ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله : { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } أي إذا ظهر ما فى نفسه من الحسد ، وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ، ومبادى الأضرار بالمحسود قولا وفعلا .
وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الحسد في أحاديث كثيرة منها قوله : " لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا . . " .
ومنها قوله : " إياكم والحسد ، فإنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب " .
هذا ، وقد تكلم العلماء كلاما طويلا عند تفسيرهم لقوله - تعالى - : { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } عن السحر ، فمنهم من ذهب إلى أنه لا حقيقة له ، وإنما هو تخييل وتمويه . .
وجمهورهم على إثباته ، وأن له آثارا حقيقية ، وأن الساحر قد يأتي بأشياء غير عادية ، إلا أن الفاعل الحقيقى في كل ذلك هو الله - تعالى - .
وقد بسطنا القول فى هذه المسألة عند تفسيرنا لقوله - تعالى - فى سورة البقرة : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر . . . } نسأل الله - تعالى - أن يعيذنا من شرار خلقه . .
وقوله : { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ حسده به ، فقال بعضهم : ذلك كلّ حاسد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيد من شرّ عينه ونفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } قال : من شرّ عينه ونفسه .
قال مَعْمر : وسمعت ابن طاوُس يحدّث عن أبيه ، قال : العَينُ حَقّ ، وَلَو كان شَيءٌ سابق القَدرِ ، سَبَقتْه العَينُ ، وإذا اسْتُغْسِل أحدُكم فَلْيَغْتَسل .
وقال آخرون : بل أُمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهده الآية أن يستعيذ من شرّ اليهود الذين حسدوه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } قال : يهود ، لم يمنعم أن يؤمنوا به إلا حسدهم .
وأولى القولين بالصواب في ذلك ، قول من قال : أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ كلّ حاسد إذا حسد ، فعابه أو سحره ، أو بغاه سوءا .
وإنما قلنا : ذلك أولى بالصواب ؛ لأن الله عزّ وجلّ لم يخصص من قوله { وَمِنْ شَرّ حاسِدٍ إذَا حَسَدَ } حاسدا دون حاسد ؛ بل عمّ أمرُه إياه بالاستعاذة من شر كلّ حاسد ، فذلك على عمومه .
وقوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } قال قتادة : من شر عينه ونفسه ، يريد بالنفس السعي الخبيث والإذاية كيف قدر ؛ لأنه عدو مجد ممتحن ، وقال الشاعر :
كل العداوة قد ترجى إماتتها *** إلا عداوة من عاداك من حسد{[12041]}
وعين الحاسد في الغالب لاقفة ، نعوذ بالله عز وجل من شرها ، قال الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود{[12042]}
والحسد في الاثنتين اللتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسد مستحسن غير ضار : ، وإنما هو باعث على خير{[12043]} .
وهذه السورة خمس آيات ، فقال بعض الحذاق : هي مراد الناس بقولهم للحاسد إذا نظر إليهم : الخمس على عينيك ، وقد غلطت العامة في هذا ، فيشيرون بالأصابع لكونها خمسة .
وأمال أبو عمرو [ حاسد ] ، والباقون يفتحون الحاء ، وقال الحسن بن الفضل : ذكر الله تعالى الشرور في هذه السورة ، ثم ختمها بالحسد ليظهر أنه أخس طبع .
عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل ، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرةً وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته ، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاهُ لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل ، لأن الليل وقت الخلوة وخطورِ الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود .
والحسد : إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها . وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازاً .
والغبطة : تمنّي المرء أن يكون له من الخير مثلُ ما لمن يروق حاله في نظره ، وهو محمل الحديث الصحيح : « لا حَسَدَ إلا في اثنتين » أي لا غبطة ، أي لا تحق الغبطة إلا في تينك الخصلتين ، وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين .
فقد يغلب الحسدُ صبرَ الحاسد وأناتَه فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكه رأساً . وقد كان الحسد أولَ أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قُبِل قربانه ولم يقبل قُربان الآخر ، كما قصّه الله تعالى في سورة العقود .
وتقييد الاستعاذة من شره بوقت : { إذا حسد } لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسُود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإِلحاق الضرّ به . والمراد من الحسد في قوله : { إذا حسد } حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته ، فلا إشكال في تقييد الحسد ب { حسد } وذلك كقول عمرو بن معد يكرب :
وبَدَت لميسُ كأنَّها *** بَدْرُ السماءِ إذا تَبَدَّى
ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود ، وبعكسه الكناية عن سيّىء الحال بالحاسد ، وعليه قول أبي الأسود :
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداءٌ له وخصوم
كضرائرِ الحسناء قُلْنَ لوجههـا *** حَسَداً وبُغضاً إنّه لَمشُوم
إن يحْسدوني فإني غيرُ لائمهم *** قَبْلي من الناس أهلُ الفَضْل قد حُسِدوا
فدَام لي ولَهُم مَا بي وما بِهِمُ *** وماتَ أكْثَرُنَا غَيْظاً بِمَا يَجِــــــد
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.