170- وقد اعتاد الضالون عن سبيل الهدى أن يتمسكوا بما توارثوا عن آبائهم في العقيدة والعمل ، وإذا دعوا إلى ما جاء من هدى الله قالوا : لا نعدل عما وجدنا عليه آباءنا ، ومن أكبر الجهل ترجيح اتباع طاعة الآباء على إطاعة الله واتباع هداه ، فكيف إذا كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يستنيرون بنور الهداية والإيمان ؟
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } . قيل : هذه قصة مستأنفة والهاء والميم في " لهم " كناية عن غير مذكور . وروي عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أي ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أفضل وأعلم منا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقيل الآية متصلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب ، وكفار قريش ، والهاء والميم عائدة إلى قوله ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ) .
قوله تعالى : { قالوا بل نتبع ما ألفينا } . أي ما وجدنا .
قوله تعالى : { بهذا في آباءنا } . من عبادة الأصنام ، وقيل معناه : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة . والهاء والميم عائدة إلى الناس في قوله تعالى ( يا أيها الناس كلوا ) ( قالوا بل نتبع ) قرأ الكسائي : بل نتبع بإدغام اللام في النون . وكذلك يدغم لام هل وبل في التاء والثاء والراء والسين والصاد والطاء والظاء ووافق حمزة في الثاء والسين ، ( ما ألفينا ) ما وجدنا عليه آباءنا من التحريم والتحليل .
قوله تعالى : { أو لو كان آباؤهم } . أي كيف يتبعون آباءهم وآباؤهم . { لا يعقلون شيئاً } . والواو في أولو واو العطف ، ويقال لها أيضا واو التعجب ، دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ ، والمعنى أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالاً لا يعقلون شيئاً ، لفظه عام ، ومعناه الخصوص . أي لا يعقلون شيئاً من أمور الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا .
قوله تعالى : { ولا يهتدون } . ثم ضرب الله مثلاً فقال جل ذكره : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } .
وبعد أن نهى - سبحانه - الناس عن اتباع خطوات الشيطان ، وبين لهم مظاهر عداوته لهم ، أردف ذلك ببيان حال طائفة من الناس لم يستمعوا لهذا النصح ، بل اتبعوا خطوات الشيطان فقلدوا آباءهم في الشرك والجهالة فقال - تعالى - :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا . . . }
أي : وإذا قيل لأولئك الذين اقتفوا خطوات الشيطان ، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان ، إذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله من قرآن ، أعرضوا عن ذلك وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء .
فالضمير في قوله - تعالى - : { لَهُمُ } يعود على طائفة ممن شملهم الخطاب بقوله - تعالى - في الآية السابقة : { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } وهم الذين لم يستجيبوا لنداء الله بل ساروا في ركب الشيطان ، واقتفوا آثاره ، { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله } . القائل لهم ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون .
والمراد به أنزل الله : القرآن الكريم ، وما أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من هدايات . وعدل - سبحانه - من خطابهم إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لرفرط جهلهم وحمقهم صاروا ليسوا أهلا للخطاب ، بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله .
و { بَلْ } في قوله - تعالى : { بَلْ نَتَّبِعُ } للإضراب الإبطالي ، أي : أضربوا عن قول الرسول لهم { اتبعوا مَآ أَنزَلَ } إضراب إعراض بدون حجة ، إلا بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم من أمور الشرك والضلال .
وقوله - تعالى - : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } رد عليهم ، وبيان لبطلان الاعتماد في الدين على مجرد تقليد الآباء .
والهمزة للاستفهام الإِنكاري ، والواو للحال ، والمعنى : أيتبعون ما وجدوا عليه آباءهم والحال أن آباءهم لا يعقلون شيئاً من أمور الدين الصحيح ، ولا يهتدون إلى طريق الصواب .
قال الآلوسي : وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر ، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم - بدليل ما - أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله - تعالى - وليس من التقليد المذموم في شيء وقد قال - سبحانه - { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } .
( وإذا قيل لهم : اتبعوا ما أنزل الله قالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) . .
وسواء كان هؤلاء الذين تعنيهم الآية هم المشركون الذين تكرر منهم هذا القول كلما دعوا إلى الإسلام ، وإلى تلقي شرائعهم وشعائرهم منه ، وهجر ما ألفوه في الجاهلية مما لا يقره الإسلام . أو كانوا هم اليهود الذين كانوا يصرون على ما عندهم من مأثور آبائهم ويرفضون الاستجابة للدين الجديد جملة وتفصيلا . . سواء كانوا هؤلاء أم هؤلاء فالآية تندد بتلقي شيء في أمر العقيدة من غير الله ؛ وتندد بالتقليد في هذا الشأن والنقل بلا تعقل ولا إدراك :
( أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) .
أولو كان الأمر كذلك ، يصرون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم ؟ فأي جمود هذا وأي تقليد ؟ !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.