قوله تعالى : { وإن كل لما جميع } قرأ عاصم ، و حمزة : ( ( لما ) ) بالتشديد ههنا وفي الزخرف والطارق ، ووافق ابن عامر إلا في الزخرف ، ووافق أبو جعفر في الطارق ، وقرأ الآخرون بالتخفيف . فمن شدد جعل ( ( إن ) ) بمعنى الجحد ، و ( ( لما ) ) بمعنى إلا ، تقديره : وما كل إلا جميع ، ومن خفف جعل ( ( إن ) ) للتحقيق و ( ( ما ) ) صلة ، مجازه : كل جميع .
ولكن الجميع سيعودون إليه - سبحانه - وسيبعثهم يوم القيامة من قبورهم للحساب والجزاء ، كما قال - تعالى - : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } .
و " { إن } حرف نفى ، و { كل } مبتدأ ، والتنوين فيه عوض عن المضاف إليه و { لما } بمعنى إلا . و { جميع } خبر المبتدأ . و { محضرون } خبر ثان .
أى : لقد علم أهل مكة وغيرهم أننا أهلكنا كثيرا من القرى الظالم أهلها . وأن هؤلاء المهلكين لن يرجعوا إلى أهل مكة فى الدنيا ، ولكن الحقيقة التى لا شك فيها أنه ما من أمة من الأمم ، أو جماعة من الجماعات المتقدمة أو المتأخرة إلا ومرجعها إلينا يوم القيامة ، لنحاسبها على أعمالها ، ولنجازيها بالجزاء الذى تستحقه .
كما قال - سبحانه - فى آية أخرى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
وقوله : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيام بين يدي الله ، عز وجل ، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها ، ومعنى هذه كقوله تعالى : { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } [ هود : 111 ] .
وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف ؛ فمنهم مَنْ قرأ : { وَإن كل لَمَا } بالتخفيف ، فعنده أن " إن " للإثبات ، ومنهم مَنْ شدد " لَمَّا " ، وجعل " إن " نافية ، و " لمَّا " بمعنى " إلا " تقديره : وما كل إلا جميع لدينا محضرون ، ومعنى القراءتين واحد ، والله أعلم .
وقوله : وإنْ كُلّ لمّا جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يقول تعالى ذكره : وإن كل هذه القرون التي أهلكناها والذين لم نهلكهم وغيرهم عندنا يوم القيامة جميعهم محضرون ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة وَإنْ كُلّ لمّا جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي هم يوم القيامة .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : { وَإنْ كُلّ لَمَا } بالتخفيف توجيها منهم إلى أن ذلك «ما » أدخلت عليها اللام التي تدخل جوابا لإنْ وأن معنى الكلام : وإن كلّ لجميع لدينا محضرون . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة : " لَمّا " بتشديد الميم . ولتشديدهم ذلك عندنا وجهان : أحدهما : أن يكون الكلام عندهم كان مرادا به : وإن كلّ لمما جميع ، ثم حذفت إحدى الميمات لما كثرت ، كما قال الشاعر :
غَدَاةَ طَفَت عَلْماءِ بَكْرُ بنُ وَائِلٍ *** وَعُجنْا صُدُورَ الخَيْلِ نَحْوَ تَمِيمِ
والاَخر : أن يكونوا أرادوا أن تكون لَمّا بمعنى إلا ، مع إنْ خاصة فتكون نظيرة إنما إذا وضعت موضع «إلا » . وقد كان بعض نحوييّ الكوفة يقول : كأنها «لَمْ » ضمت إليها «ما » ، فصارتا جميعا استثناء ، وخرجتا من حدّ الجحد . وكان بعض أهل العربية يقول : لا أعرف وجه «لمّا » بالتشديد .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقرأ جمهور الناس :«لما جميع » بتخفيف الميم وذلك على زيادة «ما » للتأكيد ، والمعنى لجميع ، وقرأ الحسن وابن جبير عاصم :«لمّا » بشد الميم ، قالوا هي بمنزلة «إلا »{[1]} ، وقيل المراد «لمما » حذفت الميم الواحدة وفيها ضعف ، وفي حرف أبيّ و «إن منهم إلا جميع » ، و { محضرون } قال قتادة : محشرون يوم القيامة .
أرى أن عطفه على جملة { أنهم إليهم لا يرجعون } [ يس : 31 ] واقعٌ موقع الاحتراس من توهم المخاطبين بالقرآن أن قوله : { أنهم إليهم لا يرجعون } مؤيد اعتقادهم انتفاء البعث .
و { إِنْ } يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والأفصح إهمالها عن العمل فيما بعدها ، والأكثر أن يقترن خبر الاسم بعدها بلام تسمّى اللام الفارقة لأنها تفرق بين { إِنْ } المخففة من الثقيلة وبين { إِنْ } النافية لئلا يلتبس الخبر المؤكد بالخبر المنفي فيناقض مقصد المتكلم ، وعلى هذا الوجه يكون قوله : { لَما } مخفف الميم كما قرأ الجمهور { لَمَا جَمِيعٌ } بتخفيف ميم { لَمَّا } ، فهي مركبة من اللام الفارقة و ( ما ) الزائدة للتأكيد ، ويجوز أن تكون { إنْ } نافية بمعنى ( لا ) ويكون { لَمَّا } بتشديد الميم على أنها حرف استثناء بمعنى ( إلا ) تقع بعد النفي ونحوه كالقسم . وكذلك قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر . والتقدير : وما كلهم إلا مُحْضَرُون لدينا .
و { كُلٌّ } مبتدأ وتنوينه تنوين العوض عما أضيف إليه ( كل ) ، أي كل القرون ، أو كل المذكورين من القرون والمخاطبين .
و { جَمِيعٌ } اسم على وزن فعيل ، أي مجموع ، وهو ضد المتفرق . يقال : جمع أشياءَ كَذا ، إذا جعلها متقاربة متصلة بعد أن كانت مشتتة ومتباعدة .
والمعنى : أن كل القرون محضرون لدينا مجتمعين ، أي ليس إحضارهم في أوقات مختلفة ولا في أمكنة متعددة ؛ فكلمة { كل } أفادت أن الإِحضار محيط بهم بحيث لا ينفلت فريق منهم ، وكلمة { جميع } أفادت أنهم محضرون مجتمعين فليست إحدى الكلمتين بمغنية عن ذكر الأخرى ، ألا ترى أنه لو قيل : وإن أكثرهم لما جميع لدينا محضرون ، لما كان تناف بين « أكثرهم » وبين « جميعهم » أي أكثرهم يحضر مجتمعين ؛ فارتفع { جَمِيعٌ } على الخبرية في قراءات تخفيف { لمَا } وعلى الاستثناء على قراءات تشديد { لمَّا } . و { مُحْضَرُونَ } نعت ل { جَمِيعٌ } على القراءتين . وروعي في النعت معنى المنعوت فألحقت به علامة الجماعة ، كقول لبيد :
عَرِيتْ وكان بها الجَميع فأبكروا *** منها وغُودر نُؤيها وثُمامها