قوله تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } تعرفون نسبه وحسبه ، قال السدي : من العرب ، من بني إسماعيل . قال ابن عباس : ليس من العرب قبيل إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهم فيهم نسب . وقال جعفر بن محمد الصادق : لم يصبه شيء من أولاد الجاهلية من زمان آدم عليه السلام . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، حدثنا حامد بن محمد ، أخبرنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن أبي نعيم ، حدثنا هشيم ، حدثني المدني- يعني : أبا معشر- عن أبي الحويرث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام " . وقرأ ابن عباس والزهري وابن محيصن " من أنفسكم " بفتح الفاء ، أي : من أشرفكم وأفضلكم . " عزيز عليه " ، شديد عليه ، " ما عنتم " ، قيل " ما " صلة أي : عنتكم ، وهو دخول المشقة والمضرة عليكم . وقال القتيبي : ما أعنتكم وضركم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما ضللتم . وقال الضحاك والكلبي : ما أتممتم . { حريص عليكم } ، أي : على إيمانكم وصلاحكم . وقال قتادة : حريص عليكم أي : على ضالكم أن يهديه الله ، { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ، قيل : رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين .
ثم ختم - سبحانه سورة التوبة ، بآيتين كريمتين ، اشتملتا على أسمى النعوت ، وأكرم الصفات للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ . . . وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } .
وجمهور المفسرين على أن الخطاب في قوله - سبحانه - : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } للعرب : فهو كقوله : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } أى : لقد جاءكم - يا معشر العرب - رسول كريم " من أنفسكم " أى : جنسكم ، ومن نسبكم ، فهو عربى مثلكم ، فمن الواجب عليكم أن تؤمنوا به وتطيعوه .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ترغيب العرب في الإِيمان بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وفى طاعته وتأييده ، فإن شرفهم قد تم بشرفه ، وعزهم بعزه ، وفخرهم بفخره ، وهم في الوقت نفسه قد شهدوا له في صباه بالصدق والأمانة والعفاف وطهارة النسب ، والأخلاق الحميدة .
قال القرطبى : قوله { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } يقتضى مدحا لنسب النبى - صلى الله عليه وسلم - وأنه من صميم العرب وخالصها ، وفى صحيح مسلم " عن وائلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قرش بنى هاشم ، واصطفانى من بنى هاشم " وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنى من نكاح ولست من سفاح " .
وقال الزجاج إن الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر ، لعموم بثعته - صلى الله عليه وسلم - ومعنى كونه - صلى الله عليه وسلم - " من أنفسكم " إنه من جنس البشر .
ويبدو لنا أن الرأى الأول ارجح ؛ لأن الآية الكريمة ليت مسوقة لإِثبات رسالته - صلى الله عليه وسلم - وعمومها ، وإنما هي مسوقة لبيان منته وفضله - سبحانه - على العرب ، حيث أرسل خاتم أنبيائه منهم ، فمن الواجب عليهم أن يؤمنوا به ، لأنه ليس غريبا عنهم ، وإذا لم يؤمنوا به تكون الحجة عليهم ألزم ، والعقوبة لهم أعظم .
وقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أى : شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ، لكونه بعضا منكم ؛ فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب .
يقال : عزَّ عليه الأمر أى صعب وشق عليه ، والعنت المشقة والتعب ومنه قولهم : أكمة عنوت ، إذا كانت شاقة مهلكة ، والفعل عنت بوزن فرح .
وقوله : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أى : حريص على إيمانهم وهدايتكم وعزتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة .
والحرص على الشئ معناه : شدة الرغبة في الحصول عليه وحفظه .
قوله : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى : شديد الرأفة والرحمة بكم - أيها المؤمنون - والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر . والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع ، فهو - صلى الله عليه وسلم - يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين ، وفى إزالة كل مكروه عنهم .
قال بعضهم : لم يجمع الله - تعالى - لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبى - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عن ذاته - سبحانه - { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
وتختم السورة بآيتين ورد أنهما مكيتان ، وورد أنهما مدنيتان . ونحن نأخذ بهذا الأخير ، ونلمح مناسبتهما في مواضع متفرقة في هذا الدرس وفي جو السورة على العموم . آيتين تتحدث إحداهما عن الصلة بين الرسول وقومه ، وعن حرصه عليهم ورحمته بهم . ومناسبتها حاضرة في التكاليف التي كلفتها الأمة المؤمنة في مناصرة الرسول ودعوته وقتال أعدائه واحتمال العسرة والضيق . والآية الثانية توجيه لهذا الرسول أن يعتمد على ربه وحده حين يتولى عنه من يتولى ، فهو وليه وناصره وكافيه :
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تولوا فقل حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم )
ولم يقل : جاءكم رسول منكم . ولكن قال : ( من أنفسكم ) وهي أشد حساسية وأعمق صلة ، وأدل على نوع الوشيجة التي تربطهم به . فهو بضعة من أنفسهم ، تتصل بهم صلة النفس بالنفس ، وهي أعمق وأحسن .
لا يلقي بكم في المهالك ، ولا يدفع بكم إلى المهاوي ؛ فإذا هو كلفكم الجهاد ، وركوب الصعاب ، فما ذلك من هوان بكم عليه ، ولا بقسوة في قلبه وغلظة ، إنما هي الرحمة في صورة من صورها . الرحمة بكم من الذل والهوان ، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة ، والحرص عليكم أن يكون لكم شرف حمل الدعوة ، وحظ رضوان الله ، والجنة التي وعد المتقون .
{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره للعرب : لَقَدْ جاءَكُمْ أيها القوم رَسُولٌ الله إليكم مِنْ أنْفُسِكُمْ تعرفونه لا من غيركم ، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم . عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنتّمْ : أي عزيز عليه عنتكم ، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى . حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ يقول : حريص على هدى ضلاّلكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحقّ . بالمُؤْمِنِينَ رَءُؤفٌ : أي رفيق رَحِيمٌ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، في قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : لم يصبه شيء من شرك في ولادته .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، في قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية . قال : وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي خَرَجْتُ مِنْ نِكاحٍ ولَمْ أخْرُجْ مِنْ سِفاحٍ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : جعله الله من أنفسهم ، ولا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوّة والكرامة .
وأما قوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما ضللتم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق بن غنام ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير عن السديّ ، عن ابن عباس ، في قوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ قال : ما ضللتم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : عزيز عليه عنت مؤمنكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ عزيز عليه عنت مؤمنهم .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول ابن عباس وذلك أن الله عمّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنت قومه ، ولم يخصص أهل الإيمان به ، فكان صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله به عزيزا عليه عنت جميعهم .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزا عليه عنت جميعهم وهو يقتل كفارهم ويسبي ذراريهم ويسلبهم أموالهم ؟ قيل : إن إسلامهم لو كانوا أسلموا كان أحبّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه حتى يستحقوا ذلك من الله ، وإنما وصفه الله جلّ ثناؤه بأنه عزيز عليه عنتهم ، لأنه كان عزيزا عليه أن يأتوا ما يعنتهم وذلك أن يضلوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي .
وأما «ما » التي في قوله : ما عَنِتّمْ فإنه رفع بقوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ لأن معنى الكلام : ما ذكرت عزيز عليه عنتكم .
وأما قوله : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فإن معناه : ما قد بينت ، وهو قول أهل التأويل ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حريص على ضالهم أن يهديه الله .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ قال : حريص على من لم يسلم أن يسلم .
{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم } من جنسكم عربي مثلكم . وقرئ من " أنفسكم " أي من أشرفكم . { عزيز عليه } شديد شاق . { ما عنتم } عنتكم ولقاؤكم المكروه . { حريص عليكم } أي على إيمانكم وصلاح شأنكم . { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم . { رءوف رحيم } قدم الأبلغ منهما وهو الرءوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل .