177- لقد أكثر الناسُ الكلام في أمر القبلة كأنها هي وحدها الخير ، وليس هذا هو الحق ، فليس استقبال جهة معينة في المشرق أو المغرب هو قوام الدين وجماع الخير ، ولكن ملاك الخير عدة أمور بعضها من أركان العقيدة الصحيحة ، وبعضها من أمهات الفضائل والعبادات ، فالأول هو : الإيمان بالله ويوم البعث والنشور والحساب وما يتبعه يوم القيامة ، والإيمان بالملائكة وبالكتب المنزلة على الأنبياء وبالأنبياء أنفسهم . والثاني هو : بذل المال عن رغبة وطيب نفس للفقراء من الأقارب واليتامى ، ولمن اشتدت حاجتهم وفاقتهم من الناس ، وللمسافرين الذين انقطع بهم الطريق فلا يجدون ما يبلغهم مقصدهم ، وللسائلين الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال ، ولغرض عتق الأرقاء وتحرير رقابهم من الرق . والثالث : المحافظة على الصلاة . والرابع : إخراج الزكاة المفروضة . والخامس : الوفاء بالعهد في النفس والمال . والسادس : الصبر على الأذى ينزل بالنفس أو المال ، أو وقت مجاهدة العدو في مواطن الحروب فالذين يجمعون هذه العقائد والأعمال الخيرة هم الذين صَدَقوا في إيمانهم ، وهم الذين اتقوا الكفر والرذائل وتجنبوها .
قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } . قرأ حمزة و حفص : ليس البر بنصب الراء ، والباقون برفعها ، فمن رفعها جعل البر اسم ليس ، وخبره قوله : أن تولوا ، تقديره : ليس البر توليتكم وجوهكم . ومن نصب جعل أن تولوا في موضع الرفع على اسم ليس ، تقديره : ليس توليتكم وجوهكم البر كله ، كقوله تعالى : ( ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا ) . والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة . واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية ، فقال قوم : عنى بها اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق ، وزعم كل فريق منهم : أن البر في ذلك ، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم ولكنه ما بينه في هذه الآية ، وعلى هذا القول قتادة ومقاتل بن حيان . وقال الآخرون : المراد بها المؤمنون . وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة . ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض ، وحددت الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ، أنزل الله هذه الآية فقال : ( ليس البر ) أي كله أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا على غير ذلك .
قوله تعالى : { ولكن البر } . ما ذكر في هذه الآية وعلى هذا القول ابن عباس ومجاهد ، وعطاء والضحاك . ولكن البر رفع ، وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب البر .
قوله تعالى : { من آمن بالله } . جعل من وهي اسم خبر للبر وهو فعل ولا يقال البر زيد . واختلفوا في وجهه قيل لما وقع من في موقع المصدر جعله خبراً للبر ، كأنه قال ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل وأنشد الفراء :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى *** ولكنما الفتيان كل فتى ندى
فجعل نبات اللحية خبر للفتى . وقيل فيه إضمار معناه ولكن البر بر من آمن بالله ، فاستغنى بذكر الأول عن الثاني . كقولهم الجود حاتم أي الجود جود حاتم . وقيل معناه ولكن ذا البر من آمن بالله . كقوله تعالى : ( هم درجات عند الله ) أي ذو درجات . وقيل معناه ولكن البر من آمن بالله كقوله تعالى ( والعاقبة للتقوى ) أي للمتقي ، والمراد من البر هاهنا الإيمان والتقوى .
قوله تعالى : { واليوم الآخر والملائكة } . كلهم .
قوله تعالى : { والكتاب } . يعني الكتب المنزلة .
قوله تعالى : { والنبيين } . أجمع .
قوله تعالى : { وآتى المال } . أعطى المال .
قوله تعالى : { على حبه } . اختلفوا في هذه الكناية ، فقال أكثر أهل التفسير : إنها راجعة إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال . قال ابن مسعود : أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، ثنا عمارة بن القعقاع ، أنا أبو زرعة ، أخبرنا أبو هريرة قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " . وقيل هي عائدة على الله عز وجل أي على حب الله تعالى .
قوله تعالى : { ذوي القربى } . أهل القرابة . أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن عمها سليمان ابن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان ، صدقة وصلة " .
قوله تعالى : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال مجاهد : يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك ، ويقال للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق ، وقيل : هو الضيف ينزل بالرجل قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .
قوله تعالى : { والسائلين } . يعني الطالبين . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي بجيد الأنصاري وهو عبد الرحمن بن نجيد عن جدته وهي أم نجيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ردوا السائل ولو بظلف محرق " وفي رواية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لم تجدي شيئاً إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه " .
قوله تعالى : { وفي الرقاب } . يعني المكاتبين قاله أكثر المفسرين ، وقيل : عتق النسمة وفك الرقبة وقيل : الأسارى .
قوله تعالى : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } . وأعطى الزكاة .
قوله تعالى : { والموفون بعهدهم } . فيما بينهم وبين الله عز وجل وفيما بينهم وبين الناس .
قوله تعالى : { إذا عاهدوا } . يعني إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا ونذروا أوفوا ، وإذا عاهدوا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدوا ، واختلفوا في رفع قوله والموفون قيل : هو عطف على خبر معناه ولكن ذا البر المؤمنون والموفون بعهدهم وقيل : تقديرهم الموفون كأنه عد أصنافاً ثم قال : هم الموفون كذا ، وقيل رفع على الابتداء والخبر يعني وهم الموفون ثم قال :
قوله تعالى : { والصابرين } . وفي نصبها أربعة أوجه . قال أبو عبيدة : نصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الإعراب إذا طال الكلام والنسق ، ومثله في سورة النساء والمقيمين الصلاة ، وفي سورة المائدة والصابئون والنصارى ، وقيل معناه أعني الصابرين ، وقيل نصبه نسقاً على قوله ذوي القربى أي وآتي الصابرين . وقال الخليل : نصب على المدح والعرب تنصب على المدح والذم . كأنهم يريدون إفراد الممدوح والمذموم ، فلا يتبعونه أول الكلام وينصبونه ، فالمدح كقوله تعالى : ( والمقيمين الصلاة ) . والذم كقوله تعالى ( ملعونين أينما ثقفوا ) .
قوله تعالى : { في البأساء } . أي الشدة والفقر .
قوله تعالى : { والضراء } . المرض والزمانة .
قوله تعالى : { وحين البأس } . أي القتال والحرب . أخبرنا المطهر بن علي بن عبد الله الفارسي ، أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان ، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا زهير عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " كنا إذا احمر البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه " ، يعني إذا اشتد الحرب .
ثم ساق القرآن الكريم آية جامعة لأنواع البر ، ووجوه الخير ، تهدي المتمسك بها إلى السعادة الدنيوية والأخروية فقال - تعالى - :
{ لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر . . . }
{ البر } : اسم جامع لكل خير ، ولكل طاعة وقرية يتقرب بها العبد إلى خالقه - عز وجل- .
قال الراغب : " البر - بفتح الباء - خلاف البحر ، وتصور منه التوسع فاشتق منه البر - بكسر الباء - بمعنى التوسع في فعل الخير ، وينسب ذلك إلى الله - تعالى - تارة نحو : ( إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ) وإلى البعد تارة فيقال : بر العبد ربه ، أي توسع في طاعته فالبر من الله الثواب ، ومن العبد الطاعة " .
وتولية الوجوه قبل الشيء معناه : التوجه إليه بجعل الوجه متجها إلى جهته فلفظ " قيل " بمعنى جهة وهو منصوب على الظرفية المكانية .
{ المشرق } : الجهة التي تشرق منها الشمس ، والمغرب : الجهة التي تغرب فيها .
قال الإِمام الرازي : اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص . فقال بعضهم : أراد بقوله : { لَّيْسَ البر } أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه بنحو بيت المقدس فقال - تعالى - ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله . وقال بعضهم : بل المراد مخاطبته المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام وقال بعضهم : بل هو خطاب للكل ، لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الفرض الأكبر في الدين ، فبعثهم الله - تعالى - بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر . كيت وكيت . وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخيصيص فيه ، فكأنه - تعالى - قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هو هذه الخصال التي عدها " .
وهذا القول الثالث - الذي يرى أصحابه أن الخطاب للكل ، والذي قال عنه الإِمام الرازي : هذا أشبه بالظاهر - هذا القول ، هو الذي تسكن إليه النفس ، لأنه لا يوجد نص صحيح يخصص الخطاب لطائفة معينة من الناس ولأن المقصود من الآية الكريمة إنما هو إفهام الناس في كل زمان ومكان أن مجرد تولية الوجه إلى قبلة مخصوصة ليس هو البر الكامل الذي يعنيه الإِسلام ، وإنما البر الكامل يتأنى في استجابة الإِنسان لتلك الخصال الشريفة التي اشتملت عليها الآية ، تلك الخصال التي تجعل المسمسكين بها على صلة طيبة بخالقهم وعلى صلة طيبة بغيرهم ، - كما سنبين ذلك عند تعليقنا على هذه الآية الكريمة- .
والمعنى : ليس البر - الذي هو كل طاعة يتقرب بها الإِنسان إلى خالقه - في تولية الوجه عند الصلاة إلى جهة المشرق والمغرب ، وإنما البر الذي يجب الاهتمام به لأنه يؤدي إلى السعادة والفلاح - يكون في الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفي انفاق المال في وجوه الخير ، وفي اتباع ما ذكرته الآية الكريمة من خصال جليلة .
هذا وقد قرأ حمزة وحفص عن عاصم { لَّيْسَ البر } بنصب البر على أنه خبر ليس ، واسمها قوله - تعالى - : { أَن تُوَلُّواْ } أي : ليس توليتكم وجهوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله .
وقرأ الباقون { لَّيْسَ البر } برفع البر على أنه اسم ليس ، وخبرها قوله - تعالى - : { أَن تُوَلُّواْ } أي ليس البر كله توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب .
قال الطبرسي : وكلا المذهبين حسن ، لأن كل واحد من اسم لس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسما والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان .
وقوله - تعالى - { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } إلخ بيان لما هو البر الذي يجب أن تتجه إليه الأفكار ، وتستجيب له النفوس .
و { ولكن } حرف استدراك ، البر : اسمها . وقوله { مَنْ آمَنَ } وقع في اللفظ موقع الخبر عن قوله { البر } والخبر في المعنى لفظ مقدر مضاف إلى من آمن ، يفهم من سياق الجملة ، والمعنى مع ملاحظة المقدر : ولكن البر بر من آمن بالله .
وهذا اللون من الإِيجاز الذي حذف فيه المضاف معهود في كلام البلغاء إذ تجدهم يقولون السخاء حاتم ، والشعر زهير .
وقيل : إن البر هنا بمعنى البار فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل ، كما يقال : ماء غور أي : غائر ، ورجل صوم أي : صائم .
وقيل : إن المحذوف هو لفظ مضاف إلى البر : أي : ولكن ذا البر من آمن بالله .
وقد ابتدأت الآية حديثها عن خصال البر بالإِيمان بالله ، لأنه أساس كل بر . وأصل كل خير ، والإِيمان بالله : هو التصديق بأنه هو الواحد الفرد الصمد ، الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا تتجه القلوب بالعبادة إلا إليه ، ومتى رسخ هذا الإِيمان في النفوس ارتفع بها إلى مكانة التكريم التي أرادها الله - تعالى - لبني آدم وصانها عن الذلة والاستكانة وأعطاها بنراس الهداية والسداد في كل نواحي الحياة .
ثم ذكرت الإِيمان باليوم الآخر ، وهو التصديق بالبعث وما يقع بعده من حساب وثواب وعقاب على الوجه الذي وصفته نصوص الشريعة بأجلى بيان .
والإِيمان باليوم الآخر من ثماره أنه يغرس في النفوس محبة الخير ، والحرص على إسداء المعروف وينفرها من اقتراف الشرور وارتكاب الآثام .
ولقد تحدث القرآن عن الإِيمان بالله واليوم الآخر في عشرات الآيات ، وأقام الأدلة الساطعة ، والبراهين القاطعة على وحدانية الله وعلى أنه هو صاحب الكمال المطلق ، كما أقام الحجج والبراهين على أن البعث حق وضرب الأمثال لذلك ، وسفه عقول المنكرين له .
ثم ذكرت الإِيمان بالملائكة والملائكة : أجسام لطيفة نورانية ، قادرون على التشكل في صورة حسنة مختلفة ، وصفهم القرآن بأنهم
{ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ووجه دخول التصديق بهم في حقيقة الإِيمان ، أن الله وسطهم في إبلاغ وحيه لأنبيائه ، وبين ذلك في كتابه ، وتحدث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عنهم في كثير من أحاديثه ، فمن لم يؤمن بالملائكة على هذا الوجه الذي جاءت به الشريعة فقد أنكر الوحي ، إذ الإِيمان بهم أصل للإِيمان بالوحي ، فيلزم من إنكارهم إنكار الوحي ، وهو يستلزم إنكار النبوة وإنكار الدار الآخرة .
ثم ذكرت الآية الإِيمان بالكتاب . والمراد به القرآن لأنه المقصود بالدعوة ، ولأنه هو الأمين على الكتب قبله ، فما وافقه منها كان حقاً وما خالفه كان باطلا .
والإِيمان به يستلزم الإِيمان بجميع الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ، لأنه هو الذي أخبرنا بذلك وأمرنا بذلك وأمرنا بأن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله .
ثم ذكرت الإِيمان بالنبيين ، أي : التصديق بأنهم رجال اصطفاهم الله - تعالى - لتلقي هدايته وكتبه وتبليعها للناس بصدق وأمانة وسلامة بصيرة .
والنبيون الذين يجب الإِيمان بهم : كل من ثبتت نبوته عن طريق القرآن الكريم أو الحديث الصحيح ، وكل من أنكر نبوة نبي قد ثبت نبوته فقد خرج عن طريق الإِيمان .
ولقد قام الدليل القاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين ، وكل من ادعى غير ذلك فهو من الضالين المضلين .
وقد جمعت هذه الأمور الخمسة التي ذكرتها الآية كل ما يلزم أن يصدق به الإِنسان ، ليك يكون ذا عقيدة سليمة ، تصل به إلى الفلاح والسعادة .
ثم ذكرت الآية بعد بيان أصول الإِيمان الأعمال الصالحة فقالت . { وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب } .
وهذه الجملة معطوفة على قوله - تعالى - : { مَنْ آمَنَ بالله } .
والضمير في قوله { على حُبِّهِ } يعود إلى المال ، أي : أعطى المال وبذله عن طيب خاطره حالة كونه محباً له راغباً فيه . لأن الإِعطاء والبذل في هذه الحالة يدل على قوة الإِيمان ، وصفاء الوجدان ، ويسمو بصاحبه إلى أعلا الدرحات . قال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصدقة ما كان في حال الصحة ، لأن الإِنسان في هذه الحالة يكون مظنة الحاجة إلى المال فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا وكذا وقد كان لفلان " " .
وقيل الضمير يعود إلى الله - عز وجل - أي : يعطون المال على حب الله وطلباً لمرضاته .
وقيل يعود إلى الإيتاء الذي دل عليه قوله - تعالى - { وَآتَى المال } فكأنه قال : يعطيى ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .
والمراد بذوي القربى : أقرباء المعطى للمال ، والمعنى : وأعطاى المال مع محبته لهذا المال لأقاربه المحتاجبين لأنهم أولى بالمعروف ، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم ، ولذلك جاء ذكرهم في الآية مقدماً على بقية الأصناف التي تستحق العطف والإِحسان .
روى الإِمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة . وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة " .
{ واليتامى } : جمع يتيم ، وهو من فقد أباه بالموت ولم يبلغ الحلم . وهؤلاء اليتامى في حاجة إلى الإِحسان إليهم بعد ذوي القربى متى كانوا محتاجين ، لشدة عجزهم عن كسب ما يسد حاجتهم .
{ والمساكين } جمع مسكين ، وهو من لا يملك شيئاً من المال ، أو يملك ما لا يكفي حاجاته وهذا النوع من الناس في حاجة إلى العناية والرعاية ؛ لأنهم في الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل على إراقة وجهوههم بالسؤال . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان . قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً " .
{ وابن السبيل } : هو المسافر المنقطع عن ماله . وسمى بذلك - كما قال الآلوسي - لملازمته السبيل - أي الطريق - في السفر ، أو لأن الطريق تبرزة فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه .
وهذا النوع من الناس في حاجة إلى المساعدة والمعاونة حتى يستطيع الوصول إلى بلده ، وفي هذا تنبيه إلى المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة .
{ والسآئلين } : جمع سائل ، وهو الطالب للإِحسان والمعروف . ويحمل حاله على أنه في حاجة إلى المعاونة ، لأن السؤال علامة الحاجة غالباً .
والرقاب : جمع ربغة وهي في الأصل العنق ، وتطلق على البدن كله كما تطلق العين على الجاسوس . فصح حمل الرقاب على الأسارى والأرقاء .
وقوله : { وَفِي الرقاب } متعلق بآتي ، أي : آتى المال على حبه في تخليص الأسرى من أيدي العدو بفدائهم ، وتخليص الأرقاء بشرائهم وإعتاقهم ، وهذه الأوصناف الستة التي ذكرت في تلك الآية الكريمة { وَآتَى المال على حُبِّهِ . . } إلخ .
ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة .
والذي يراجع القرآن الكريم يجده قد عني عناية كبرى بالفقراء والمساكين وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوررة تخلو من الحث على الإِنفاق عليهم ، وبذل العون في مساعدتهم - وأيضاً - هناك عشرات الأحاديث في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيا وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابر بين أبنائها .
ثم ذكرت الآية ألواناً أخرى من البر تدل على قوة الإِيمان وحسن الخلق فقالت : { وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة } وإقامة الصلاة أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وسننها وخشوعها على الوجه الشرعي الذي أمر الله به ، والمراد بالزكاة هنا ، الزكاة المفروضة على الوجه الذي فصلته السنة المطهرة . وإبتاؤها : يكون بإعطائها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهم ممن ذكرهم الله في قوله - تعالى - : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل فَرِيضَةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وفي ذكر الزكاة المفروضة بعد ذكر إيتاء المال على حبه لذوي القربى واليتامى . . إلخ دليل على أن في الأموال حقوقاً لذوي الحاجات سوى الزكاة ، وذلك لأنه من المعروف بين أهل العلم أن الحاجة إذا بلغت بطائفة من أبناء الأمة حد الضرورة ، يجب على الأغنياء منها أن يسعو في سدها ولو مما زاد على قدر الزكاة .
والأغنياء الذين يكتفون بدفع الزكاة ، ولا يمدون يد المساعدة لسد حاجة المحتاجين ، وتفريج كرب المكروبين ، ودفع ضرورة البائسين ، ليسوا على البر الذي يريده الله من عباده المتقين .
ومسألة " هل في المال حق سوى الزكاة " من المسائل التي تناولها بعض العلماء بالشرح والتفصيل .
وقوله : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } معطوف على قوله { مَنْ آمَنَ } فإنه في قوة قولك ، ومن أوفوا بعهدهم ، وأوثرت صيغة اسم الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء .
الوفاء بالعهد يشمل ما عاهد المؤمنمون عليه الله من الإِعان لكل ما جاء به الدين ، ويشمل ما يعاهد به الناس بعضهم بعضاً مما لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً .
والموفون بعهدهم هم الذين إذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا بروا في أيمانهم ، وإذا قالوا صدقوا في قولهم ، وإذا ائتمنوا أدوا الأمانة ، وقد وعدهم الله على ذلك بأجزل الثواب ، وأعلى الدرجات .
وفي قوله - تعالى - : { إِذَا عَاهَدُواْ } إشارة إلى أن إيفاءهم بالعهد لا يتأخر عن وقت حصول العهد .
ثم ختم - سبحانه - خصال البر بقوله : { والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } .
البأساء من البؤس ، وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج . يقال : بئس يبأس بؤساً وبأساً أي اشتدت حاجته .
والضراء من الضر ، وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام يقال : ضره وأضره وضاره وضراً ، ضد نفع : والألف في البأساء والضراء للتأنيث .
وحين البأس ، أي : ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته ، يقال : بؤس ببؤس بأسا فهو بئيس ، أي : شجاع شديد .
وقوله : { والصابرين } معطوف في المعنى على { مَنْ آمَنَ } كقوله { والموفون } إلا أنه جاء منصوبا على المدح بتقدير - أخص أو أمدح - وغير سبكه عما قبله ، تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على غيره من الفضائل حتى لكأنه ليس من جنس ما سبقه من فضائل ، وهذا الأسلوب يسمى عند علماء اللغة العربية بالقطع ، وهو أبلغ من الإِتباع . ولا ريب في أن صفة الصبر على الشدائد والآلام وحين القتال في سبيل الله ، جديرة بأنه ينبه لمزيد فضلها ، إذ هي أصل لكثير من المكارم كالعفاف عما في أيدي الناس ، والتسليم للقضاء الذي لا مرد له ، والإِقدام الذي يحمي به الدين وتسلم به النفوس والأموال والأعراض :
وليس الصبر هو الخضوع والاستكانة والاستسلام من غير مقاومة ولا عمل وإنما الصبر جهاد ومحاولة للتغلب على المصاعب ، ومع الاحتفاظ برباطة الجأش والثقة بحسن العاقبة .
وقد خصت الآية ثلاثة حالات بالصبر ؛ لأن هذه الحالات هي أبرز الأشياء التي يظهر فيها هلع الهالعين وجزع الجازعين ، كما يتميز فيها أصحاب النفوس القوية المطمئنة من غيرهم .
وجاءت كلمة " حين " في قوله : { وَحِينَ البأس } مشيرة إلى أن مزية الصبر في القتال إنما تظهر حين يلتقى الجمعان ، وتدور رحى الحرب ، لأن بعض الناس قد يكون قوياً في بدنه ، وقد يحشر نفسه في زمرة الأبطال المقاتلين ، ولكنه عندما يرى الأعناق تتساقط من حوله تخور قواه ، ويلوذ بالفرار ، أو يستسلم للعدو . وفي هذه الحالة تسلب عنه صفة الصابرين حين البأس . وتحق عليه صفة الضعفاء الجبناء .
وقد جاءت أنواع الصبر في الآية على وجه الترقي من الشديد إلى الأشد ، وذلك لأن الصبر على المرض أصعب من الصبر على الفقر ، والصبر حين البأس أصعب من الصبر على المرض . ثم ختمت الآية حديثها عن هؤلاء الجامعين لهذه الخصال بقوله تعالى : { أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون } .
أولئك اسم إشارة للجمع ، وقد أشير به إلى من تقدم ذكرهم من الجامعين لخصال البر . والصدق توصف به الأقوال المطابقة للواقع ، وتوصف به الأعمال الواقعة على الوجه الذي يرضى الله - تعالى- .
والمتقون من الاتقاء وهو الحذر ، ويطلق المتقى في كلام الشارع على الإِنسان الذي صان نفسه عن كل ما يغضب الله ، وامتثل لأوامره ونواهيه .
أي : أولئك الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم ، وأولئك هم المتقون لعذاب الله - تعالى - بسبب امتثالهم لأوامره ، واجتنابهم لما نهى عنه .
واسم الإشارة { أولئك } جيء به لإحضارهم في أذهان المخاطبين وهم متصفون بتلك المناقب الجليلة .
وفي تكرير الإِشارة زيادة تنويه بشأنهم وفضلهم . وجاء الإِخبار عنهنم بأنهم الصادقون المتقون ، لتشيرهم بأنهم قد بلغوا بإحرازهم لتلك الخصال السابقة الغاية التي يطمح إليها أرباب البصائر المتنيرة ، والنفوس المتقيمة ، والقلوب السليمة ، وهي مقام الصدق والتقوى الذي يرتفع بصاحبه إلى السعادة في الدنيا ، والنعيم الدائم في الآخرة .
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على خمسة عشر نوعاً من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا ، وإلى رضا الله - تعالى - في الآخرة ، وذلك لأنها قد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير : بر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .
أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله - تعالى - : { وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب } .
ولا شك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم ، ويكون مظهراً من أفضل مظاهر العمل الصالح الذي يرضي الله - تعالى - .
وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله - تعالى - : { وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } .
وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل . أداء الصلاة وإيتاء الزكاة . والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر - يدل على صفاء الإِيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق وكمال الاستقامة .
وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق ، وتربط بين الجميع برباط واحد لا ينفصم ، ونضع على هذا كله عنواناً واحداً " البر " وتمدح من استجمع أنواعه بالصدق والتقوى .
فلله هذا الاستقراء البديع ، وذلك التوجيه السديد ، الذي يشهد أن هذا القرآن من عند الله { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً }
وأخيرا وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح ، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح ، ويحدد صفة الصادقين المتقين :
( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ؛ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؛ وآتى المال - على حبه - ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ؛ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) . .
والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل . ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة . فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات ، وكثيرا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور .
إنه ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق ، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب . . نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام . . وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة . فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر ، ولا تنشىء الخير : إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك . تصور ينشىء ء أثره في ضمير الفرد والجماعة ؛ وعمل ينشىء أثره في حياة الفرد والجماعة . ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب . . سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك ؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالا ، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر .
( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين . . . ) الآية .
ذلك هو البر الذي هو جماع الخير . . فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله ؟
ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؟
إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى ، وشتى الأشياء ، وشتى الاعتبارات . . إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية ، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد ؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار . . وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه . فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد ، لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة ، كما يتجمع الوجود كله ، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات . . والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء ؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان . وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء . . والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان ، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان . الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه . . والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين ، وهو الإيمان بوحدة البشرية ، ووحدة إلهها ، ووحدة دينها ، ووحدة منهجها الإلهي . . ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات .
وما قيمة إيتاء المال - على حبه والاعتزاز به - لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ؟
إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة . انعتاق الروح من حب المال الذييقبض الأيدي عن الإنفاق ، ويقبض النفوس عن الأريحية ، ويقبض الأرواح عن الانطلاق . فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال . وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال . لا في الرخيص منه ولا الخبيث . فيتحرر من عبودية المال ، هذه العبودية التي تستذل النفوس ، وتنكس الرؤوس . ويتحرر من الحرص . والحرص يذل اعناق الرجال . وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام ، الذي يحاول دائما تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها ، يقينا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس ؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات ! . . ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة . . هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس ، وكرامة الأسرة ، ووشائج القربى . والأسرة هي النواة الأولى للجماعة . ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم . . وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة ، وبين الأقوياء فيها والضعفاء ؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين ؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها ، وتعرضهم للفساد ، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برا ولا رعاية . . وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون - وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنا بماء وجوههم - احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم ، وصيانة لهم من البوار ، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة ، التي لا يهمل فيها فرد ، ولا يضيع فيها عضو . . وهي لابن السبيل - المنقطع عن ماله وأهله - واجب للنجدة في ساعة العسرة ، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار ؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل ، وبأن الأرض كلها وطن ، يلقى فيها أهلا بأهل ، ومالا بمال ، وصلة بصلة ، وقرارا بقرار . . وهي للسائلين إسعاف لعوزهم ، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام . وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا ، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل ، وأن يقنع ولا يسأل . فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال . . وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام - حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة . ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه ، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه . والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية ، ويطلب مكاتبته عليها - أي أداء مبلغ من المال في سبيلها ، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له ، ويصبح مستحقا في مصارف الزكاة ، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة . . كل أولئك ليسارع في فك رقبته ، واسترداد حريته . .
وإقامة الصلاة ؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير ؟
إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب . إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ، ظاهرا وباطنا ، جسما وعقلا وروحا . إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم ، وليست مجرد توجه صوفي بالروح . فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة . إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان ؛ ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان ، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح ، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح . ومن ثم يجعل عبادته الكبرى . . الصلاة . مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق . يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد ، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل ؛ ويجعلها توجها واستسلاما لله تحقيقا لنشاط الروح . . كلها في آن . . وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة ، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة . . في كل ركعة وفي كل صلاة . وإيتاء الزكاة ؟ . . إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقا في أموال الأغنياء للفقراء ، بحكم أنه هو صاحب المال ، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه ، من شروطه إيتاء الزكاة . وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال - على حبه - لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق ؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة ، وليست الزكاة بديلة منه . . وإنما الزكاة ضريبة مفروضة ، والإنفاق تطوع طليق . . والبر لا يتم إلا بهذه وتلك . وكلتاهما من مقومات الإسلام . وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق ، ولا تغني هي عن الإنفاق .
والوفاء بالعهد ؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها ، ويكررها القرآن كثيرا ؛ ويعدها آية الإيمان ، وآية الآدمية وآية الإحسان . وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول . تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله . وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد ، ولا يطمئن إلى عهد ، ولا يثق بإنسان ، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله ، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام .
والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ؟ . . إنها تربية للنفوس وإعداد ، كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ، ولا تنهار جزعا أمام الشدة . إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا . إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله . ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية ، والعدل في الأرض والصلاح ، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة . الصبر في البؤس والفقر . والصبر في المرض والضعف . والصبر في القلة والنقص . والصبر في الجهاد والحصار ، والصبر على كل حال . كي تنهض بواجبها الضخم ، وتؤدي دورها المرسوم ، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال .
ويبرز السياق هذه الصفة . . صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس . . يبرزها بإعطاء كلمة( الصابرين )وصفا في العبارة يدل على الاختصاص . فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير : " وأخص الصابرين " . . وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر . . لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم ، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال - على حبه - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد . . وهو مقام للصابرين عظيم ، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله ، يلفت الأنظار . .
وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وتجعلها كلا لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم . وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو( البر )أو هو " جماع الخير " أو هو " الإيمان " كما ورد في بعض الأثر . والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام .
ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم :
( أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون ) . .
أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم . صدقوا في إيمانهم واعتقادهم ، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة .
وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به ، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق . .
وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها ، بمنهجه الرفيع القويم . . ثم ننظر إلى الناس وهن ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه ، ويحاربونه ، ويرصدون له العداوة ، ولكل من يدعوهم إليه . . ونقلب أيادينا في أسف ، ونقول ما قال الله سبحانه : يا حسرة على العباد !
ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة ، على أمل في الله وثيق ، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع ، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل . أمل وضيء منير . أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء - بعد العناء الطويل - إلى هذا المنهج الرفيع ، وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء . . والله المستعان .