قوله تعالى : { قالت إحداهما يا أبت استأجره } اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا ، { إن خير من استأجرت القوي الأمين } يعني : خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة ، فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ قالت : أما قوته : فإنه رفع حجراً من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة . وقيل : إلا أربعون رجلاً ، وأما أمانته : فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك .
ثم يحكى القرآن بعد ذلك ، ما أشارت به إحدى الفتاتين على أبيها : فقال - تعالى - : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } ولعلها التى جاءت إلى موسى على استحياء لتقوله له : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } .
{ ياأبت استأجره } أى : قالت لأبيها بوضوح واستقامة قصد - شأن المرأة السليمة القطرة النقية العرض القوية الشخصية - يا أبت استأجر هذا الرجل الغريب ليكفينا تعب الرعى ، ومشقة العمل خارج البيت .
ثم عللت طلبها بقولها : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } أى : استأجره ليرى غنمنا ، فإنه جدير بهذه المهمة ، لقوته وأمانته ، ومن جمع فى سلوكه وخلقه بين القوة والأمانة ، كان أهلا لكل خير ، ومحلا لثقة الناس به على أموالهم وأعراضهم .
قال ابن كثير : قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضى ، وأبو مالك ، وقتادة . . . وغير واحد : لما قالت : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : وما علمك بذلك ؟ قالت : إنه رفع الصخرة التى لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لى : كونى من ورائى ، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفى - أى فارمى - بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدى إليه .
ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة :
( قالت إحداهما ؛ يا أبت استأجره . إن خير من استأجرت القوي الأمين ) .
إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء ، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال . وهي تتأذى وأختها من هذا كله ؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت ؛ امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى . والمرأة العفيفة الروح النظيفة القلب ، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة .
وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوي أمين . رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما . وهو غريب . والغريب ضعيف مهما اشتد . ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته . فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل . وهو قوي على العمل ، أمين على المال . فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه . وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب ، ولا تخشى سوء الظن والتهمة . فهي بريئة النفس ، نظيفة الحس ؛ ومن ثم لا تخشى شيئا ، ولا تتمتم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها .
ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى . كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه - فيما قالوا - إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل . فالبئر لم يكن مغطى ، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين ، أو سقى لهما مع الرعاء .
ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة : امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها . أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها . . فهذا كله تكلف لا داعي له ، ودفع لريبة لا وجود لها . وموسى - عليه السلام - عفيف النظر نظيف الحس ، وهي كذلك ، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة . فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع !
وقوله : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ } أي : قالت إحدى ابنتي هذا الرجل . قيل : هي التي ذهبت وراء موسى ، عليه السلام ، قالت لأبيها : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } أي : لرعْية هذه{[22257]} الغنم .
قال عمر ، وابن عباس ، وشُريح القاضي ، وأبو مالك ، وقتادة ، ومحمد بن إسحاق ، وغير واحد : لما قالت : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ } قال لها أبوها : وما علمك بذلك ؟ قالت : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وإنه لما جئت معه تقدمتُ أمامهُ ، فقال لي : كوني من ورائي ، فإذا اجتنبت{[22258]} الطريق فاحذفي [ لي{[22259]} ] بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأتهدّى{[22260]} إليه .
قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عُمَر ، وصاحب يوسف حين قال : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } [ يوسف : 21 ] ، وصاحبة موسى حين قالت : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ } .
{ قالت إحداهما } يعني التي استدعته . { يا أبت استأجره } لرعي الغنم . { إن خير من استأجرت القوي الأمين } تعليل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه ، جعل { خير } اسما وذكر الفعل بلفظ الماضي لدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف . روي أن شعيبا قال لها وما أعلمك بقوته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه .
فلما فرغ كلامهما قالت الابنة التي ذهبت عنه { يا أبت استأجره } الآية ، فما وصفته بالقوة والأمانة قال لها أبوها ومن أين عرفت هذا منه ؟ فقالت : أما قوته ففي رفع الصخرة وأما أمانته ففي تحرجه من النظر إليَّ وقت هبوب الريح ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم ، فقال له عند ذلك الأب { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيَّ } .
حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه ، وانتقل منه إلى عَرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم ببيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته .
والتاء في { أبت } عوض عن ياء المتكلم في النداء خاصة وهي يجوز كسرها وبه قرأ الجمهور . ويجوز فتحها وبه قرأ ابن عامر وأبو جعفر .
وجملة { إن خير من استأجرت القوي الأمين } علة للإشارة عليه باستئجاره ، أي لأن مثله من يستأجر . وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف ، فالتعريف باللام في { القوي الأمين } للجنس مراد به العموم . والخطاب في { من استأجرت } موجه إلى شعيب ، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً . فالتقدير : من استأجر المستأجر . و { من } موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين .
وجعل { خير من استأجرت } مسنداً إليه بجعله اسماً لأن جعل { القوي الأمين } خبراً مع صحة جعل { القوي الأمين } هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه { خير } ، وفي المعرّف باللام هنا العموم في كليهما ، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير ، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة { استأجره } فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفسُ السامع أشد ترقباً لحاله .
ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه ممن يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفاً المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتاً للحكم بدليل . فتقدير معنى الكلام : استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجر مستأجر القوي الأمين . فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي ، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما موسى لأبيها حين أتاهُ موسى..."يا أبَتِ اسْتَأَجِرْهُ" تعني بقولها: استأجره ليرعى عليك ماشيتك، "إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينٌ" تقول: إن خير من تستأجره للرعي القويّ على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها، الأمين الذي لا تخاف خيانته، فيما تأمنه عليه. وقيل: إنها لما قالت ذلك لأبيها، استنكر أبوها ذلك من وصفها إياه فقال لها: وما علمك بذلك، فقالت: أما قوّته فما رأيت من علاجه ما عالج عند السقي على البئر، وأما الأمانة فما رأيت من غضّ البصر عني...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
دل ذلك أنه كان في طلب الأجير، وإنما أرسل ابنتيه في سقي الغنم، وهو مضطر إلى ذلك محتاج إليه. لذلك قالت له: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الأمين} كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان؛ أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك؛ وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول استأجره لقوّته وأمانته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه، علمت انتباه مضمونه، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ، فقال مستأنفاً لذلك: {قالت إحداهما} أي المرأتين. قيل: وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها: {يا أبت استأجره} ليكفينا ما يهمنا؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به: {إن خير من استأجرت} لشيء من الأشياء {القوي} وهو هذا لما رأيناه من قوته في السقي {الأمين} لما تفرسنا فيه من حيائه، وعفته في نظره ومقاله وفعاله، وسائر أحواله...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر، من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا، بإجارة أو غيرها. فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده [بذلك] وجه اللّه تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة: (قالت إحداهما؛ يا أبت استأجره. إن خير من استأجرت القوي الأمين). إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت؛ امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى. والمرأة العفيفة الروح النظيفة القلب، السليمة الفطرة، لا تستريح لمزاحمة الرجال، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة. وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوي أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. وهو غريب. والغريب ضعيف مهما اشتد. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته. فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه. وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب، ولا تخشى سوء الظن والتهمة. فهي بريئة النفس، نظيفة الحس؛ ومن ثم لا تخشى شيئا، ولا تتمتم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها. ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى. كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه -فيما قالوا- إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل. فالبئر لم يكن مغطى، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين، أو سقى لهما مع الرعاء. ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة: امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها. أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها.. فهذا كله تكلف لا داعي له، ودفع لريبة لا وجود لها. وموسى -عليه السلام- عفيف النظر نظيف الحس، وهي كذلك، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة. فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه، وانتقل منه إلى عَرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم ببيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته...
وجملة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} علة للإشارة عليه باستئجاره، أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف، فالتعريف باللام في {القوي الأمين} للجنس مراد به العموم. والخطاب في {من استأجرت} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً. فالتقدير: من استأجر المستأجر. و {من} موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين.
وجعل {خير من استأجرت} مسنداً إليه بجعله اسماً لأن جعل {القوي الأمين} خبراً مع صحة جعل {القوي الأمين} هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه {خير}، وفي المعرّف باللام هنا العموم في كليهما، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة {استأجره} فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفسُ السامع أشد ترقباً لحاله.
ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه ممن يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفاً المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتاً للحكم بدليل. فتقدير معنى الكلام: استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجر مستأجر القوي الأمين. فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وسبق في سورة النمل على لسان العفريت من الجن وهو يرشح نفسه لنقل عرش ملكة سبأ من مقرها إلى بلاط سليمان قبل أن يقوم من مقامه: {أنا آتيك به من قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين}، فدعم ترشيحه لتلك المهمة بكونه "قويا "على نقل العرش، وكونه "أمينا" على ما فيه، والمراد "بالقوة" في هذا المقام ما يشمل القوة الجسمية والقوة الفكرية، من فطنة وكياسة، وسرعة بديهة، وحسن تصرف، ومن كان قوي الجسم ضعيف العقل، أو قوي العقل لكنه ضعيف الجسم، لا ينهض بالمهمة الموكولة إليه، ويتسرب الخلل إلى العمل المكلف به، بقدر ما هو عليه من ضعف جسمي أو ضعف فكري، أما "الأمانة" فهي بالنسبة لكل عامل صمام الأمان، الذي يحول بينه وبين الغش والكسل والإهمال، ويحميه من سوء التصرف والرشوة والاستغلال، قال أحد العلماء الحكماء: "إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والامانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك، وتم مرادك".