ثم هدد - سبحانه - كل من يعبد غيره أشد تهديد فقال : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ } أى : ومن يدع مع الله - تعالى - آلها آخر فى عبادته أو مناجاته أو أقواله ، أو أفعاله . . .
{ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } أى : لا دليل له على هذه العبادة ، وليس لهذه الجملة الكريمة مفهوم مخالفة ، بل هى صفة مطابقة للواقع ، لأن كل عابد لغير الله ، لا دليل له على هذه العبادة إطلاقاً ، إذ العبادة لا تكون إلا لله - تعالى - وحده .
فذكر هذه الجملة لإقرار الوقاع وتأكيده ، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق .
وقوله { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } تهديد شديد لمن يدعو مع الله - تعالى - إلها آخر . أى : من يفعل ذلك فسيلقى الحساب الشديد ، والجزاء الرادع ، من عند ربه - عز وجل - ، لأن عدالته قد اقتضت أن الكافرين به لا ينالون الفلاح ، وإنما ينالون الخزى والخسران .
وكل دعوى بألوهية أحد مع الله ، فهي دعوى ليس معها برهان . لا من الدلائل الكونية ، ولا من منطق الفطرة ، ولا من حجة العقل . وحساب مدعيها عند ربه ، والعاقبة معروفة : ( إنه لا يفلح الكافرون ) . . سنة نافذة لا تتخلف ، كما أن الفلاح للمؤمنين طرف من الناموس الكبير .
وكل ما يراه الناس على الكافرين من نعمة ومتاع ، وقوة وسلطان ، في بعض الأحيان ، فليس فلاحا في ميزان القيم الحقيقية . إنما هو فتنة واستدراج ، ينتهي بالوبال في الدنيا . فإن ذهب بعضهم ناجين في الدنيا ، فهناك في الآخرة يتم الحساب . والآخرة هي الشوط الأخير في مراحل النشأة ، وليست شيئا منفصلا في تقدير الله وتدبيره . ومن ثم هي ضرورة لا بد منها في النظرة البعيدة .
يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره ، وعَبَدَ معه سواه ، ومخبرًا أن من أشرك بالله { لا بُرْهَانَ لَهُ } أي : لا دليل له على قوله - فقال : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } ، وهذه جملة معترضة ، وجواب الشرط في قوله : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي : الله يحاسبه على ذلك .
ثم أخبر : { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي : لديه يوم القيامة ، لا فلاح لهم ولا نجاة .
قال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " ما تعبد ؟ " قال : أعبد الله ، وكذا وكذا - حتى عدّ أصناما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأيّهم إذا أصابك ضُرٌّ فدعوتَه ، كشفه عنك ؟ " . قال : الله عز وجل . قال : [ " فأيّهم إذا كانت لك حاجة فدعوتَه أعطاكها ؟ " قال : الله عز وجل . قال ]{[20710]} : " فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه ؟ " قال : أردت شكره بعبادة هؤلاء معه أم حسبت أن يغلب عليه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعلمون ولا يعلمون " قال{[20711]} الرجل بعد ما أسلم : لقيت رجلا خصمني .
هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندًا عن عمران بن الحُصَيْن ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك{[20712]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن يدع مع المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له معبودا آخر ، لا حجة له بما يقول ويعمل من ذلك ولا بينة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ قال : بينة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ قال : حُجة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ قال : لا حجة .
وقوله : فإنّمَا حِسابُهُ عِنْدَ رَبّهِ يقول : فإنما حساب عمله السّيّىء عند ربه ، وهو مُوَفّيه جزاءه إذا قدم عليه . إنّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ يقول : إنه لا ينجح أهل الكفر بالله عنده ولا يدركون الخلود والبقاء في النعيم .
لما كان أعظم ما دعا الله إليه توحيده وكان أصل ضلال المشركين إشراكهم أعقب وصف الله بالعلو العظيم والقدرة الواسعة ببيان أن الحساب الواقع بعد البعث ينال الذين دعَوا مع الله آلهة دعوى لا عذر لهم فيها لأنها عرية عن البرهان أي الدليل ، لأنهم لم يثبتوا لله المُلك الكامل إذ أشركوا معه آلهة ولم يثبتوا ما يقتضي له عظيم التصرف إذ أشركوا معه تصرف آلهة . فقوله : { لا برهان له به } حال من { من يدع مع الله إلهاً آخر } ، وهي حال لازمة لأن دعوى الإله مع الله لا تكون إلا عرية عن البرهان ونظير هذا الحال قوله تعالى : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } [ القصص : 50 ] .
والقصر في قوله : { فإنما حسابه عند ربه } قصر حقيقي . وفيه إثبات الحساب وأنه لله وحده مبالغة في تخطئتهم وتهديدهم .
ويجوز أن يكون القصر إضافياً تطمينا للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يؤاخذه باستمرارهم على الكفر كقوله { إن عليك إلا البلاغ } [ الشورى : 48 ] وقوله : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] وهذا أسعد بقوله بعده { وقل رب اغفر وارحم } [ المؤمنون : 118 ] .
ويدل على ذلك تذييله بجملة { إنه لا يفلح الكافرون } . وفيه ضرب من رد العجز على الصدر إذ افتتحت السورة ب { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وختمت ب { إنه لا يفلح الكافرون } وهو نفي الفلاح عن الكافرين ضد المؤمنين .