قوله تعالى : { أو لا يرون } ، قرأ حمزة ويعقوب : ترون بالتاء على خطاب المؤمنين ، وقرأ الآخرين بالياء ، خبر عن المنافقين المذكورين . { أنهم يفتنون } يبتلون { في كل عام مرة أو مرتين } ، بالأمراض والشدائد . وقال : مجاهد : بالقحط والشدة . وقال قتادة : بالغزو والجهاد . وقال مقاتل بن حيان : يفضحون بإظهار نفاقهم . وقال عكرمة : ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون . وقال يمان : ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين . { ثم لا يتوبون } ، من نقض العهد ولا يرجعون إلى الله من النفاق ، { ولا هم يذكرون } ، أي : لا يتعظون بما يرون من تصديق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين .
وقوله : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } توبيخ لهم على قسوة قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم ، وغفلتهم عما يدعو إلى الاعتبار والاتعاظ .
أى : أبلغ الجهل والسفه وعمى البصيرة بهؤلاء ، أنهم صاروا لا يعتبرون ولا يتعظون بما حاق من فتن واختبارات وابتلاءات ، تنزل بهم في كل عام مرة أو مرتين ؟
ومن هذه الفتن والامتحانات : كشف مكرهم عن طريق اطلاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يضمرونه من سوء ، وما يقولونه من منكر ، وما يفعلونه من أفعال خبيثة ، وحلول المصائب والأمراض بهم ، ومشاهدتهم لانتصار المؤمنين وخذلان الكافرين .
قال الآلوسى : والمراد من المرة والمرتين - على ما صرح به بعهضم - مجرد التكثير ، لا بيان الوقوع على حسب العدد المذكور .
وقوله : { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } بيان لرسوخهم في الجهل والجحود .
أى : ثم بعد كل هذه الفتن النازلة بهم ، لا يتوبون من نفاقهم { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } ويتعظون ، بل يصرون على مسالكهم الخبيثة ، وأعمالهم القبيحة ، مع أن من شأن الفتن والمصائب والمحن ، أنها تحمل على الاعتبار والاتعاظ ، والرجوع عن طريق الشر إلى طريق الخير .
وقبل أن يعرض السياق الصورة الثانية لاستجابتهم يسأل مستنكرا حال هؤلاء المنافقين الذين لا يعظهم الابتلاء ، ولا يردهم الامتحان :
( أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ? ) .
والفتنة كانت تكون بكشف سترهم ، أو بنصر المسلمين بدونهم ، أو بغيرهما من الصور ، وكانت دائمة الوقوع كثير التكرار في عهد الرسول [ ص ] وما يزال المنافقون يفتنون ولا يتوبون !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مّرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ ثُمّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذّكّرُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : أوَ لا يَرَوْنَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : أوَ لا يَرَوْنَ بالياء ، بمعنى أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرض النفاق . وقرأ ذلك حمزة : «أوَ لا تَرَوْنَ » بالتاء ، بمعنى أو لا ترون أنتم أيها المؤمنون أنهم يفتنون ؟
والصواب عندنا من القراءة في ذلك : الياء ، على وجه التوبيخ من الله لهم ، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه وصحة معناه : فتأويل الكلام إذا : أوَ لا يرى هؤلاء المنافقون أن الله يختبرهم في كلّ عام مرّة أو مرّتين ، بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرّة ، وفي بعضها مرّتين . ثم لا يَتُوبُونَ يقول : ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله والاختبار الذي يعرض لهم لا ينيبون من نفاقهم ، ولا يتوبون من كفرهم ، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته ، فيعظوا بها ولكنهم مصرّون على نفاقهم .
واختلف أهل التأويل في معنى الفتنة التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها ، فقال بعضهم : ذلك اختبار الله إياهم بالقحط والشدّة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : بالسنة والجوع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يُفْتَنون قال : يُبتلون ، في كلّ عام مَرّةً أوْ مَرّتَيْنِ قال : بالسنة والجوع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : يُبتلون بالعذاب في كل عام مرّة أو مرّتين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : بالسنة والجوع .
وقال آخرون : بل معناه أنهم يختبرون بالغزو والجهاد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : يُبتلون بالغزو في سبيل الله في كلّ عام مرّة أو مرّتين .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، مثله .
وقال آخرون : بل معناه : أنهم يختبرون بما يشيع المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن حذيفة : أوَ لا يَرَوْنَ أنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عامٍ مَرّةً أوْ مَرَتَيْنِ قال : كنا نسمع في كلّ عام كذبة أو كذبتين ، فيضلّ بها فئام من الناس كثير .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن حذيفة ، قال : كان لهم في كلّ عام كذبة أو كذبتان .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال : إن الله عجّب عباده المؤمنين من هؤلاء المنافقين ، ووبخ المنافقين في أنفسهم بقلة تذكرهم وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها . وجائز أن تكون تلك المواعظ الشدائد التي يُنزلها بهم من الجوع والقحط ، وجائز أن تكون ما يريهم من نصرة رسوله على أهل الكفر به ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم ، وجائز أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . ولا خبر يوجب صحة بعض ذلك ، دون بعض من الوجه الذي يجب التسليم له ، ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله ، وهو : أو لا يرون أنهم يختبرون في كلّ عام مرّة أو مرّتين بما يكون زاجرا لهم ثم لا ينزجرون ولا يتعظون .