قوله تعالى : { قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } أي : بشعر رأسي وكان قد أخذ ذوائبه { إني خشيت } لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً { أن تقول فرقت بين بني إسرائيل } أي : خشيت إن فارقتهم واتبعتك صاروا أحزاباً يتقاتلون ، فتقول أنت فرقت بين بني إسرائيل ، { ولم ترقب قولي } ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي وأصلح . أي : ارفق بهم ، ثم أقبل موسى على السامري .
وهنا يرد هارون على أخيه موسى ردا يبدو فيه الرفق والاستعطاف فيقول : { يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } .
أى : قال هارون لموسى محاولا أن يهدىء من غضبه ، بتحريك عاطفة الرحم فى قلبه : يابن أمى لا تمسك بلحيتى ولا برأسى على سبيل التأنيب لى : فإنى لست عاصيا لأمرك ، ولا معرضا عن اتباعك .
قال الآلوسى ما ملخصه : خص الأم بالإضافة استعطافا وترقيقا لقلبه ، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه ، فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين .
وقوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } . . . روى أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ، ولحيته بشماله ، وكان موسى - عليه السلام - حديدا متصلبا غضوبا لله - تعالى - ، وغلب على ظنه أن هارون قد قصر معهم . . .
وقوله : { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } استئناف لتعليل موجب النهى ، بتحقيق أنه غير عاص لأمره ، وغير معرض عن اتباعه .
أى : يابن أمى لا تأخذ بلحيتى ولا برأسى ، فإنى ما حملنى على البقاء معهم وعلى ترك مقاتلتهم بعد أن عبدوا العجل ، إلا خوفى من أن تقول لى - لو قاتلتهم أو فارقتهم بمن معى من المؤمنين - إنك بعملك هذا قد جعلت بنى إسرائيل فرقتين متنازعتين { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أى : ولم تتبع وتطع قولى لك : { اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } ولذلك لم أقدم على مقاتلتهم بمن معى من المؤمنين ، ولم أقدم كذلك على مفارقتهم ، بل بقيت معهم ناصحا واعظا ، حتى تعود أنت إليهم ، فتتدارك الأمر بنفسك ، وتعالجه برأيك .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وهذه الآية الكريمة . . . تدل على لزوم إعفاء اللحية وعدم حلقها ، لأنه لو كان هارون حالقا لحيته لما أخذ بها موسى - إذ من المشهور أن اللحية تطلق على الشعر النابت فى العضو المخصوص وهو الذقن - وبذلك يتبين لك أن إعفاء اللحية سمت الرسل الكرام الذين أمرنا الله - تعالى - بالاقتداء بهم . فقد قال - تعالى - : بعد أن ذكر عددا من الأنبياء منهم هارون : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده . . . } والعجب من الذين مسخت ضمائرهم . . . حتى صاروا ينفرون من صفات الذكورية ، وشرف الرجوله إلى خنوثه الأنوثة . . .
وقد قرر السياق ما كان من موقف هارون . فهو يطلع أخاه عليه ؛ محاولا أن يهديء من غضبه ، باستجاشة عاطفة الرحم في نفسه :
قال : با ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي . إني خشيت أن تقول : فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي . وهكذا نجد هارون أهدأ أعصابا وأملك لانفعاله من موسى ، فهو يلمس في مشاعره نقطة حساسة . ويجيء له من ناحية الرحم وهي أشد حساسية ، ويعرض له وجهة نظره في صورة الطاعة لأمره حسب تقديره ؛ وانه خشي إن هو عالج الأمر بالعنف أن يتفرق بنو إسرائيل شيعا ، بعضها مع العجل ، وبعضها مع نصيحة هارون . وقد أمره بأن يحافظ على بني إسرائيل ولا يحدث فيهم أمرا . فهي كذلك طاعة الأمر من ناحية أخرى . .
وقوله : " قالَ يا ابْنَ أُمّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرأسِي " وفي هذا الكلام متروك ، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه ، وهو : ثم أخذ موسى بلحية أخيه هارون ورأسه يجرّه إليه ، فقال هارون : " يا بْنَ أُمّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرأسِي " .
وقوله : " إنّي خَشيتُ أنْ تَقُولَ فَرّقْتَ بينَ بَنِي إسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلي " فاختلف أهل العلم في صفة التفريق بينهم ، الذي خشيه هارون ، فقال بعضهم : كان هارون خاف أن يسير بمن أطاعه ، وأقام على دينه في أثر موسى ، ويخلف عبدة العجل ، وقد قالُوا له " لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفينَ حتى يَرْجِعَ إلَيْنا مُوسَى " فيقول له موسى " فَرّقْتَ بينَ نَبِي إسْرائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلي " بسيرك بطائفة ، وتركك منهم طائفة وراءك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، في قول الله تعالى : " ما مَنَعَكَ إذْ رأيْتَهُمْ ضَلّوا ألاّ تَتّبِعَنِ أفَعَصَيْتَ أمْرِي " قال : " خَشِيتُ أنْ تَقُول فَرّقْتَ بينَ بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلي " قال : خشيت أن يتبعني بعضهم ويتخلف بعضهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : خشيت أن نقتتل فيقتل بعضنا بعضا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج " إنّي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فَرّقْتَ بينَ بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلي " قال : كنا نكون فرقتين فيقتل بعضنا بعضا حتى نتفانى .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، القول الذي قاله ابن عباس من أن موسى عذل أخاه هارون على تركه اتباع أمره بمن اتبعه من أهل الإيمان ، فقال له هارون : إني خشيت أن تقول ، فرّقت بين جماعتهم ، فتركت بعضهم وراءك ، وجئت ببعضهم ، وذلك بيّن في قول هارون للقول " يا قَومِ إنّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإنّ رَبّكُمُ الرّحْمَنُ فاتّبِعُونِي وأطِيعُوا أمْرِي " ، وفي جواب القوم له وقيلهم " لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفِينَ حتى يَرْجِعَ إلَيْنا مُوسَى " .
وقوله : " ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلي " يقول : ولم تنظر قولي وتحفظه . من مراقبة الرجل الشيء ، وهي مناظرته بحفظه ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : " ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلي " قال : لم تحفظ قولي .
{ قال يا ابن أم } خص الأم استعطافا وترقيقا ، وقيل لأنه كان أخاه من الأم والجمهور على أنهما كانا من أب وأم . { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } أي بشعر رأسي قبض عليهما يجره إليه من شدة غيظه وفرط غضبه لله ، وكان عليه الصلاة والسلام حديدا خشنا متصلبا في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل . { إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل } لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض . { ولم ترقب قولي } حين قلت { اخلفني في قومي وأصلح } فإن الإصلاح كان في حفظ الدهماء والمداراة لهم أن ترجع إليهم فتتدارك الأمر برأيك .