20 - ويقول الذين آمنوا : هلا نزلت سورة تدعونا إلى القتال ؟ فإذا نزلت سورة لا تحتمل غير وجوبه ، وذكر فيها القتال مأموراً به رأيت الذين في قلوبهم نفاق ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت خوفاً منه وكراهية له ، فأحق بهم طاعة لله وقول يقره الشرع ، فإذا جد الأمر ولزمهم القتال ، فلو صدقوا الله في الإيمان والطاعة لكان خيراً لهم من النفاق ، فهل يتوقع منكم - أيها المنافقون - إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا صلاتكم بأقاربكم ؟
ثم قال : { طاعة وقول معروف } وهذا ابتداء محذوف الخبر ، تقديره : طاعة ، وقول معروف أمثل ، أي لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً كان أمثل وأحسن . وقال : مجازه : يقول هؤلاء المنافقون قبل نزول السورة المحكمة : { طاعة } ، رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة ، { وقول معروف } : حسن . وقيل : هو متصل بما قبله ، واللام في قولهم ، بمعنى الباء مجازه فأولى بهم طاعة الله ورسوله ، وقول معروف بالإجابة ، أي لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى بهم ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء . { فإذا عزم الأمر } أي : جد الأمر ولزم فرض القتال وصار الأمر معزوماً ، { فلو صدقوا الله } في إظهار الإيمان والطاعة ، { لكان خيراً لهم } وقيل : جواب إذا محذوف تقديره فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم .
ويكون قوله - تالى - بعد ذلك { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف والخبر محذوف .
أى : طاعة وقول معروف منكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير لكم من هذا الذميم .
ويصح أن يكون قوله - سبحانه - { أولى } مبتدأ . وقوله { لَهُمْ } متعلق به . والخبر قوله { طَاعَةٌ } . واللام فى { لَهُمْ } أيضا . بمعنى الباء .
ويكون المعنى : أولى بهؤلاء المنافقين من أن ينظروا إليك نظر المغشى عليه من الموت ، الطاعة التامة لك ، والقول المعروف أمامك ، لأن ذلك يحملهم متى أخلصوا قلوبهم لله - تعالى - على الإِقلاع عن النفاق .
ولعل هذا القول الأخير هو أقرب الأقوال إلى سياق الآيات ، لأن فيه إرشاداً لهم إلى ما يحميهم من تلك الأخلاق المرذولة التى على رأسها الخداع والجبن والخور .
وقوله : { فَإِذَا عَزَمَ الأمر فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } متعلق بما قبله .
أى : أولى لهم الطاعة والقول المعروف ، وأولى لهم وأجدر بهم إذ جد الجد ، ووجب القتال ، أن يخلصوا لله - تعالى - نياتهم ، فإنهم لو صدقوا الله فى إيمانهم ، لكان صدقهم خيرا لهم ، من تلك المسالك الخبيثة التى سلكوها مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
قال الشوكانى : قوله { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } عزم الأمر أى جد الأمر والقتال ووجب وفرض .
وأسند العزم إلى الأمر وهو لأصحابه على سبيل المجاز . وجواب { إِذَا } قيل هو { فَلَوْ صَدَقُواْ الله } وقيل محذوف والتقدير : كرهوه أى : إذا جد الأمر ولزم القتال خالفوا وتخلفوا .
أولى لهم ( طاعة وقول معروف ) . . طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة ، وتنهض بأمره عن ثقة . وقول معروف يشي بنظافة الحس واستقامة القلب ، وطهارة الضمير . وأولى لهم إذا عزم الأمر ، وجد الجد ، وواجهوا الجهاد أن يصدقوا الله . يصدقوه عزيمة ، ويصدقوه شعورا . فيربط على قلوبهم ، ويشد من عزائمهم ، ويثبت أقدامهم ، وييسر المشقة عليهم ، ويهون الخطر الذي يتمثلونه غولا تفغر فاها لتلتهمهم ! ويكتب لهم إحدى الحسنيين : النجاة والنصر ، أو الاستشهاد والجنة . . هذا هو الأولى . وهذا هو الزاد الذي يقدمه الإيمان فيقوي العزائم ويشد القوائم ، ويذهب بالفزع ، ويحل محله الثبات والاطمئنان .
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، فلما فرضه الله ، عز وجل{[26680]} ، وأمر به نكل عنه كثير من الناس ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } [ النساء : 77 ] .
وقال ها هنا : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ } أي : مشتملة على حُكْم القتال ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء .
ثم قال مشجعا لهم : { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي : وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا ، أي : في الحالة الراهنة ، { فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي : جد الحال ، وحضر القتال ، { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } أي : أخلصوا له النية ، { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
وقوله : طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة ، ويذكر فيها القتال ، وأنهم إذا قيل لهم : إن الله مفترض عليكم الجهاد ، قالوا : سمع وطاعة ، فقال الله عزّ وجلّ لهم إذَا أنْزلَتْ سُورَةٌ وفُرض القتال فيها عليهم ، فشقّ ذلك عليهم ، وكرهوه طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قبل وجوب الفرض عليكم ، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشقّ عليكم .
وقوله : طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مرفوع بمضمر ، وهو قولكم قبل نزول فرض القتال طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ .
ورُوي عن ابن عباس بإسناد غيرِ مرتضى أنه قال : قال الله تعالى : فَأَوْلَى لَهُمْ ثم قال للذين آمنوا منهم طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فعلى هذا القول تمام الوعيد فأولى ، ثم يستأنف بعد ، فيقال لهم طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فتكون الطاعة مرفوعة بقوله : لهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قال : أمر الله بذلك المنافقين .
وقوله : فإذَا عَزَمَ الأمْرُ يقول : فإذا وجب القتال وجاء أمر الله بفرض ذلك كرهتموه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فإذَا عَزَمَ الأمْرُ قال : إذا جدّ الأمر ، هكذا .
قال : محمد بن عمرو في حديثه ، عن أبي عاصم ، وقال الحارث في حديثه ، عن الحسن يقول : جدّ الأمر .
وقوله : فَلَوْ صَدَقُوا اللّهَ لَكانَ خَيْرا لَهُمْ يقول تعالى ذكره : فلو صدقوا الله ما وعدوه قبل نزول السورة بالقتال بقولهم : إذ قيل لهم : إن الله سيأمركم بالقتال طاعة ، فَوَفّوا له بذلك ، لكان خيرا لهم في عاجل دنياهم ، وآجل معادهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإذَا عَزَمَ الأمْرُ يقول : طواعية الله ورسوله ، وقول معروف عند حقائق الأمور خير لهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يقول : طاعة الله وقول بالمعروف عند حقائق الأمور خير لهم .
{ طاعة وقول معروف } استئناف أي أمرهم { طاعة } أو { طاعة وقول معروف } خير لهم ، أو حكاية قولهم لقراءة أبي " يقولون طاعة " . { فإذا عزم الأمر } أي جد وهو لأصحاب الأمر ، وإسناده إليه مجاز وعامل الظرف محذوف ، وقيل { فلو صدقوا الله } أي فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإيمان . { لكان } الصدق . { خيرا لهم } .
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى قوله : { طاعة وقول معروف } فقال بعضها ، التقدير : { طاعة وقول معروف } أمثل ، وهذا هو تأويل مجاهد ومذهب الخليل وسيبويه ، وحسن الابتداء بالنكرة لأنها مخصصة ، ففيها بعض التعريف . وقال بعضها التقدير : الأمر { طاعة وقول معروف } ، أي الأمر المرضي لله تعالى . وقال بعضها التقدير قولهم لك يا محمد على جهة الهزء والخديعة { طاعة وقول معروف } فإذا عزم الأمر كرهوه ، ونحو هذا من التقدير قاله قتادة . وقال أيضاً ما معناه : إن تمام الكلام الذي معناه الزجر والتوعد ب «أولى » . وقوله { لهم } ابتداء كلام ، ف { طاعة } على هذا القول : ابتداء ، وخبره : { لهم } والمعنى أن ذلك منهم على جهة الخديعة ، فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا .
وقوله : { عزم الأمر } استعارة كما قال :
*قد جدت الحرب بكم فجدوا{[10370]} *
ومن هذا الباب : نام ليلك ونحوه{[10371]} .
وقوله : { صدقوا الله } يحتمل أن يكون من الصدق الذي هو ضد الكذب ، ويحتمل أن يكون من قولك : " عود صدق " {[10372]} ، والمعنى متقارب .