الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200)

فيه مسألتان :

الأولى - لما نزل قوله تعالى : " خذ العفو " قال عليه السلام : " كيف يا رب والغضب " فنزلت : " وإما ينزغنك " ونزغ الشيطان : وساوسه . وفيه لغتان : نزغ ونغز ، يقال : إياك والنزاغ والنغاز ، وهم المورشون{[7540]} . الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان أدنى وسوسة . قال سعيد بن المسيب : شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا ، ثم لم يبرحا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه . ومعنى " ينزغنك " : يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل . " فاستعذ بالله " أي اطلب النجاة من ذلك بالله . فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به ، ولله المثل الأعلى . فلا يستعاذ من الكلاب إلا برب الكلاب . وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده . قال : هذا يطول ، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع ؟ قال : أكابده وأرده جهدي . قال : هذا يطول عليك ، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك .

الثانية - النغز والنزغ والهمز والوسوسة سواء ، قال الله تعالى : " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين{[7541]} " [ المؤمنون : 97 ] وقال : " من شر الوسواس الخناس{[7542]} " [ الناس : 4 ] . وأصل النزغ الفساد ، يقال : نزغ بيننا ؛ أي أفسد . ومنه قوله : " نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي{[7543]} " [ يوسف : 100 ] أي أفسد . وقيل : النزغ الإغواء والإغراء ، والمعنى متقارب .

قلت : ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته ) . وفيه عن عبد الله قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال : ( تلك محض الإيمان ) . وفي حديث أبي هريرة : ( ذلك صريح الإيمان ) والصريح الخالص . وهذا ليس على ظاهره ؛ إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان ، لأن الإيمان اليقين ، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم . فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه ؛ لصحة إيمانكم ، وعلمكم بفسادها . فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها والجزع منها صادرا عن الإيمان . وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان . وأما الأمر بالانتهاء فعن الركون إليها والالتفات نحوها . فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه نفعه وانتفع به . وأما من خالجته الشبهة وغلب عليه الحس ولم يقدر على الانفكاك عنها فلا بد من مشافهته بالدليل العقلي ، كما قال صلى الله عليه وسلم للذي خالطته شبهة الإبل الجرب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى " . وقال أعرابي : فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فإذا دخل فيها البعير الأجرب أجربها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " فمن أعدى الأول " فاستأصل الشبهة من أصلها . فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات . والوساوس : الترهات ، فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم فجاؤوا - كما في الصحيح - فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : " أو قد وجدتموه " ؟ قالوا : نعم . قال : ( ذلك صريح الإيمان رغما للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان{[7544]} " [ الحجر : 42 ] . فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها ، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة . والله أعلم . وقد مضى في آخر البقرة{[7545]} والحمد لله


[7540]:التوريش: التحريش. يقال : ورش بين القوم وأرّش
[7541]:راجع ج 12 ص 148.
[7542]:راجع ج 20 ص 261.
[7543]:راجع ج 9 ص 264
[7544]:راجع ج 10 ص 38 وص 28 فما بعدها.
[7545]:راجع ج 3 ص 428 فما بعد