قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } ، أي : يصيبنك ويعتريك ، ويعرض لك { من الشيطان نزغ } نخسة ، والنزغ من الشيطان الوسوسة ، وقال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون من الآدمي ، ومن الشيطان أدنى وسوسة ، وقال عبد الرحمن بن زيد : لما نزلت هذه الآية : { خذ العفو } ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يا رب ؟ والغضب ؟ فنزل : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } .
ثم يرشد القرآن المسلمين في شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى ما يهدىء غضبهم ويطفىء ثورتهم فيقول : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ . . . } .
النزغ والنخس والغرز بمعنى واحد ، وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا ونحوها في الجلد .
أى : وإن تعرض لك من الشيطان وسوسة تثير غضبك ، وتحملك على خلاف ما أمرت به من أخذ العفو الأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين ، فالتجىء إلى الله ، واستعذ بحماه ، فإنه - سبحانه - سميع لدعائك ، عليم بكل أحوالك . وهو وحده الكفيل بصرف وسوسة الشياطين عنك ، وصيانتك من همزاتهم ونزغاتهم .
ولكن رسول الله [ ص ] بشر . وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى . . وإذا قدر عليها رسول الله [ ص ] فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة . . وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس ، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام ! . . لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله ؛ لينفثئ غضبه ، ويأخذ على الشيطان طريقه :
( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) . .
وهذا التعقيب : ( إنه سميع عليم ) . . يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم ؛ عليم بما تحمله نفسك من أذاهم . . وفي هذا ترضية وتسرية للنفس . . فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم ! وماذا تبتغي نفس بعدما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين ؟ !
وقال في هذه السورة الكريمة أيضا : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فهذه الآيات الثلاث في " الأعراف " و " المؤمنون " و " حم السجدة " ، لا رابع لهن ، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن ، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان ، فإنه لا يكفه{[12552]} عنك الإحسان ، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية ، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك .
قال ابن جرير في تفسير قوله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ } وإما يُغْضبَنَّك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين{[12553]} ويحملك على مجازاتهم { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } يقول : فاستجر بالله من نزغه { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقول : إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك ، والاستعاذة به من نزغه ، ولغير ذلك من كلام خلقه ، لا يخفى عليه منه شيء ، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان ، وغير ذلك من أمور خلقه .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رب ، كيف بالغضب ؟ " فأنزل الله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }{[12554]}
قلت : وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " . فقيل له ، فقال : ما بي من جنون{[12555]}
وأصل " النزغ " : الفساد ، إما بالغضب أو غيره ، قال الله تعالى : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ } [ الإسراء : 53 ] و " العياذ " : الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر ، وأما " الملاذ " ففي طلب الخير ، كما قال أبو الطيب [ الحسن بن هانئ ]{[12556]} المتنبي :
يَا مَنْ ألوذُ به فيمَا أؤمِّلُه *** وَمَنْ أعوذُ به مما أحَاذرُه
لا يَجْبر الناس عَظمًا أنت كاسرُه *** ولا يَهِيضُون عَظمًا أنت جَابِره{[12557]}
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .
{ وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ } ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب وفكر ، والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسته إغراء لهم على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه . { فاستعذ بالله إنه سميع } يسمع استعاذتك . { عليم } يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه ، أو { سميع } بأقوال من آذاك عليهم بأفعاله فيجازيه عليها مغنيا إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان .
وقوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } وصية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلاً رجلاً ، والنزغ حركة فيها فساد ، وقلَّما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسرعة مفسدة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح ، لا ينزغ الشيطان في يده .
فالمعنى في هذه الآية : فإما تلمنّ بك لمة من الشيطان فاستعذ بالله .
ونزغ الشيطان عام في الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك ، وفي مصنف الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن للملك لمة ، وللشيطان لمّة ) . الغضب وتحسين المعاصي واكتساب الغوائل وغير ذلك » ، وفي مصنف الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن للملك لمة وإن للشيطان لمة » .
قال القاضي أبو محمد : وهاتان اللمتان هما الخواطر من الخير والشر ، و [ سميع ] في هذه الآية يصلح مع الاستعاذة ويصلح أيضاً مع ما يقول فيه الكفار من الأقاويل فيغضبه الشيطان لذلك ، و[ عليم ] كذلك ، وبهذه الآية تعلق ابن القاسم في قوله : إن الاستعاذة عند القراءة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم .