتقف طائفة وجاه العدو تحرسهم ، ويشرع الإمام مع طائفة في الصلاة ، فإذا صلى بهم ركعة قام وثبت قائماً ، حتى أتموا صلاتهم وذهبوا إلى وجاه العدو ، ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية ، وثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم الصلاة ، ثم يسلم بهم ، وهذه رواية سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بذات الرقاع . وإليه ذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، أنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف ، أن طائفة صفت معه ، وصفت طائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ، ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالساً ، وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم . قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسدد ، أنا يحيى ، عن شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا . وذهب قوم إلى أن الإمام إذا قام إلى الركعة الثانية تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وجاه العدو ، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي به الركعة الثانية ، ويسلم وهم لا يسلمون بل يذهبون إلى وجاه العدو ، وتعود الطائفة الأولى فتتم صلاتها ، ثم تعود الطائفة الثانية فتتم صلاتها .
وهذه رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك . وهو قول أصحاب الرأي .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، أنا يزيد بن زريع ، أنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم فقام هؤلاء فصلوا ركعتهم . وكلتا الروايتين صحيحة ، فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح ، وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى حديث سهل بن أبي حثمة لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن ، وأحوط للصلاة ، وأبلغ في حراسة العدو ، وذلك لأن الله تعالى قال : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } أي : إذا صلوا ، ثم قال : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } ، وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا ، وقال : { فليصلوا معك } ومقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة ، فظاهره يدل على أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة ، والاحتياط لأمر الصلاة ؛ من حيث إنه لا يكثر فيها العمل ، والذهاب ، والمجيء ، والاحتياط لأمر الحرب من حيث إنهم إذ لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب ، والهرب ، إن احتاجوا إليه . ولو صلى الإمام أربع ركعات بكل طائفة ركعتين جاز .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال : أنا الصاغاني ، أنا عفان بن مسلم ، ثنا أبان العطار ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع ، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة ، فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتخافني ؟ قال : لا . قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : الله يمنعني منك ، قال : فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأغمد السيف وعلقه ، فنودي بالصلاة ، قال : فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، قال : فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتان .
أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، اخبرني الثقة بن علية أو غيره ، عن يونس ، عن الحسن ، عن جابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ، ببطن نخل ، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم .
وروي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بهؤلاء ركعة ، وبهؤلاء ركعة ، ولم يقضوا .
ورواه زيد بن ثابت وقال : كانت للقوم ركعة واحدة ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان . وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف ، وقالوا : الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة ، وأكثر أهل العلم على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات ، وإن كان العدو في ناحية القبلة ، في مستوى إن حملوا عليهم رأوهم ، صلى الإمام بهم جميعاً وحرسوا في السجود ، كما أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو نعيم الإسفرايني ، أنا أبو عوانة الحافظ ، أنا عمار ، أنا زيد بن هارون ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فصففنا خلفه صفين ، والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً ، ثم ركع وركعنا جميعاً ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى ، فقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود ، ثم قاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر ، وتأخر المقدم ، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعاً ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً ، قال جابر رضي الله عنه : كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم .
واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . عند عامة أهل العلم . ويحكي عن بعضهم عدم الجواز ، ولا وجه له . وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه : كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف بالعمل به جائز . روي فيها ستة أوجه ، أو سبعة أوجه . وقال مجاهد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غرة ، لو حملنا عليهم ، وهم في الصلاة ، فنزلت الآية بين الظهر والعصر .
قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } أي : شهيداً معهم .
قوله تعالى : { فأقمت لهم الصلاة }
قوله تعالى : { فلتقم طائفة منهم معك } ، أي : فلتقف ، كقوله تعالى : { وإذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة :20 ] أي : وقفوا .
قوله تعالى : { وليأخذوا أسلحتهم } . واختلفوا في الذين يأخذون أسلحتهم ، فقال بعضهم : أراد هؤلاء الذين وقفوا مع الإمام يصلون ، يأخذون الأسلحة في الصلاة ، فعلى هذا إنما يأخذه إذا كان لا يشغله عن الصلاة ، ولا يؤذي من بجنبه ، فإذا شغلته حركته وثقلته عن الصلاة كالجعبة ، والترس الكبير ، أو كان يؤذي من بجنبه كالرمح ، فلا يأخذه . وقيل : ( وليأخذوا أسلحتهم ) أي : الباقون الذين قاموا في وجه العدو .
قوله تعالى : { فإذا سجدوا } ، أي : صلوا .
قوله تعالى : { فليكونوا من ورائكم } . يريد مكان الذين هم وجاه العدو .
قوله تعالى : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } ، وهم الذين كانوا في وجه العدو .
قوله تعالى : { فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } ، قيل : هؤلاء الذين أتوا ، وقيل : هم الذين صلوا .
قوله تعالى : { ود الذين كفروا } ، يتمنى الكفار .
قوله تعالى : { لو تغفلون } أي : لو وجدوكم غافلين .
قوله تعالى : { عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } ، فيقصدونكم ويحملون عليكم حملةً واحدة .
قوله تعالى : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } ، رخص في وضع السلاح في حال المطر ، والمرض ، لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين .
قوله تعالى : { وخذوا حذركم } ، أي : راقبوا العدو كيلا يتغفلوكم ، والحذر ما يتقى به من العدو ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه غزا محارباً ، وبني أنمار ، فنزلوا لا يرون من العدو أحداً ، فوضع الناس أسلحتهم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش ، فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة ، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي ، فقال : قتلني الله إن لم أقتله ، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده ، فقال : يا محمد : من يعصمك مني الآن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله ، ثم قال : اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت ، ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فانكب لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه ، وندر سيفه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ، ثم قال : يا غورث ، من يمنعك مني الآن ؟ قال : لا أحد ، قال : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأعطيك سيفك ؟ قال : لا ، ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ، ولا أعين عليك عدواً ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ، فقال غورث : والله لأنت خير مني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :أجل أنا أحق بذلك منك ، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا : ويلك ما منعك منه ؟ قال : لقد أهويت إليه بالسيف لأضربه ، فو الله ما أدري من زلخني بين كتفي ، فخررت لوجهي ، وذكر حاله ، قال : وسكن الوادي ، فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه ، فأخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم هذه الآية : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } أي : من عدوكم . وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية كان عبد الرحمن بن عوف جريحاً .
قوله تعالى : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } ، يهانون فيه . والجناح : الإثم ، من جنحت : إذا عدلت عن القصد .
ثم شرع - سبحانه - فى بيان صفة صلاة الخوف فى جماعة فقال - تعالى - { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } .
والمعنى : وإذا كنت يا محمد فى أصحابك وشهدت معهم القتال { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } أى : فأردت أن تقيم لهم الصلاة فى جماعة لتزدادوا أجراً ورعاية من الله وأنتم تقاتلون أعداءه ، فعليك فى هذه الحالة أن تقسم أصحابك إلى قسمين ، ثم بعد ذلك { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } أى فلتقم جماعة من أصحابك معك فى الصلاة ، أما الطائفة الأخرى فلتكن بإزاء العدو ليحرسوكم منهم .
والضمير فى قوله { وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ } يعود إلى الرجال الذين معه فى الصلاة . . أى : ولتأخذ الطائفة القائمة معك فى الصلاة أسلحتها معها وهى فى الصلاة حتى تكون عليى أهبة القتال دائما .
وقوله { فَإِذَا سَجَدُواْ } أى : الرجال القائمون معك فى الصلاة سجدوا فى الركعة الأولى وأتموا الركعة { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أى : فلينصرفوا بعد ذلك من صلاتهم ليكونوا فى مقابلة العدو للحراسة . فالضمير فى الكل يعود إلى المصلين معه .
وقيل المعنى : فإذا سجد الرجال الذين قاموا معك للصلاة ، فليكن الرجال الآخرون الذين ليسوا فى الصلاة من ورائكم لحماية ظهوركم ، ولمنع نزول الأذى بكم من أعدائكم . وعليه فيكون الضمير فى قوله { فَلْيَكُونُواْ } يعود إلى الطائفة الثانية التى ليست فى الصلاة .
وقوله : { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } بيان لما يجب أن تفعله الطائفة الأخرى التى لم تدخل فى الصلاة بعد . أى : فإذا ما انصرفت الطائفة الأولى للحراسة فلتأت الطائفة التى كانت قبل ذلك فى الحراسة والتى لم تصل بعد { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } الركعة الأوفى وأنت يا محمد فى الركعة الثانية . وعليهم أيضا أن يكونوا كمن سبقهم حاملين لأسلحتهم التى لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والحنجر وما يشبه ذلك ، حتى إذا ما باغتكم المشركون بالهجوم كنتم دائما على استعداد لمواجهتهم ، وكنتم دائما على يقظة من مكرهم .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أمر المؤمنين بالمحافظة على الصلاة حتى فى حالة الحرب ، وأمرهم فى الوقت ذاته بأن يكونوا يقظين آخذين حذرهم وأسلحتهم من مباغتة أعدائهم لهم حتى لا يتوهم أولئك الأعداء أن الصلاة ستشغل المؤمنين عن الدفاع عن أنفسهم .
وقوله { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } استعمل لفظ الأخذ فيه الحقيقة والمجاز . لأن أخذ الحذر كناية عن شدة اليقظة ودوام الترقب . وأخذ الأسلحة حقيقة فى حملها للدفاع بها عن النفس .
وقدم - سبحانه - الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة ؛ لأن أخذ الأسلحة نوع من الحذر ، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف وتحركها واجب حتى لا يباغتهم الأعداء وهم يتحولون من مكان إلى مكان ، وهذا أشبه بتغيير الخطط وقت القتال ، وهو أمر له خطورته فوجب أن تشتد يقظة المسلمين حينئذ .
وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : فإن قلت لما ذكر فى أول الآية الأسلحة فقط ، وذكر هنا الحذر والأسلحة ؟ قلت : لأن العدو قلما يتنبه للمسلمين فى أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمبن فى المحاربة والمقاتلة . فإذا قاموا إلى الركعة الثانية ظهر للكفار أن المسلمين فى الصلاة ، فحينئذ ينتهزون الفرصة فى الإِقدام على المسلمين فلا جرم أن الله - تعالى - أمرهم فى هذا الموضع بزيادة الحذر من الكفار مع أخذ الأسلحة .
وقوله - تعالى - { وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً } بيان لما من أجله أمروا بأخذ الحذر والسلام . والخطاب لجميع المؤمنين .
وقوله { وَدَّ } من الود وهو محبة الشئ وتمنى حصوله .
والأسلحة : جمع سلاح . وهو اسم جنس لآلات الحرب التى يستعلمها الناس فى حروبهم وقتالهم .
والأمتعة . جمع متاع . وهو كل ما ينتفع به من عروض وأثاث . والمراد به هنا : ما يكون مع المحاربين من أشياء لا غنى لهم عنها كبعض ملابسهم وأطعمتهم ومعداتهم .
و { لَوْ } فى قوله { لَوْ تَغْفُلُونَ } مصدرية . وقوله { مَّيْلَةً } منصوب على المفعول المطلق لبيان العدد .
والمعنى : كونوا دائماً - أيها المؤمنون - فى أقصى درجات التنبه والتيقظ والحذر ، فإن أعداءكم الكافرين يودون ويحبون غفلتكم وعدم انتباهكم عن أسلحتكم وأمتعتكم التى تستعملونها فى قتالكم لهم ، وفى هذه الحالة يحملون عليكم حملة واحدة قوية شديدة ليقتلوا منكم من يستطعيون قتله . فعليكم - أيها المؤمنون - أن تجمعوا بين الصلاة والجهاد جمعا مناسبا حكيما بحيث لا يشغلكم أحد الأمرين عن الآخر أو عن حسن الاستعداد لمجابهة أعدئاكم الذين يتربصون بكم الدوائر .
فالآية الكريمة من مطلعها إلى هنا تراها تأمر بشدة وتكرار بأخذ الحذر وحمل السلاح لمجابهة أى مباغتة من المشركين . ومع هذا فقد رخص الله - تعالى - للمؤمنين بوضع السلاح فى أحوال معينة دون أن يرخص لهم فى أخذ الحذر فقال - تعالى - ؛ { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } .
أى : ولا حرج ولا إثم عليكم - أيها المؤمنون - فى أن تضعوا أسلحتكم فى أغمادها فلا تحملوها { إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ } يثقل معه حمل السلاح { أَوْ كُنتُمْ مرضى } بحيث يشق عليكم حملها ، ومع كل هذا فلا بد من أخذ الحذر من أعدائكم ؛ بأن تكونوا على يقظة تامة من مكرهم ، وعلى أحسن استعداد لدحرهم إذا ما باغتوكم بالهجوم .
وقوله { إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } تذييل قصد به تشجيع المؤمنين على مقاتلة أعدائهم وأخذ الحذر منهم .
أى : إن الله - تعالى - أعد لأعدائكم الكافرين عذابا مذلا لهم فى الدنيا والآخرة . أما فى الدنيا فبنصركم عليهم وإذهاب صولتهم ودولتهم ، كما قال - تعالى - { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وأما فى الآخرة فالبعذاب الذى يهينهم ويذلهم ولا يستطعيون منه نجاة أو مهربا . وإذا كان الأمر كذلك فباشروا - أيها المؤمنون - الأسباب التى توصلكم إلى النصر عليهم .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى التى أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
1- قال الآلوسى : تعلق بظاهر قوله - تعالى - { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } . من خص صلاة الخوف بحضرته صلى الله عليه وسلم كالحسن بن زيد ونسب ذلك أيضا لأبى يوسف ، ونقله عنه الجصاص فى كتاب الأحكام ، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم نوابه ، وقوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما فى قوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وقد أخرجه أبو داود والنسائى وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم . قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . ثم وصف له ذلك فصلوا كما وص ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكره أحد منهم . وهم الذين لا تأخذهم فى الله لومة لائم ، وهذا يحل محل الإِجماع .
2- أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة مشروعية صلاة الخوف وصفتها وأنه يطلب فيها حمل الصلاح إلا لعذر . وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى وغيرهم عن أبى عياش الزرقى قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد . وهم بيننا وبين القبلة . فصلى بنا النبى صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا : قد كانوا على حال لو أصابنا غرتهم ثم قالوا : تأتى عليهم الآن صلاة هى أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم .
فنزل جبريل بهذه الآية { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } . . الخ بين الظهر والعصر .
3- وردت روايات متعددة يؤخذ منها أن النبى صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الخوف على هيئات مختلفة وفى مواضع متعددة . ويشهد لهذا قول القرطبى . وقد اختلفت الروايات فى هيئة صلاة الخوف . واختلف العلماء لاختلافها . فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها فى عشر مواضع . وقال ابن العربى : روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة . وقال الإِمام أحمد بن حنبل - وهو إمام أهل الحديث والمقدم فى معرفة علل النقل فيه - لا أعلم أنه روى فى صلاة الخوف إلا حديث ثابت . وهى كلها صحاح ثابتة . فعلى أى حديث صلى منها المصلى صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله .
وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون فى غير صوبها ، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبل القبلة وغير مستقبليها لعذر القتال كما أخر النبى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى المغرب والعشاء . وأما الجمهور فقالوا هذا منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك . ونظرا لاختلاف الروايات الواردة فى كيفية صلاة الخوف ، فقد اختلف الفقهاء فى كيفية أدائها تبعا لما فهمه كل فريق من تلك الروايات . وهاك بعض مذاهبهم :
( أ ) ذهب الإِمام أبو حنيفة ومن تابعه إلى أن يكفية صلاة الخوف أن يقسم الإِمام الناس طائفتين : طائفة تكون مع الإِمام والأخرى بإزاء العدو . فيصلى بالذين مع ركعة ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتى الطائفة الخرى التى كانت بإزاء العدو فيصلى بهم الإِمام الركعة الثانية ويسلم هو .
ثم تأتى الطائفة الأولى فتصلى ركعة بغير قراءة ، لأنها فى رأيهم لاحقة . أى كأنها وراء الإِمام حكما طول الصلاة ، ولا قراءة عندهم وراء الإِمام ثم تتشهد وتسلم . وتذهب إلى وجه العدو فتأتى الطائفة الثاينة فتقضى ركعة بقراءة ثم تتشهد وتسلم . وإنما صلت هذه ركعتها بقراءة لأنها عندهم مسبوقة ، فتكون كمن أدرك آخر صلاة الإِمام وفاتته ركعة . فتكون القراءة واجبة فى حقها . وهذه الكيفية لصلاة الخوف التى أخذ بها الإِمام أبو حنيفة قد وردت فى روايات عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم :
( ب ) الإِمام مالك فيرى أن كيفية صلاة الخوف تكون كالآتى : أن يقسم الإِمام الناس إلى طائفتين : طائفة تكون معه وطائفة تكون بإزاء العدو . ثم يصلى بالطائفة التى معه ركعة ولا يسلم وتتم هى الركعة الثانية وحدها ثم تتشهد وتسلم وتذهب إلى مكان الطائفة الثاينة ، وتأتى الطائفة الثانية فتقف خلف الإِمام فيصلى معها الركعة الثانية ثم يجلسون للتشهد ويسلم الإِمام وحده أماهم فيقومون فيصلون وحدهم الكرعة التى بقيت ثم يتشهدون ويسلمون .
وقريب من هذه الكيفية ماذهب إليه الإِمام الشافعى فهو يوافق المالكية فيما ذهبوا إليه إلا أنه قال : لا يسلم الإِمام حتى تتم الطائفة الثانية صلاتها ثم يسلم معهم .
ويذهب الإِمام أحمد بن حنبل فى كيفية صلاة الخوف إلى ما ذهب إليه الإِمام مالك .
وفى رواية عنه أنه يوافق ما ذهب إليه الشافعية .
وهذا كله فيما إذا كانت الصلاة ثنائية فى الأصل كالفجر أو رباعية فإنها تقصر إلى ثنائية .
أما إذا كانت صلاة الخوف فى المغرب فيرى جمهور الفقهاء أن الإِمام يصلى بالطائفة الأولى ركعتين ، وبالطائفة الثانية ركعة ثم تتم كل طائفة ما بقى عليها بالطريقة التى سبق ذكرها عند الأئمة ، والتى بسطها العلماء فى كتب الفقه .
4- ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية أهمية صلاة الجماعة ، لأن الله - تعالى - أمر المسلمين بأن يؤدوا الصلاة فى جماعة حتى وهم فى حالة الاستعداد للقاء أعدائهم .
قال ابن كثير : ما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة . حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة . فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك .
5- كذلك من الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية أن الإِسلام دين يأمر أتباعه بأداء الصلاة حتى ولو كانوا فى ساحة المعركة ، وذلك لأن الصلاة صلة بين العبد وربه ، ومتى حسنت هذه الصلة بين المجاهد وخالقه ، فإنه - سبحانه - يكلؤه بعين رعايته ، ويمده بنصره وتأييده . وأن الإِسلام بجانب هذا الاهتمام الشديد بشأن الصلاة فإنه يهتم أيضا بأن يأمر أتابعه بالحذر من مكر أعدائهم ومن مباغتهم لهم ، بأن يكون المؤمنون مستعدين لصدهم وردهم على أعقابهم ، وأن لا يغفلوا عن حمل أسلحتهم حتى ولو كانوا قائمين للصلاة .
وبهذا نرى أن الإِسلام يربى أتباعه تربية روحية وعقلية وبدينة من شأنها أن توصلهم - متى حافظوا عليها - إلى ما يعلى كلمتهم فى الدنيا ، ويرفع درجاتهم فى الآخرة .
وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض ، الخائف من فتنة الذين كفروا ، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة ؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى :
( وإذا كنت فيهم ، فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم ؛ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ؛ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة . ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم . وخذوا حذركم ، إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ) . ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم . فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتًا ) . .
إن المتأمل في أسرار هذا القرآن ؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية ، المتمثل فيه ، يطلع على عجب من اللفتات النفسية ، النافذة إلى أعماق الروح البشرية . ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة . .
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم " الفقهي " في صفة صلاة الخوف . ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة .
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة ! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني . إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة . بل أنها السلاح ! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح ، بما يتناسب مع طبيعة المعركة ، وجو المعركة !
ولقد كان أولئك الرجال - الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني - يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح . لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة ؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة . متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله ؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعا . متفوقين أيضا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني ، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشى ء من تفوق منهجهم الرباني . . وكانت الصلاة رمزا لهذا كله ، وتذكير بهذا كله . ومن ثم كانت سلاحا في المعركة . بل كانت هي السلاح !
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو . وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ، ليميل عليهم ميلة واحدة ! ومع هذا التحذير والتخويف ، التطمين والتثبيت ؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوما كتب الله عليهم الهوان : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . . وهذا التقابل بين التحذير والتطمين ؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة ؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم ، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم !
أما كيفية صلاة الخوف ؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء ، أخذا من هذا النص ، ولكننا نكتفي بالصفة العامة ، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة .
( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم . ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك . وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) . .
والمعنى : إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة ، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى . على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم . فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة ، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل . فلتصل معك ركعة كذلك . [ وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين ] .
عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام . وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الثانية - ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم - بينما تحرسها الطائفة الأولى . .
وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول [ ص ] وكذلك مع خلفائه وأمرائه ، وأمراء المسلمين [ منهم ] في كل معركة .
( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فيميلون عليكم ميلة واحدة ) . .
وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة . والسنون تتوالى ، والقرون تمر ، فتؤكد هذه الحقيقة ، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى . وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة . كما يضع لها الخطة الحركية أحيانا . على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف .
على أن هذا الحذر ، وهذه التعبئة النفسية ، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر ، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة . فهم يأخذون منه بقدر الطاقة :
( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ، أو كنتم مرضى ، أن تضعوا أسلحتكم ) فحمل السلاح في هذه الحالة يشق ، ولا يفيد . ويكفي أخذ الحذر ؛ وتوقع عون الله ونصره : ( وخذوا حذركم . إن الله أعد للكافرين عذابا مهينًا ) . .
ولعل هذا الاحتياط ، وهذه اليقظة ، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين . فيكون المؤمنون هم ستار قدرته ؛ وأداة مشيئته . . وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر ؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذابا مهينا . .
صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صَوْبها ، والصلاة تارة تكون رباعية ، وتارة ثلاثية كالمغرب ، وتارة ثنائية ، كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالا وركبانا ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة .
ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة ؛ لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل . قال المنذري في الحواشي : وبه قال عطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد . وإليه ذهب طاوس والضحاك .
وقد حكى أبو عاصم العَبَّادي{[8216]} عن محمد بن نصر المروزي ؛ أنه يرى رَدَّ الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضًا .
وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة ، تومئ بها إيماء ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ؛ لأنها ذكر الله .
وقال آخرون : تكفي تكبيرة واحدة . فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بُخْت المكي ، حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة{[8217]} فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عَيَّاش ، عن شعيب بن دينار ، عنه ، فالله أعلم .
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة العصر ، قيل : والظهر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء . وكما قال
بعدها - يوم بني قريظة ، حين جهز إليهم الجيش - : " لا يصلينّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة " ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيلَ المسير ، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق . وأخَّر آخرون منهم العصر ، فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يُعَنِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين{[8218]} وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة ، وبَيَّنا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر ، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا ، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد{[8219]} من الطائفة الملعونة اليهود . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف ، فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري ، الذي رواه الشافعي وأهل السنن ، ولكن يشكل على هذا{[8220]} ما حكاه البخاري رحمه الله ، في صحيحه ، حيث قال :
" باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو " : قال الأوزاعي : إن كان تَهَيَّأ الفتحُ ولم يقدروا على الصلاة ، صَلُّوا إيماء ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاة حتى ينكشف القتال ، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين . فإن لم يقدروا صَلُّوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ، ويؤخرونها حتى يأمنوا . وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة{[8221]} حصن تُسْتر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نُصَلِّ إلا بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، فَفُتح لنا ، قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها . {[8222]}
انتهى ما ذكره ، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ، ثم بحديث أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم .
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج{[8223]} بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر{[8224]} غالبا ، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ، ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم .
[ و ]{[8225]} قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق ؛ لأن ذات الرِّقَاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي . وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق ، وموسى بن عقبة ، والواقدي ، ومحمد بن سعد كاتبه ، وخليفة بن خَيَّاط وغيرهم{[8226]} وقال البخاري وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى وما قَدم إلا في خيبر ، والله أعلم . والعجب - كل العجب - أن المُزني ، وأبا يوسف القاضي ، وإبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره ، عليه السلام ، الصلاة يوم الخندق . وهذا غريب جدًّا ، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف ، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب ، والله أعلم .
فقوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } أي : إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف ، وهذه حالة غير الأولى ، فإن تلك قصرها إلى ركعة ، كما دل عليه الحديث ، فرادى ورجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد . وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك ، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } فبعده تفوت هذه الصفة ، فإنه استدلال ضعيف ، ويُرَدُّ عليه مثل قول مانعي الزكاة ، الذين احتجوا بقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [ التوبة : 103 ] قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، بل نخرجها نحن بأيدينا{[8227]} على من نراه ، ولا ندفعها إلى من صلاته ، أي : دعاؤه ، سكن لنا ، ومع هذا ردَّ عليهم الصحابة وأبَوْا عليهم هذا الاستدلال ، وأجبروهم على أداء الزكاة ، وقاتلوا من منعها منهم .
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها :
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، أنبأنا سيف{[8228]} عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظّهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها . قال : فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا . وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } إلى قوله : { أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } ]{[8229]} فنزلت صلاة الخوف .
وهذا سياق غريب جدا{[8230]} ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزُّرَقي ، واسمه زيد بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : لقد{[8231]} كانوا على حال لو أصبنا غُرَّتَهم . ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم . قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : فحضرت ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، [ قال ]{[8232]} فصفنا{[8233]} خلفه صفين ، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ، ثم رفع فرفعنا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم انصرف . قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم .
ثم رواه أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن منصور ، به نحوه . وهكذا رواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن جرير بن عبد الحميد ، والنسائي من حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد ، كلهم عن منصور ، به{[8234]} .
وهذا إسناد صحيح ، وله شواهد كثيرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال : حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح ، حدثنا محمد بن حرب ، عن الزُّبيدي ، عن الزُّهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركع ناس منهم ، ثم سجد وسجدوا معه ، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا ، وحرسوا إخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه ، والناس كلهم في الصلاة ، ولكن يحرس بعضهم بعضًا{[8235]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليَشْكُري : أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة : أي يوم أنزل ؟ أو : أي يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقى عِيرَ قريش آتية من الشام ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . قال : " نعم " ، قال : هل تخافني ؟ قال : " لا " . قال : فما{[8236]} يمنعك مني ؟ قال : " الله يمنعني منك " . قال : فَسلَّ السيف ثم تهدده وأوعده ، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم . فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، والقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج{[8237]} حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سليمان بن قيس اليَشْكُري ، عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خَصَفَة{[8238]} فجاء رجل منهم يقال له : " غورث بن الحارث " حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال : من يمنعك مني ؟ قال : " الله " ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ومن يمنعك مني " ؟ قال : كن خير آخذ . قال : " أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ " قال : لا ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فأتى قومه فقال : جئتكم{[8239]} من عند خير الناس . فلما حضرت الصلاة صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء العدو ، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فصلى بالطائفة{[8240]} الذين معه ركعتين ، وانصرفوا ، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم . وانصرف الذين بإزاء عدوهم فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين .
تفرد به من هذا الوجه{[8241]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم ، حدثنا المسعودي ، عن يزيد الفقير قال : سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر : أقصرهما ؟ قال : الركعتان في السفر تمام ، إنما القصر واحدة عند القتال ، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذْ أقيمت الصلاة ، فقام رسول الله صلى فصف طائفة ، وطائفة وجهها قِبَل العدو ، فصلَّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا ، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم ، وسلم الذين خلفه ، وسلم أولئك ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وللقوم ركعة ركعة ، ثم قرأ : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ }{[8242]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صفٌّ بين يديه ، وصفٌّ خلفه ، فصلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم ، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة .
ورواه النسائي من حديث شعبة ، ولهذا الحديث طرق عن جابر{[8243]} وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر{[8244]} وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمساند .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيْم بن حمَّاد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : هي صلاة الخوف ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة . وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر ، به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة ، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في سرد طُرُقه وألفاظه ، وكذا ابن جرير ، ولنحرره في كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة .
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف ، فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية ، وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } أي : بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
الضمير في { سجدوا } للطائفة المصلية والمعنى : فإذا سجدوا معك الركعة الأولى فلينصرفوا ، هذا على بعض الهيئات المروية والمعنى : فإذا سجدوا ركعة القضاء وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة ، والضمير في قوله : { فليكونوا } يحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولاً بإزاء العدو ويجيء الكلام وصاة في حال الحذر والحرب ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «فلِتقم » بكسر اللام ، وقرأ الجمهور { ولتأت طائفة } بالتاء ، وقرأ أبو حيوة «وليأت » بالياء ، وقوله تعالى : { ود الذين كفروا } الآية إخبار عن معتقد القوم وتحذير من الغفلة ، لئلا ينال العدو أمله . وأسلحة جمع سلاح ، وفي قوله تعالى : { ميلة واحدة } بناء مبالغة أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية ، وقوله تعالى : { ولا جناح عليكم } الآية ترخيص ، قال ابن عباس : نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف ، كان مريضاً فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب ، فرخص الله تعالى في هاتين الحالتين ، وينقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت ، ثم قوى الله تعالى نفوس المؤمنين بقوله { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } .