ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال : { يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو : أنصاراً ، بالتنوين لله بلام الإضافة ، وقرأ الآخرون : { أنصار الله } بالإضافة ، كقوله نحن أنصار الله ، { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين } أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام : { من أنصاري إلى الله } أي : من ينصرني مع الله ؟ { قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } قال ابن عباس : يعني في زمن عيسى عليه السلام ، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق : فرقة قالوا : كان الله فارتفع ، وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه الله إليه ، وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه وهم المؤمنون ، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس ، فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين ، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة ، فذلك قوله تعالى : { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } غالبين عالين ، وروى مغيرة عن إبراهيم قال : فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى كلمة الله وروحه .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بنداء ثالث وجهه إلى المؤمنين ، دعاهم فيه إلى التشبه بالصالحين الصادقين من عباده فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . } .
الحواريون : جمع حوارى . وهم أنصار عيسى - عليه السلام - الذين آمنوا به وصدقوه ، وأخلصوا له ولازموه ، وكانوا عونا له فى الدعوة إلى الحق ، وكانوا اثنى عشر رجلا .
يقال : فلان حوارى فلان ، أى : هو من خاصة أصحابه ، ومنه قول البنى - صلى الله عليه وسلم - فى الزبير بن العوام : " لكل نبى حوارى ، وحواريى الزبير " .
وأصل الحور : شدة البياض والصفاء ، ومنه قولهم فى خالص لباب الدقيق : الحوارى ، وفى النساء البيض الحسان : الحواريات والحوريات .
وسمى الله - تعالى - أصفياء عيسى وأنصاره بذلك لشدة إخلاصهم له ، وطهارة قلوبهم من الغش والنفاق ، فصاروا فى نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص .
والأنصار : جمع نصير ، وهو من ينصر غيره نصرا شديدا مؤزرا .
والمراد بنصر الله - تعالى - : نصر دينه وشريعته ونبيه الذى أرسله بالهدى ، وديم الحق .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : كونوا أنصاراً لله .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان داوموا وواظبوا على أن تكونوا أنصاراً لدين الله فى كل حال ، كما كان الحواريون كذلك ، عندما دعاهم عيسى - عليه السلام - إلى نصرته والوقوف إلى جانبه .
فالكلام محمول على المعنى ، والمقصود منه حض المؤمنين على طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى الاستجابة التامة لما يدعوهم إليه ، كما فعل الحواريون مع عيسى ، حيث ثبتوا على دينهم ، وصدقوا مع نبيهم ، دون أن تنال منهم الفتن أو المصائب .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه - وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى { مَنْ أنصاري إِلَى الله } .
قلت التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح ، والمراد كونوا أنصار الله ، كما كان الحواريون أنصار عيسى كذلك حين قال لهم : من أنصارى إلى الله .
فإن قتل : فما معنى قوله : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ قلت : يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين : { نَحْنُ أَنصَارُ الله } والذى يطابقه أن يكون المعنى : من جندى متوجها إلى نصرة دين الله .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } للحض على نصرته والوقوف إلى جانبه ، وأضافهم - عليه السلام - إليه ، باعتبارهم أنصار دعوته ودينه .
وقوله : { إِلَى الله } متعلق بأنصارى ، ومعنى " إلى " الانتهاء المجازى ، أي : قال عيسى للحواريين على سبيل الامتحان لقوة إيمانهم : من الجند المخلصون الذين أعتمد عليهم بعد الله - تعالى - فى نصرة دينه ، وفى التوجه إليه بالعبادة والطاعة وتبليغ رسالته . . . ؟ ، فأجابوه بقولهم : نحن أنصار دين الله - تعالى - ونحن الذين على استعداد أن نبذل نفوسنا وأموالنا فى سبيل تبليغ دعوته - عز وجل - ومن أجل إعلاء كلمته .
وقوله - تعالى - : { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } مفرع على ما قبله ، لبيان موقف قومه منه ، أي : قال الحواريون لعيسى عندما دعاهم إلى اتباع الحق : نحن أنصار دين الله ، ونحن الذين سنثبت على العهد . . . أما بقية بنى إسرائيل فقد افترقوا إلى فرقتين : فرقة آمنت بعيسى وبما جاء به من عند الله - تعالى - ، وفرقة أخرى كفرت به وبرسالته .
وقوله : { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } .
بيان للنتائج التى تحققت لكل طائفة من الطائفتين : المؤمنين والكافرين .
وقوله : { ظَاهِرِينَ } من الظهور بمعنى الغلبة ، يقال : ظهر فلان على فلان ، إذا تغلب عليه وقهره ، أي : كان من قوم عيسى من آمن به ، ومنهم من كفر به ، فأيدنا وقوينا ونصرنا الذين آمنوا به ، على الذين كفروا به ، فصار المؤمنون ظاهرين ومنتصرين على أعدائهم بفضله - تعالى - ومشيئته .
والمقصود من هذا الخبر حض المؤمنون فى كل زمان ومكان ، على الإيمان والعمل الصالح ، لأن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة لهم ، كما جعلها لأتباع عيسى المؤمنين ، على أعدائهم الكافرين .
قال بعض العلماء : وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين : إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى - عليه السلام - ، هم المسيحيون إطلاقا ، من استقام ، ومن دخلت فى عقيدته الانحرافات ، وقد أيدهم الله - تعالى - على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا ، كما حدث فى التاريخ .
وإما أن الذين آمنوا : هم الذين أصروا على التوحيد فى وجه المؤهلين لعيسى ، والمثلثين وسائر النحل التى انحرفت عن التوحيد .
ومعنى : أنهم أصبحوا ظاهرين ، أى : بالحجة والبرهان ، أو أن التوحيد الذى هم عليه ، هو الذى أظهره الله بهذا الدين الأخير - أى : دين الإسلام - وجعل له الجولة الأخيرة فى الأرض . كما وقع فى التاريخ .
هذا المعنى الأخير هو الأرجح والأقرب فى هذا السياق .
وبعد : فهذا تفسير لسورة " الصف " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده .
فهذا هو ذا يختم السورة بنداء جديد ، يحمل طابعا جديدا ، وإغراء جديدا ، وموحيا جديدا :
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة . فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين . .
والحواريون هم تلاميذ المسيح - عليه السلام - قيل : الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به ، وينقطعون للتلقي عنه . وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه .
والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة ، فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضع من السورة .
( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) . . في هذا الموضع الكريم الذي يرفعكم إليه الله . وهل أرفع من مكان يكون فيه العبد نصيرا للرب ? ! إن هذه الصفة تحمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم . . كونوا أنصار الله ، ( كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله ) . . فانتدبوا لهذا الأمر ونالوا هذا التكريم . وعيسى جاء ليبشر بالنبي الجديد والدين الأخير . . فما أجدر أتباع محمد أن ينتدبوا لهذا الأمر الدائم ، كما انتدب الحواريون للأمر الموقوت ! وهذه هي اللمسة الواضحة في عرض هذا الحوار في هذا السياق .
( فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) . .
وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين : إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام هم المسيحيون إطلاقا من استقام ومن دخلت في عقيدته الانحرافات ، وقد أيدهم الله على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا كما حدث في التاريخ . وإما أن الذين آمنوا هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد . ومعنى أنهم أصبحوا ظاهرين أي بالحجة والبرهان . أو أن التوحيد الذي هم عليه هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير ؛ وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض كما وقع في التاريخ . وهذا المعنى الأخير هو الأقرب والأرجح في هذا السياق .
والعبرة المستفادة من هذه الإشارة ومن هذا النداء هي العبرة التي أشرنا إليها ، وهي استنهاض همة المؤمنين بالدين الأخير ، الأمناء على منهج الله في الأرض ، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية . المختارين لهذه المهمة الكبرى . استنهاض همتهم لنصرة الله ونصرة دينه ( كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله ) . . والنصر في النهاية لأنصار الله المؤمنين .
إنها الجولة الأخيرة في السورة ، واللمسة الأخيرة في السياق ؛ وهي ذات لون وذات طعم يناسبان جو السورة وسياقها ، مع ما فيها من تجدد في اللون وتنوع في المذاق . .