تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200)

وقال في هذه السورة الكريمة أيضا : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فهذه الآيات الثلاث في " الأعراف " و " المؤمنون " و " حم السجدة " ، لا رابع لهن ، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن ، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان ، فإنه لا يكفه{[12552]} عنك الإحسان ، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية ، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك .

قال ابن جرير في تفسير قوله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ } وإما يُغْضبَنَّك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين{[12553]} ويحملك على مجازاتهم { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } يقول : فاستجر بالله من نزغه { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقول : إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك ، والاستعاذة به من نزغه ، ولغير ذلك من كلام خلقه ، لا يخفى عليه منه شيء ، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان ، وغير ذلك من أمور خلقه .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رب ، كيف بالغضب ؟ " فأنزل الله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }{[12554]}

قلت : وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " . فقيل له ، فقال : ما بي من جنون{[12555]}

وأصل " النزغ " : الفساد ، إما بالغضب أو غيره ، قال الله تعالى : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ } [ الإسراء : 53 ] و " العياذ " : الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر ، وأما " الملاذ " ففي طلب الخير ، كما قال أبو الطيب [ الحسن بن هانئ ]{[12556]} المتنبي :

يَا مَنْ ألوذُ به فيمَا أؤمِّلُه *** وَمَنْ أعوذُ به مما أحَاذرُه

لا يَجْبر الناس عَظمًا أنت كاسرُه *** ولا يَهِيضُون عَظمًا أنت جَابِره{[12557]}

وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .


[12552]:في ك، م: "لا يكفيه"، وفي أ: "لا يكفيك".
[12553]:في د، ك، م: "الجاهل".
[12554]:تفسير الطبري (13/333).
[12555]:انظر: الحديث وتخريجه في الكلام على الاستعاذة.
[12556]:زيادة من ك، م، أ.
[12557]:ديوان المتنبي (2/272).قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (11/275): "وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول: إنما يصلح لجناب الله سبحانه وتعالى.وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم، رحمه الله، أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعوا الله بما تضمناه من الذل والخضوع".