221- وإذا كانت مخالطة اليتامى لا حرج فيها فإن الحرج في مخالطة أهل الشرك ، فلا ينكح المؤمن مشركة لا تدين بكتاب سماوي ، ولا يحمل المرء منكم على زواج المشركة مالها وجمالها وحسبها ونسبها . فالمؤمنة التي وقع عليها الرق خير من المشركة الحرة ذات المال والجمال والحسب والنسب ، ولا يزوج المرء منكم من له عليه ولاية من النساء مشركاً لا يؤمن بالكتب السماوية ، ولا يبعث أحدكم على إيثار المشرك غناه وشرفه ، فخير منه العبد المؤمن ، فأولئك المشركون يجتذبون عشراءهم إلى المعصية والشرك فيستوجبون النار . والله إذ يدعوكم إلى اعتزال المشركين في النكاح يدعوكم إلى ما فيه صلاحكم ورشادكم لتنالوا الجنة والمغفرة ، وتسيروا في طريق الخير بتيسيره ، والله يبين شرائعه وهديه للناس لعلهم يعرفون صلاحهم ورشادهم .
قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } . سبب نزول هذه الآية أن أبا مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وقال مقاتل : هو أبو مرثد الغنوزي ، وقال عطاء : أبو مرثد كناز بن الحصين وكان شجاعا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً ، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق ، وكانت خليلته في الجاهلية ، فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو ؟ فقال لها : ويحك يا عناق ، إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك ، قالت : فهل لك أن تتزوج بي ؟ قال نعم ، ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ، فقالت أبي تتبرم ؟ ثم استغاثت عليه فضربوه ضرباً شديداً ، ثم خلوا سبيله ، فلما قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بالذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال : يا رسول الله أيحل لي أن أتزوجها ؟ فأنزل الله تعالى ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) . وقيل : الآية منسوخة في حق الكتابيات بقوله تعالى ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) وبخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبإجماع الأمة .
روى الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " .
فإن قيل : كيف أطلقتم اسم الشرك على من لا ينكر إلا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبو الحسن بن فارس : لأن من يقول القرآن كلام غير الله فقد أشرك مع الله وغيره ، وقال قتادة و سعيد بن جبير : أراد بالمشركات الوثنيات ، فإن عثمان تزوج نائلة بنت فرافصة ، وكانت نصرانية فأسلمت تحته ، وتزوج طلحة ابن عبيد الله نصرانية ، وتزوج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه : اخل سبيلها . فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تتعافوا المؤمنات منهن .
قوله تعالى : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } . بجمالها ومالها ، نزلت في خنساء وليدة سوداء ، كانت لحذيفة بن اليمان قال حذيفة : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى ، على سوادك ودمامتك فأعتقها وتزوجها ، وقال السدي : نزلت في عبد الله بن رواحة ، كانت له أمة سوداء فغضب عليها ولطمها ثم خرج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال له صلى الله عليه وسلم : " وما هي يا عبد الله ؟ قال : هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وتصوم رمضان ، وتحسن الوضوء وتصلي فقال : " هذه مؤمنة " قال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق نبياً لأعتقنها ولأتزوجنها . ففعل ذلك فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : أتنكح أمة ؟ وعرضوا عليه حرة مشركة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } . هذا إجماع : لا يجوز للمسلمة أن تنكح المشرك .
قوله تعالى : { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ، أولئك } . يعني المشركين .
قوله تعالى : { يدعون إلى النار } . أي إلى الأعمال الموجبة للنار .
قوله تعالى : { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه } . أي بقضائه وقدره وإرادته .
ولقد بدأت الآيات التي معنا حديثها عن الأسرة بالحديث عن الزواج لأنه أعمق الروابط وأقواها ومنه تتأتى الذرية ، لذا جعل أساس الاختيار فيه هو التدين السليم ، والخلق القويم ، الذي يسعد ولا يشقى ، ويبني ولا يهدم ، ويحفظ ولا يضيع . . ولا يتأتى ذلك إلا باختيار المسلمة الصالحة والإِعراض عن المشركة الكافرة .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك فيقول :
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات . . . } .
قوله - تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } النكاح في اللغة الضم وتداخل أجزاء الشيء بعضها في بعض . ثم أطلق على العقد الذي به تكون العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة مشروعة .
والمشرك في لسان الشرع : من يدين بتعدد الآلهة مع الله - تعالى - وأصله من الإِشراك بمعنى أن تجعل الشيء بينك وبين غيرك شركة ، فمن يعبد مع الله - تعالى - إلها آخر يعد مشركاً ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
ويرى كثير من العلماء أن إطلاق كلمة : مشرك ، ومشركين ، ومشركات في القرآن الكريم تعني عبدة الأوثان ، وأنها صارت في استعمال القرآن حقيقة عرفية فيهم ، ولم يطلقها القرآن على اليهود والنصارى وإنما عبر عنهم بهذا الاسم أو بأهل الكتاب ، أو بوصف الفكر دون الشرك كما في قوله - تعالى - : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ } وعليه فالمراد بالمشركات والمشركين في الآية عبدة الأوثان .
وذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يشمل بمقتضى عمومه المرأة الوثنية ، واليهودية ، والنصرانية .
وقد ترتب على هذا الخلاف في إطلاق كلمة " مشرك " أن أصحاب الرأي الأول قالوا : إن النهي في الآية إنما هو عن زواج المشركات اللائي يعبدون الأوثان ولا كتاب لهن ، وأنه يجوز - مع الكراهية - أن يتزوج المسلم الكتابية ، لأن القرآن يقول : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } الآية . ولأنه قد جاءت الروايات بأن بعض الصحابة قد تزوج بكتابيات . فعثمان بن عفان تزوج نصرانية ثم أسلمت ، وطلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان تزوجا يهوديتين .
أمامن قال بالرأي الثاني فيرى حرمة الزواج بالوثنية واليهودية والنصرانية لأن لفظ المشركات يشملهن جميعا . وأصحاب هذا الرأي - كما يقول الآلوسي - يجعلون آية المائدة وهي قوله - تعالى - { والمحصنات مِنَ المؤمنات } منسوخة بالآية التي معنا نسخ الخاص بالعام . . وإلى هذا الرأي ذهب الإِمامية وبعض الزيدية .
وروى عن عمر وعبد الله ابنه - رضي الله عنهما - أنهما حرما ذلك وفي رواية أنها كرهاه وهي الأصح .
قال القرطبي : وروى عن عمر أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب . فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ولكن أفرق بينمكا صغرة قمأة . قال ابن عطية وهذا لا يستند جيداً ، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة : أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .
ثم قال القرطبي : وكان ابن عمر إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية .
قال حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئاً من الإِشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله . قال النحاس : وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة ، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة منهخم عثمان وطلحة وابن عباس . . ومن التباعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد . . وفقهاء الأمصار عليه ، وأيضاً فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخة للآية التي في سورة المائدة ، لأن البقرة من أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل ، وإنما الآخر ينسخ الأول - أو يخصصه - وأما قول ابن عمر فلا حجة فيه ، لأن ابن عمر - رضي الله عنه - كان متوقفا ، فلما سمع الآيتين في واحدة التحليل وفي أخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف ، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه ، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل .
والذي نراه أن زواج المسلم بالكتابية جائز لأن القرآن صريح في ذلك ، ولأن عمر - رضي الله عنه - أقر بأنه ليس بحرام ، فتكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة على فرض عمومها ، ومبينة لحكم جديد خاص بالكتابيات ، وهو الجواز ولكن هذا الجواز لا ينمع كراهته ، لأن الزواج بالكتابية كثيراً ما يؤثر في إضعاف العاطفة الدينية عند المسلم ، وعد الأطفال الذين يكونون ثمرة لهذا الزواج ، لأنهم يخرجون إلى الحياة وقد رضعوا الميل إلى دين أمهم ، ولأن المرأة الكتابية التي تقبيل الزواج بالمسلم كثيراً ما تكون منحرفة في سلوكها وأن الدافع لها إلى هذا الزواج إنما هو المال أو الجمال أو الجاه وليس الدين أو الخلق ، لأنه لو كان الدافع ذلك لرضيت بالإِسلام دينا ، وبآدابه خلقاً لها ، وما أحكم قول عمر لحذيفة : " لا أعزم أنها حرام ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن " .
هذه خلاصة لاراء العلماء في هذه المسألة ومن أراد المزيد فليرجع إلى أقوالهم في مظانها .
والمعنى : أنها كم أيها المؤمنون أن تتزوجوا بالنساء المشركات حتى يؤمن بالله - تعالى - ويذعن لتعاليم الإِسلام وآدابه .
وقوله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } تعليل للنهى ، وبيان لفضل المؤمنات على المشركات ، ولفضل طهارة النفس على جمال الجسم ، والمراد بالامة هنا الأنثى المملوكة من الرقيق ، وبالمشركة الحرة الجميلة بقرينة المقابلة .
أي : ولأنثى رقيقة مؤمنة مع ما بها من الرق وقلة الجاه والجمال خير في التزوج بها من ارمأة حرة مشركة ولو أعجبتكم بجمالها ونسبها وغير ذلك من منافع دنيوية ، لأن ما يتعلق بالمنافع الدينية يجب أن يقدم على المنافع الدينوية ، ولأن الزواج ارتباط روحي بين قلبين ، ومن العسير أن يتم هذا الترابط بين قلب يخلص لله في عبادته ، وقلب لا يدين بذلك .
وصدرت الجملة بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه أن يجعلوا الدين أساس رغبتهم في الزواج ، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين ترتب يداك " .
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، ولكن تزوجوهن على الدين ، ولأمة سوداء ذات دين أفضل " .
والأحاديث النبوية في هذا المعنى كثيرة .
ثم قال - تعالى - : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } أي : لا تزوجوا أيها المؤمنون النساء المؤمنات للرجال المشركني حتى يتركوا عليه من شرك ويدخلوا في دين الإِسلام ، فإذا فعلوا ذلك حل لكم أن تزوجوهم النساء المسلمات ، لأنهم بدخولهم في الإِسلام قد أصبحوا إخوانا لكم .
والنهي هنا يتناول المشرك الذي يعبد الأوثان ويتناول غيره ممن لا يدين بالإِسلام كأهل الكتاب ، لأن القرآن قد جعل الإِيمن غاية للنهي ، فإذا لم يكن هناك إيمان من الرجل لم يكن له أن يتزوج من المرأة المؤمنة ، لأن الله - تعالى - يقول في آية أخرى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } فهذه الآية صريحة في أن زواج المسلمة بالكافر لا يجوز ، وكلمة كافر تشمل أهل الكتاب بدليل قوله - تعالى - : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } وقوله تعالى { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } قال الفخر الرازي : لا خلاف ها هنا في أن المراد به - أي بلفظ المشركين - الكل ، وأن المؤمنة لا يحل تزوجيها من الكافر ألبته على اختلاف أنواع الكفرة .
وقوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } بيان لفضل الإِيمان على الشرك ، كما في قوله - تعالى - { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } إذ نسبة المؤمن أو المؤمنة إلى هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده أفضل وأجل من الانتساب إلى أي شيء آخر .
ثم بين - سبحانه - علة النهي عن الزواج بالمشركين والمشركات فقال - تعالى - : { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ } .
أي : أولئك المذكورون من المشركين والمشركات يدعون من يقارنهم ويعاشرهم إلى الأقوال والأفعال والعقائد التي تفضي بصاحبها إلى دخول النار في الآخرة والله - تعالى - يدعو عباده على ألسنة رسهل إلى الأقوال والأعمال والعقائد التي توصل إلى جنته ومغفرته .
فالمراد بالدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها وإلى ما يوصل إليها ، وكان الاقتران بهؤلاء المشركين والمشركات سببا في الوصول إليها ، لأن الزواج من شأنه الألفة والمودة والمحبة وشدة الاتصال ، وكل ذلك يجعل المسلم أو المسلمة يتقبلان ما عليه المشرك والمشركة من فسوق وعصيان لله - تعالى - بل ربما بمرور الأيام لا يكتفيان بالتقبل بل يستحسنان فعلهما ، وبذلك تنحل عرا الإِسلام من نفس المسلم والمسلمة عروة فعروة ، حتى لا يبقى منه سوى الاسم ، كما نشاهد ذكل في كثير من المسلمين الذين تزوجوا بغير مسلمات .
والمقصود من قوله - تعالى - : { والله يدعوا إِلَى الجنة } إغراء المؤمنين بالتمسك بتعاليم دينهم ، وتنفيرهم من الاقتران بغير من يكون على شاكلتهم في الدين ، لأن من يخالفهم في عقيدتهم طريقة يغاير طريقهم ، وهدفه يخالف هدفهم ، وعاقبته تباين عاقبتهم .
والدعاء إلى الجنة والمغفرة المراد به الدعاء إلى أسبابهما كما في الجملة السابقة المقابلة وقيد - سبحانه - الدعاء إلى الجنة والمغفرة بقوله { بِإِذْنِهِ } أي بأمره وإرادته وعلمه ، لأنه - سبحانه - هو المالك لكل شيء ، ولا يقع في ملكه إلا ما يريده ويقدره .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وقد يقول قائل : هذه الدعوة إلى النار قد تكون أيضاً في زواج المسلم بالكتابية ، كما هي زواج المسلم بالمشركة ، وكان مقتضى هذا أن يحرم زواج المسلم بغير المسلمة مطلقاً ، كما حرم زواج المسلمة بغير المسلم مطلقاً ، وإن لذلك الكلام موضعه ، ولذلك أجمع الفقهاء على كراهة زواج المسلم بالكتابية ، بل زعم بعض العلماء أن زواج المسلم من الكتابية محرم كزواجه من المشركة .
ولكن الجمهور لا يقطعون بالتحريم أمام النص القاطع بالحل ، ولا يعملون العلة ليهمل النص ، بل يرون علة التحريم لا تتوافر في الكتابية توافرها في المشركة ، فإن المشركة لا ترتبط بأي قانون خلقي يعصمها من الزلل . . أما الكتابية فإن مجموع الفضائل الإِنسانية . . لا تزال باقية في تعاليم دينها فيمكن الاحتكام إليها .
والقرآن في جدله مع أهل الكتاب كان يلاحظ إمكان التفاهم معهم على قواعد يمكن حملهم على الإِقرار بها كما في قوله - تعالى - : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } الآية .
وأمرنا أن نجادلهم بالتي هي أحسن فقال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } الآية .
فكان من اطراد تلك المعاملة الحسنة المقربة غير المبعدة ، أن أباح الإِسلام الزواج من الكتابيات .
بيد أنه يلاحظ في إباحة الزواج من الكتابيات أمران :
أولهما : أن النص القرآني المبيح خاص بالمحصنات منهن ، إذ قال - سبحانه { الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } والمحصنات - في أظهر التفسير - هن العفيفات ، فأولئك الذين يعمدون إلى المنحرفات منهم في أخلاقهن وعقولهن ولا يتخيرون ، خارجون عن موضع الإِباحة فيما أحسب ، لأن الله أحل المحصنات وهم استحلوا المنحرفات .
ثانيهما : أن ولي الأمر إذا رأى خطرا على الدولة الإِسلامية أو على المجتمع الإِسلامي له ن يمنع الناس من ذلك الزواج بوضع عقوبات لمن يقدم عليه سدا للذريعة ومنعا للشر ، وذلك من باب السياسة الشرعية ، لا من باب تحريم ما أحل الله ، لأن الحل قائم على أصله ، والمنع وارد على الضرر الذي يحلق المسلمين ، إذ في ذلك من الاعتداء على جماعتهم ما فيه ، كما أن أصل الأكل حلال ، ولكن اغتصاب أموال الناس لنأكلها حرام ، ولذلك سارت الدولة على منع بعض رجالها من الزواج بالأجنبيات .
وقوله - تعالى - في ختام الآية : { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } معطوف على يدعو إلى الجنة . أي أنه - سبحانه - يدعو الناس إلى ما يوصلهم إلى جنته ومغفرته ويبين لهم آياته وأوامره ونواهيه في شئون الزواج وفي غير ذلك من الأحكام لكي يتعظوا ويعتبروا ويتذكروا ما أمرهم الله به فيعملوه ، وما نهاهم عنه فيتركوه .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد رسمت للناس أقوم السبل ، لكي يعيشوا في ظل أسرة فاضلة ، تظلها السعادة ، ويسودها الأمان والاطمئنان ويتعاون أفرادها على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان .
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتّىَ يُؤْمِنّ وَلأمَةٌ مّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتّىَ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلََئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيّنُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ }
اختلف أهل التأويل في هذه الآية : هل نزلت مرادا بها كل مشركة ، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض ؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : نزلت مرادا بها تحريم نكاح كل مشركة على كل مسلم من أنّ أجناس الشرك كانت عابدة وثن أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك ، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله : يَسألُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ إلى : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالمُحْصَناتُ مِنَ الُمؤْمِنات والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ . ذكر من قال ذلك :
3حدثني عليّ بن واقد ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال : وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حل لكم إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ .
3حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ فنسخ من ذلك نساء أهل الكتاب أحلهن للمسلمين .
3حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : نساء أهل مكة ومن سواهن من المشركين ، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ إلى قوله : لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ قال : حرّم الله المشركات في هذه الآية ، ثم أنزل في سورة المائدة ، فاستثنى نساء أهل الكتاب ، فقال : وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُوُرَهُنّ .
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب لم ينسخ منها شيء ولم يستثن ، إنما هي آية عام ظاهرها خاص تأويلها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهنّ كتاب يقرأنه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : المشركات من ليس من أهل الكتاب وقد تزوّج حذيفة يهودية أو نصرانية .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : مشركات أهل الأوثان .
وقال آخرون : بل أنزلت هذه الآية مرادا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت غير مخصوص منها مشركة دون مشركة ، وثنية كانت أو مجوسية أو كتابية ، ولا نسخ منها شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري ، قال : حدثنا شهر بن حوشب ، قال : سمعت عبد الله بن عباس ، يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات ، وحرّم كل ذات دين غير الإسلام ، وقال الله تعالى ذكره : وَمَنْ يَكْفُرْ باْلإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ . وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية ، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبا شديدا حتى همّ بأن يسطو عليهما ، فقالا : نحن نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب ، فقال : لئن حلّ طلاقهن ، لقد حلّ نكاحهنّ ، ولكن انتزعهنّ منكم صَغَرةً قِمَاءً .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات ، وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها لم ينسخ منها شيء ، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها . وذلك أن الله تعالى ذكره أحل بقوله : وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ للمؤمنين من نكاح محصناتهن ، مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات .
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا ، وفي كتابنا «كتاب اللطيف من البيان » أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيا حكم الاَخر في فطرة العقل ، فغير جائز أن يقضى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الاَخر إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مجيئه ، وذلك غير موجود أن قوله : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أوّتُوا الكِتابَ ناسخ ما كان قد وجب تحريمه من النساء بقوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ . فإن لم يكن ذلك موجودا كذلك ، فقول القائل : «هذه ناسخة هذه » دعوى لا برهان له عليها ، والمدعِي دعوى لا برهان له عليها متحكم ، والتحكم لا يعجز عنه أحد .
وأما القول الذي رُوي عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، عن عمر رضي الله عنه من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين ، فقول لا معنى له لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره ، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك بإسناد هو أصحّ منه ، وهو ما :
حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن زيد بن وهب ، قال : قال عمر : المسلم يتزوّج النصرانية ، ولا يتزوّج النصراني المسلمة .
وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاح اليهودية والنصرانية ، حذرا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك فيزهدوا في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، فأمرهما بتخليتهما . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا الصلت بن بهرام ، عن شقيق ، قال : تزوّج حذيفة يهودية ، فكتب إليه عمر : خَلّ سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكن أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن .
3وقد حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن أشعث بن سوار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نَتَزَوّجُ نِساءَ أهْلِ الْكِتابِ وَلا يَتَزَوّجُونَ نِسَاءنَا » .
فهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فالقول به لإجماع الجميع على صحة القول به أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب . فمعنى الكلام إذا : ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركات غير أهل الكتاب حتى يؤمنّ ، فيصدّقن بالله ورسوله ، وما أنزل عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ .
يعني تعالى ذكره بقوله : ولأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ بالله وبرسوله ، وبما جاء به من عند الله خير عند الله ، وأفضل من حرّة مشركة كافرة وإن شرف نسبها وكرم أصلها . يقول : ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله ، فإن الإماء المسلمات عند الله خير منكحا منهن .
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة ، فعذل في ذلك وعرضت عليه حرّة مشركة . ذكر من قال ذلك :
3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، وكانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ثم فزع ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما هيَ يا عَبْدَ اللّهِ ؟ » قال : يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . فقال : «هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ » فقال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، فقالوا : تزوّج أمة . وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم . فأنزل الله فيهم : وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وعبد مؤمن خير من مشرك .
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ قال : المشركات لشرفهن حتى يؤمن .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ .
يعني تعالى ذكره بذلك : وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال فلا تنكحوها ، فإن الأمة المؤمنة خير عند الله منها وإنما وضعت «لو » موضع «إن » لتقارب مخرجيهما ومعنييهما ، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صاحبتها على ما قد بينا فيما مضى قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حّتى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ .
يعني تعالى ذكره بذلك : أن الله قد حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركا ، كائنا من كان المشرك من أيّ أصناف الشرك كان . فلا تُنكحوهن أيها المؤمنون منهم فإن ذلك حرام عليكم ، ولأن تزوّجوهن من عبد مؤمن مصدّق بالله وبرسوله ، وبما جاء به من عند الله ، خير لكم من أن تزوّجوهن من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله ، وإن أعجبكم حسبه ونسبه .
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول : هذا القول من الله تعالى ذكره ، دلالة على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة .
حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي ، قال : أخبرنا حفص بن غياث عن شيخ لم يسمه ، قال أبو جعفر : النكاح بوليّ في كتاب الله . ثم قرأ : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حّتى يُؤْمِنُوا برفع التاء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والزهري في قوله : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ قال : لا يحلّ لك أن تُنكح يهوديا أو نصرانيا ، ولا مشركا من غير أهل دينك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ لشرفهم حَتّى يُؤْمِنُوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري : وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا قال : حرّم المسلمات على رجالهم يعني رجال المشركين .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلى النّار وَاللّهُ يَدْعُو إلَى الجَنةِ وَالمَغْفِرَةِ بإذْنِهِ ويُبَيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم يدعونكم إلى النار ، يعني يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار ، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله . يقول : ولا تقبلوا منهم ما يقولون ، ولا تستنصحوهم ، ولا تنكحوهم ، ولا تنكحوا إليهم ، فإنهم لا يألونكم خبالاً ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به ، فاعملوا به ، وانتهوا عما نهاكم عنه ، فإنه يدعوكم إلى الجنة . يعني بذلك : يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار ، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم فيعفو عنها ، ويسترها عليكم .
وأما قوله : بإذْنِهِ فإنه يعني أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيله وطريقه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة ثم قال تعالى ذكره : ويُبَيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ يقول : ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده ليتذكروا فيعتبروا ، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دعاء إلى النار والخلود فيها والاَخر دعاء إلى الجنة وغفران الذنوب ، فيختاروا خيرهما لهم . ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ الرأي ، مدخول العقل .
{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } أي ولا تتزوجوهن . وقرئ بالضم أي ولا تزوجوهن من المسلمين ، والمشركات تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى : { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } إلى قوله : { سبحانه عما يشركون } ولكنها خصت عنها بقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } روي ( أنه عليه الصلاة والسلام بعث مرثدا الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناسا من المسلمين ، فأتته عناق وكان يهواها في الجاهلية فقالت : ألا تخلو . فقال : إن الإسلام حال بيننا فقالت : هل لك أن تتزوج بي فقال نعم ولكن استأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره ) فنزلت { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } أي ولامرأة مؤمنة حرة كانت أو مملوكة ، فإن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه . { ولو أعجبتكم } بحسنها وشمائلها ، والواو للحال ولو بمعنى إن وهو كثير . { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } ولا تزوجوا منهم المؤمنات حتى يؤمنوا ، وهو على عمومه . { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } تعليل للنهي عن مواصلتهم ، وترغيب في مواصلة المؤمنين . { أولئك } إشارة إلى المذكورين من المشركين والمشركات . { يدعون إلى النار } أي الكفر المؤدي إلى النار فلا يليق موالاتهم ومصاهرتهم . { والله } أي وأولياؤه ، يعني المؤمنين حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم . { يدعو إلى الجنة والمغفرة } أي إلى الاعتقاد والعمل الموصلين إليهما فهم الأحقاء بالمواصلة . { بإذنه } أي بتوفيق الله تعالى وتيسيره ، أو بقضائه وإرادته . { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون } لكي يتذكروا ، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر لما ركز في العقول من ميل الخير ومخالفة الهوى .
كان المسلمون أيام نزول هذه السورة ما زالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات فبين الله الحكم في هذه الأحوال ، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى ، فإن للمسلمين يومئذٍ أقاربَ وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقَدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى ، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين ، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة .
روى الواحدي وغيره من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا مَرْثَد الغَنَوي ويقال مَرْثدا بن أبي مَرْثد واسمه كنَّاز بن حُصَين وكان حليفاً لبني هاشم فبعثه إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من المسلمين فسمعت بقدومه امرأة يقال لها عَنَاق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتتْه فقالت : ويحك يا مَرثد ألا تخلو ؟ فقال : إن الإسلام حَرَّم ما كان في الجاهلية فقالت : فتزوجني قال : حتى أستأذن رسول الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها ، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه .
والنكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة ، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلاناً فهو حقيقة في العقد ، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية ، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد . واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة ، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف . قالوا ولم يرد في القرآن إلاّ بمعنى العقد فقيل إلاّ في قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] ، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوبُ أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لا بد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر ، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق .
والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه ، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهلُ الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأةَ المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجلَ المشركَ فهي صريحة في ذلك ، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجلَ الكتابي فالآية ساكتة عنه ، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلاّ إذا جَرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى : { خير من مشرك } ، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري ، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استناداً منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر . وذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن ، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي « الموطأ » عنه « لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى » ولكن هذا مسلك ضعيف جداً ، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي ، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش ، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود ، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع ( فنحاص ) كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] ، وقد علم الله قولهم المسيح ابن الله وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولاً لعموم آية البقرة ، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية .
ومن علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية أن خل سبيلها ، فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام ؟ فقال عمر : لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن .
وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية ، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة ، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها ، فقالا له نُطلِّق يا أمير المؤمنين ولا تَغْضَبْ فقال : لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما ، ولكنْ أفرق بينكما صُغْرَةً وقَماءَةً ، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيداً والأثر الآخر عن عمر أسندُ منه ، وقال الطبري هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة وقد روي عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذراً من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات .
و { حتى يؤمن } غاية للنهي فإذا آمنَّ زال النهي ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلاّ إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير .
وقوله : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله : { ولو أعجبكم } وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة ، فالأمة هنا هي المملوكة ، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله : { ولأمة مؤمنة } فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر ، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيراً من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق ، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله : { ولو أعجبكم } فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء .
والمقصود من التفضيل في قوله : { خير } التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين ؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناساً للمسلمين .
ووقع في « الكشاف » حمل الأمة على مطلق المرأة ، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما المعنى فلأنه يصير تكراراً مع قوله : { ولا تنكحوا المشركات } إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة ، ويُفيت المقصود من التنبيه على شرفِ أقلِّ أَفرادِ أحد الصنفين على أشرَف أفراد الصنف الآخر ، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة ، ولا إطلاق العبد على الرجل إلاّ مقيَّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبدَ الله ويا أمةَ الله ، وكونُ الناس إماءَ الله وعبيدَه إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال ، فكيف يخرَّج القرآن عليه .
وضمير { ولو أعجبتكم } يعود إلى المشركة ، و ( لو ) وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة ، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع لو الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى : { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [ البقرة : 170 ] .
وقوله : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } تحريم لتزويج المسلمة من المشرك ، فإن كان المشرك محمولاً على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماعَ وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم ، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } [ الممتحنة : 10 ] فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذٍ المشركين ، وكقوله تعالى هنا : { أولئك يدعون إلى النار } كما سنبينه .
وقوله : { حتى يؤمنوا } غاية للنهي ، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة .
وقوله : { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم } هو كقوله : { ولأمة مؤمنة خير من مشركة } وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك .
وقوله : { أولئك يدعون إلى النار } الإشارة إلى المشركات والمشركين ، إذ لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع ، والواو في { يدعون } واو جماعة الرجال ووزنه يفعون ، وغُلِّب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية ، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم ، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس ، فإن بين الزوجين مودة وإلفاً يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل ، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيداً جداً لا يجمعهم شيء يتفقون عليه ، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين . أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى ، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتداداً بقوة تأثير الرجل على امرأته ، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالباً إياها إلى الإسلام ، لأنها أضعف منه جانباً وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه ، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة .
وقوله : { والله يدعوا إلى الجنة } الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى ، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله ، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله : { يدعون إلى النار } .
والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك .
وقوله : { بإذنه } الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفاً مستقراً حالاً من ( الجنة ) والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما . ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأوَّل قوله : { والله يدعوا } بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون .
وجملة { ويبين } معطوفة على { يدعو } يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } [ البقرة : 219 ] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته . ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تنكحوا المشركات}: نزلت في أبي مرثد الغنوي، واسمه أيمن، وفي عناق القرشية؛ وذلك أن أبا مرثد كان رجلا صالحا، وكان المشركون أسروا أناسا بمكة، وكان أبو مرثد ينطلق إلى مكة مستخفيا، فإذا كان الليل أخذ الطريق، وإذا كان النهار تعسف الجبال، لئلا يراه أحد، حتى يقدم مكة، فيرصد المسلمين ليلا، فإذا أخرجهم المشركون للبراز، تركوهم عند البراز والغائط، فينطلق أبو مرثد، فيجعل الرجل منهم على عنقه حتى إذا أخرجه من مكة كسر قيده بفهر ويلحقه بالمدينة، كان ذلك دأبه، فانطلق يوما حتى انتهى إلى مكة، فلقيته عناق، وكان يصيب منها في الجاهلية، فقالت: أبا مرثد، ما لك فيَّ حاجة، فقال: إن الله عز وجل قد حرم الزنا. فلما أيست منه أنذرت به كفار مكة، فخرجوا يطلبونه، فاستتر منهم بالشجر، فلم يقدروا عليه، فلما رجعوا احتمل بعض المسلمين حتى أخرجه من مكة، فكسر قيده، ورجع إلى المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالخبر، فقال: والذي بعثك بالحق، لو شئت أن آخذهم وأنا مستتر بالشجرة لفعلت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اشكر ربك أبا مرثد، إن الله عز وجل حجزهم عنك، فقال أبو مرثد: يا رسول الله، إن عناق أحبها، وكان بيني وبينها في الجاهلية، أفتأذن لي في تزويجها، فإنها لتعجبني؛ فأنزل الله عز وجل: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}: يصدقن بتوحيد الله، {ولأمة مؤمنة}: مصدقة بتوحيد الله، {خير من مشركة ولو أعجبتكم}، لقوله: إنها لتعجبني.
{ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نزلت مرادا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: نزلت مرادا بها تحريم نكاح كل مشركة على كل مسلم من أيِّ أجناس الشرك كانت عابدة وثن أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله:"يَسألُونَكَ ماذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ" إلى: "وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالمُحْصَناتُ مِنَ الُمؤْمِنات والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ". وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادا بحكمها مشركات العرب لم ينسخ منها شيء ولم يستثن، إنما هي آية عام ظاهرها خاص تأويلها... المشركات من ليس من أهل الكتاب وقد تزوّج حذيفة يهودية أو نصرانية.
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت غير مخصوص منها مشركة دون مشركة، وثنية كانت أو مجوسية أو كتابية، ولا نسخ منها شيء. وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية أن الله تعالى ذكره عنى بقوله: "وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ "من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات، وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها لم ينسخ منها شيء، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أن الله تعالى ذكره أحل بقوله: "وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ" للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وفي كتابنا «كتاب اللطيف من البيان» أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيا حكم الاَخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الاَخر إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مجيئه، وذلك غير موجود أن قوله: "والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أوّتُوا الكِتابَ" ناسخ ما كان قد وجب تحريمه من النساء بقوله: "وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ". فإن لم يكن ذلك موجودا كذلك، فقول القائل: «هذه ناسخة هذه» دعوى لا برهان له عليها، والمدعِي دعوى لا برهان له عليها متحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحد.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق، قال: تزوّج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: خَلّ سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن.
"وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ": ولأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند الله خير عند الله، وأفضل من حرّة مشركة كافرة وإن شرف نسبها وكرم أصلها. يقول: ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله، فإن الإماء المسلمات عند الله خير منكحا منهن.
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة، فعذل في ذلك وعرضت عليه حرّة مشركة... عن السدي: "وَلا تَنْكِحُوا المُشْركاتِ حّتى يُؤْمِنّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ" قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها ثم فزع، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما هيَ يا عَبْدَ اللّهِ؟» قال: يا رسول الله هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقال: «هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ» فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا: تزوّج أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم. فأنزل الله فيهم: "وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْركَةٍ" وعبد مؤمن خير من مشرك.
"وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ": وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال فلا تنكحوها، فإن الأمة المؤمنة خير عند الله منها وإنما وضعت.
"وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حّتى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ": أن الله قد حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركا، كائنا من كان المشرك من أيّ أصناف الشرك كان. فلا تُنكحوهن أيها المؤمنون منهم فإن ذلك حرام عليكم، ولأن تزوّجوهن من عبد مؤمن مصدّق بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند الله، خير لكم من أن تزوّجوهن من حرّ مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول: هذا القول من الله تعالى ذكره، دلالة على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي، قال: أخبرنا حفص بن غياث عن شيخ لم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بوليّ في كتاب الله. ثم قرأ: وَلا تُنْكِحُوا المُشْرِكِينَ حّتى يُؤْمِنُوا برفع التاء.
عن قتادة والزهري: لا يحلّ لك أن تُنكح يهوديا أو نصرانيا، ولا مشركا من غير أهل دينك.
"أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلى النّار وَاللّهُ يَدْعُو إلَى الجَنةِ وَالمَغْفِرَةِ بإذْنِهِ ويُبَيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ": أُولَئِكَ هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم يدعونكم إلى النار، يعني يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم، ولا تنكحوا إليهم، فإنهم لا يألونكم خبالاً ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به، فاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلى الجنة. يعني بذلك: يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم فيعفو عنها، ويسترها عليكم.
"بإذْنِهِ": فإنه يعني أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيله وطريقه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة. "ويُبَيّنُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ": ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده ليتذكروا فيعتبروا، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دعاء إلى النار والخلود فيها والاَخر دعاء إلى الجنة وغفران الذنوب، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ الرأي، مدخول العقل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
صلة حبل الدين والتمسك بعصمة المسلمين أتم من الرضا بأن تنتهي إلى أحدٍ يسلك إلى الكفر، ولئن كانت رخصة الشريعة حاصلة في فعله فإشارة الحقيقة مانعة من حيث التبرئة عن اختياره، هذا في الكتابيات اللاتي يجوز مواصلتهن، فأما أهل الشِرْك فحرامٌ مواصلتهم قطعاً، وأوجهُ مباينتهم في هذا الباب حُكْمٌ جَزْمٌ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ}: ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة. وكذلك {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} لأنّ الناس كلهم عبيد الله وإماؤه. {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها، فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك.
{أولئك} إشارة إلى المشركات والمشركين، أي يدعون إلى الكفر، فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال
{والله يَدْعُو إلى الجنة}: يعني وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة
{والمغفرة}: وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم، وأن يؤثروا على غيرهم.
{بِإِذْنِهِ َ} بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولعبد مؤمن} مملوك {خير من مشرك} حسيب ولو أعجبك حسنه وماله، وليس التفضيل هنا بلفظة {خير} من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان، لكن الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء، وهذا النظر هو على مذهب سيبويه في أن لفظة "أفعل "التي هي للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك.
قال القاضي أبو محمد: وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وكما نعتقد أن الكل عبيد الله، وكما قال تعالى: {نعم العبد إنه أواب} [ص: 30]، فكأن الكلام في هذه الآية: (ولامرأة ولرجل).
وقوله تعالى: {أولئك} الإشارة إلى المشركات والمشركين، أي أنَّ صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل، فهذا كله دعاء إلى النار مع السلامة مع أن يدعوا إلى دينه نصاً من لفظه، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة. والإذن: العلم والتمكين، فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن، لأنك إذا قلت» أذنت كذا «فليس يلزمك أنك أمرت، و {لعلهم} ترجٍّ في حق البشر، ومن تذكر عَمِلَ حسب التذكر فنجا.
اعلم أن المفسرين اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلق بما تقدم، فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم، وقال أبو مسلم: بل هو متعلق بقصة اليتامى، فإنه تعالى لما قال: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى، وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات، وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها، ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم، وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف،
[و] النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء، يقال: نكح المطر الأرض إذا وصل إليها، ونكح النعاس عينه، ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد، فوجب حمله عليه، ومن الناس من قال: النكاح عبارة عن الضم، ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء، فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعا، قال ابن جني: سألت أبا علي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرقت العرب في الاستعمال فرقا لطيفا حتى لا يحصل الالتباس، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة: أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته، لم يريدوا غير المجامعة، لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة...
قال أبو مسلم: اللام في قوله: {ولأمة} في إفادة التوكيد تشبه لام القسم.
[و] الخير هو النفع الحسن: والمعنى: أن المشركة لو كانت ثابتة في المال والجمال والنسب، فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة، فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة،
وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة، واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين أحدهما: أن اللفظ مطلق والثاني: أن قوله: {ولو أعجبتكم} يدل على صفة الحرية، لأن التقدير: ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها، فكل ذلك داخل تحت قوله: {ولو أعجبتكم}.
[و] في الآية إشكال وهو أن قوله: {ولا تنكحوا المشركات} يقتضي حرمة نكاح المشركة، ثم قوله: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة} يقتضي جواز التزوج بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في الصفة ولأحدهما مزية. قلنا: نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا، ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة، والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعا، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فاندفع السؤال والله أعلم.
أما قوله تعالى: {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} ففيه قولان:
القول الأول: أن المعنى وأولياء الله يدعون إلى الجنة، فكأنه قيل: أعداء الله يدعون إلى النار وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة فلا جرم يجب على العاقل أن لا يدور حول المشركات اللواتي هن أعداء الله تعالى، وأن ينكح المؤمنات فإنهن يدعون إلى الجنة والمغفرة.
والثاني: أنه سبحانه لما بين هذه الأحكام وأباح بعضها وحرم بعضها، قال: {والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة} لأن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة. حتى إن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط، ورجح ذلك كما تقدم ذكره، وكان من اليتامى من يكون من أولاد الكفار، نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين، وأشار إلى العلة المسوّغة للنكاح، وهي: الأخوة الدينية، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوة، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك.
ومناسبة أخرى: أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر، والأكل في الميسر، وذكر حكم المنكح، فكما حرم الخمر من المشروبات، وما يجر إليه الميسر من المأكولات، حرّم المشركات من المنكوحات. والواو في: ولو، للعطف على حال محذوفة، التقدير: خير من مشركة على كل حال، ولو في هذه الحال، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال، وأن ما بعد لو هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه مّا، فالإعجاب منافٍ لحكم الخيرية، ومقتضٍ جواز النكاح لرغبة الناكح فيها، وأسند الإعجاب إلى ذات المشركة، ولم يبين ما للمعجب منها، فالمراد مطلق الإعجاب، إما لجمال، أو شرف، أو مال أو غير ذلك مما يقع به الإعجاب.
{والله يدعو إلى الجنة والمغفرة} هذا مما يؤكد منع مناكحة الكفار، إذ ذكر قسيمان: أحدهما يجب اتباعه، وآخر يجب اجتنابه، فتباين القسيمان، ولا يمكن إجابة دعاء الله واتباع ما أمر به إلاَّ باجتناب دعاء الكفار وتركهم رأساً، ودعاء الله إلى اتباع دينه الذي هو سبب في دخول الجنة، فعبر بالمسبب عن السبب لترتبه عليه. وقرأ الجمهور: والمغفرة، بالخفض عطفاً على الجنة، والمعنى أنه تعالى يدعو إلى المغفرة، أي: إلى سبب المغفرة، وهي التوبة والتزام الطاعات، وتقدم هنا الجنة على المغفرة، وتأخر عنها في قوله: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة} وفي قوله: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة} والأصل فيه تقدم المغفرة على الجنة، لأن دخول الجنة متسبب عن حصول المغفرة، ففي تلك الآيتين جاء على هذا الأصل، وأما هنا، فتقدم ذكر الجنة على المغفرة لتحسن المقابلة، فإن قبله {أولئك يدعون إلى النار} فجاء {والله يدعو إلى الجنة} وليبدأ بما تتشوف إليه النفس حين ذكر دعاء الله، فأتى بالأشرف للأشرف، ثم أتبع بالمغفرة على سبيل التتمة في الإحسان، وتهيئة سبب دخول الجنة.
{ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}: يظهرها ويكشفها بحيث لا يحصل فيها التباس، أي أن هذا التبيين ليس مختصاً بناس دون ناس، بل يظهر آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ، لأن الآية متى كانت جلية واضحة، كانت بصدد أن يحصل بها التذكر، فيحصل الامتثال لما دلت عليه تلك الآيات من موافقة الأمر، ومخالفة النهي.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب: حقيقة التذكر: الاستدراك عن نسيان أو غفلة لما اشتبه القلب. قال: إن قيل: إلى أيّ شيء أشار بهذا التذكر؟ قيل: إن الله عز وجل ركّب فينا بالفطرة معرفته ومعرفة آلائه. والإنسان باستفادة العلم يتذكر ما ذكر فيه، فهذا معنى التذكر. ثم قال: وقد قيل: الرجاء من الله واجب. بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجانا. قال: وهذه مسألة لا يمكن تصورها إن لم نبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطها الله تعالى. فلذلك صعب إدراكها لنا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجملة القول: إن هؤلاء الذين أشركوا وهم الذين بينكم وبينهم غاية الخلاف والتباين في الاعتقاد لا يجوز لكم أن تتصلوا بهم برابطة الصهر لا بتزويجهم ولا بالتزوج منهم، وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا، وسكت هناك عن تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا ورضيه الأستاذ الإمام أنه على أصل المنع وأيدوه بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال إن الأصل الإباحة في الجميع فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظا لأمر الشرك ويحل الكتابيات تألفا لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة، فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلا على أن ما هو عليه من الدين القويم، يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والعدل بين المسلمين وغير المسلمين، وسعة الصدر في معاملة المخالفين، وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر منه مثل هذه الفائدة لأن المرأة أسيرة الرجل لاسيما في ملل ليس للنساء فيها من الحقوق ما أعطاهن الإسلام وأهل الكتاب وسائر الملل كذلك فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النصين في السورتين. فكان في التعبير بالأمة والعبد إشعار بعلة الخيرية.
[و] بيان ذلك أن ليس المراد بالزوجية قضاء الشهوة الحسية فقط وإنما المراد بها تعاقد الزوجين على المشاركة في شؤون الحياة والاتحاد في كل شيء، وإنما يكون ذلك بكون المرأة محل ثقة الرجل يأمنها على نفسه وولده ومتاعه، عالما أن حرصها على ذلك كحرصه، لأن حظها منه كحظه، وما كان الجمال الذي يروق الطرف، ليحقق في المرأة هذا الوصف، ولكن قد يمنعه التباين في الاعتقاد، الذي يتعذر معه الركون والاتحاد، والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة، ويوجب عليها الأمانة، ويأمرها بالخير، وينهاها عن الشر، فهي موكولة إلي طبيعتها، وما تربت عليه في عشيرتها، وهو خرافات الوثنية وأوهامها، وأماني الشياطين وأحلامها، فقد تخون زوجها، وتفسد عقيدة ولدها، فإن ظل الرجل على إعجابه بجمالها، كان ذلك عونا لها على التوغل في ضلالها وإضلالها، وإن نبا طرفه عن حسن الصورة، وغلب على قلبه استقباح تلك السريرة، فقد ينغص عليه التمتع بالجمال، ما هو عليه من سوء الحال.
وأما الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة فإنها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالأنبياء وبالحياة الأخرى وما فيها من الجزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر، والفرق الجوهري العظيم بينهما هو الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومزاياها في التوحيد، والتعبد والتهذيب، والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الإيمان بنبوة خاتم النبيين إلا الجهل بما جاء بمثل ما جاء به النبيون وزيادة اقتضتها حال الزمان في ترقيه، واستعداده لأكثر مما هو فيه، أو المعاندة والجحود في الظاهر، مع الاعتقاد في الباطن، وهذا قليل والكثير هو الأول، ويوشك أن يظهر للمرأة من معاشرة الرجل حقية دينه وحسن شريعته والوقوف على سيرة من جاء بها وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات فيكمل إيمانها، ويصح إسلامها، وتؤتى أجرها مرتين، إن كانت من الحسنات في الحالين، ومثل هذه الحكمة لا يظهر في تزويج الكتابي بالمؤمنة، فإنه بما له من السلطان عليها، وبما يغلب عليها من الجهل والضعف في بيان ما يعلم، لا يسهل عليها أن تقنعه بحقية ما هي عليه، بل يخشى أن يزيغها عن عقيدتها ويفسد منها دون أن تصلح منه، وهذا المعنى يفهم من تعليل النهي عن مناكحة المشركين في قوله عز وجل: {أولئك يدعون إلى النار} {والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه} بما اشتمل عليه دينه الذي أرسل به رسله من التوحيد، الخالص الذي ينقذ العقول من أوهام الوثنية ومنها إعطاء بعض المخلوقين شعبا من خصائص الألوهية، وبإفراد الله سبحانه بالعبادة والسلطة الغيبية، وهذا هو السبب الأول في دخول الجنة واستحقاق المغفرة منه تعالى للمؤمن الموحد إذا ألم بمعصية أو كسب خطيئة، لأن خطيئته لا تحيط بروحه ولا ترين على قلبه فتجعله شريرا، لأن الله غالب على أمره {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} (الأعراف: 201)
فحاصل معنى {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} هو أن دعوة الله التي عليها المؤمنون هي الموصلة إلى الجنة والمغفرة بإذن الله وإرادته وهدايته وتوفيقه، فهي أن ما عليه المشركون هو من سوء اختيارهم وقبح تصرفهم في كسبهم، وأن ما عليه المؤمنون لم يكن بوضعهم وعملهم وإنما هو الدين الذي هو وضع الله بلغه عنه رسله بإذنه وهدى إليه خلقه.
وذكر الأستاذ الإمام وجها آخر في هذا وهو أن المراد باسم الجلالة (الله) هو ما يعتقده فيه سبحانه المؤمنون به من كونه واحدا أحد وصمد لا كفؤ له ولا مساعد ولا وزير، ولا واسطة بينه وبين خلقه يحمله على نفعهم أو ضرهم، وإنما هو فاعل بإرادته القديمة على حسب علمه القديم، ولا تأثير للحوادث فيهما ولا في غيرهما من صفاته تعالى فهذا الاعتقاد بالله هو الأصل الذي يدعوهم إلى الجنة، لأنه ينبوع الأعمال الحسنة النافعة، ومصدر الأخلاق الفاضلة، التي يستحق صاحبها الجنة على ما يحسن فيه، والمغفرة على ما أساء فيه، ومنعه إيمانه من الإصرار عليه، والاسترسال فيه حتى يحيط به، وإنما كان أصلا في ذلك لأنه متى صح إيمانه صحت عزيمته في اتباع الشريعة والاهتداء بالدين القويم، وهذا التعبير مأنوس به في اللغة، يعبر بالشيء عن المصرف له والغالب على أمره، على حد الحديث القدسي (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) الخ ذلك أن اعتقاده يملك شعوره ومشاعره فيكون أصل كل عمل نفسي وبدني فيه.
ثم قال تعالى {ويبين آياته للناس} أي يوضح الدلائل على أحكام شريعته للناس فلا يذكر لهم حكما إلا ويبين لهم حكمته وفائدته بما يظهر لهم به أن المصلحة والسعادة فيما شرعه لهم
{لعلهم يتذكرون} يتعظون فيستقيمون فإن الحكم إذا لم تعرف فائدته للعامل لا يلبث أن يمل العمل به فيتركه وينساه، وإذا عرف علته ودليله وانطباقه على مصلحته ومصلحة من يعيش معهم فأجدر به أن يحفظه ويقيمه على وجهه ويستقيم عليه، لا يكتفي بالعمل بصورته وإن لم تؤد إلى المراد منه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نحن في هذا الدرس مع جانب من دستور الأسرة. جانب من التنظيم للقاعدة الركينة التي تقوم عليها الجماعة المسلمة، ويقوم عليها المجتمع الإسلامي. هذه القاعدة التي أحاطها الإسلام برعاية ملحوظة، واستغرق تنظيمها وحمايتها وتطهيرها من فوضى الجاهلية جهدا كبيرا، نراه متناثرا في سور شتى من القرآن، محيطا بكل المقومات اللازمة لإقامة هذه القاعدة الأساسية الكبرى. إن النظام الاجتماعي الإسلامي نظام أسرة -بما أنه نظام رباني للإنسان، ملحوظ فيه كل خصائص الفطرة الإنسانية وحاجاتها ومقوماتها.
وينبثق نظام الأسرة في الإسلام من معين الفطرة وأصل الخلقة، وقاعدة التكوين الأولي للأحياء جميعا وللمخلوقات كافة.. تبدو هذه النظرة واضحة في قوله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}. ومن قوله سبحانه: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}..
ثم تتدرج النظرة الإسلامية للإنسان فتذكر النفس الأولى التي كان منها الزوجان، ثم الذرية، ثم البشرية جميعا: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيبا {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}..
ثم تكشف عن جاذبية الفطرة بين الجنسين، لا لتجمع بين مطلق الذكران ومطلق الإناث ولكن لتتجه إلى إقامة الأسر والبيوت: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}. {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}.. {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقو الله واعلموا أنكم ملاقوه. وبشر المؤمنين}.. {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا}.. فهي الفطرة تعمل، وهي الأسرة تلبي هذه الفطرة العميقة في أصل الكون وفي بنية الإنسان. ومن ثم كان نظام الأسرة في الإسلام هو النظام الطبيعي الفطري المنبثق من أصل التكوين الإنساني. بل من أصل تكوين الأشياء كلها في الكون. على طريقة الإسلام في ربط النظام الذي يقيمه للإنسان بالنظام الذي أقامه الله للكون كله. ومن بينه هذا الإنسان..
والأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الفراخ الناشئة ورعايتها؛ وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها؛ وفي ظله تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وتنطبع بالطابع الذي يلازمها مدى الحياة؛ وعلى هديه ونوره تتفتح للحياة، وتفسر الحياة، وتتعامل مع الحياة. والطفل الإنساني هو أطول الأحياء طفولة. تمتد طفولته أكثر من أي طفل آخر للإحياء الأخرى. ذلك أن مرحلة الطفولة هي فترة إعداد وتهيؤ وتدريب للدور المطلوب من كل حي باقي حياته.
ولما كانت وظيفة الإنسان هي أكبر وظيفة، ودوره في الأرض هو أضخم دور.. امتدت طفولته فترة أطول، ليحسن إعداده وتدريبه للمستقبل.. ومن ثم كانت حاجته لملازمة أبويه أشد من حاجة أي طفل لحيوان آخر. وكانت الأسرة المستقرة الهادئة الزم للنظام الإنساني، وألصق بفطرة الإنسان وتكوينه ودوره في هذه الحياة. وقد أثبتت التجارب العملية أن أي جهاز آخر غير جهاز الأسرة لا يعوض عنها، ولا يقوم مقامها، بل لا يخلو من أضرار مفسدة لتكوين الطفل وتربيته، وبخاصة نظام المحاضن الجماعية التي أرادت بعض المذاهب المصطنعة المتعسفة أن تستعيض بها عن نظام الأسرة في ثورتها الجامحة الشاردة المتعسفة ضد النظام الفطري الصالح القويم الذي جعله الله للإنسان. أو التي اضطرت بعض الدول الأوربية اضطرارا لإقامتها بسبب فقدان عدد كبير من الأطفال لأهليهم في الحرب الوحشية المتبربرة التي تخوضها الجاهلية الغربية المنطلقة من قيود التصور الديني، والتي لا تفرق بين المسالمين والمحاربين في هذه الأيام! أو التي اضطروا إليها بسبب النظام المشؤوم الذي يضطر الأمهات إلى العمل، تحت تأثير التصورات الجاهلية الشائهة للنظام الاجتماعي والاقتصادي المناسب للإنسان. هذه اللعنة التي تحرم الأطفال حنان الأمهات ورعايتهن في ظل الأسرة، لتقذف بهؤلاء المساكين إلى المحاضن، التي يصطدم نظامها بفطرة الطفل وتكوينه النفسي، فيملأ نفسه بالعقد والاضطرابات..
وأعجب العجب أن انحراف التصورات الجاهلية ينتهي بناس من المعاصرين إلى أن يعتبروا نظام العمل للمرأة تقدما وتحررا وانطلاقا من الرجعية! وهو هو هذا النظام الملعون، الذي يضحي بالصحة النفسية لأغلى ذخيرة على وجه الأرض.. الأطفال.. رصيد المستقبل البشري.. وفي مقابل ماذا؟ في مقابل زيادة في دخل الأسرة. أو في مقابل إعالة الأم، التي بلغ من جحود الجاهلية الغربية والشرقية المعاصرة وفساد نظمها الاجتماعية والاقتصادية أن تنكل عن إعالة المرأة التي لا تنفق جهدها في العمل، بدل أن تنفقه في رعاية أعز رصيد إنساني وأغلى ذخيرة على وجه هذه الأرض. ومن ثم نجد النظام الاجتماعي الإسلامي، الذي أراد الله به أن يدخل المسلمون في السلم، وأن يستمتعوا في ظله بالسلام الشامل.. يقوم على أساس الأسرة، ويبذل لها من العناية ما يتفق مع دورها الخطير
.. ومن ثم نجد في سور شتى من القرآن الكريم تنظيمات قرآنية للجوانب والمقومات التي يقوم عليها هذا النظام. وهذه السورة واحدة منها.. والآيات الواردة في هذه السورة تتناول بعض أحكام الزواج والمعاشرة. والإيلاء والطلاق والعدة والنفقة والمتعة. والرضاعة والحضانة..
ولكن هذه الأحكام لا تذكر مجردة- كما اعتاد الناس أن يجدوها في كتب الفقه والقانون.. كلا! إنها تجيء في جو يشعر القلب البشري أنه يواجه قاعدة كبرى من قواعد المنهج الإلهي للحياة البشرية؛ وأصلا كبيرا من أصول العقيدة التي ينبثق منها النظام الإسلامي. وأن هذا الأصل موصول بالله سبحانه مباشرة. موصول بإرادته وحكمته ومشيئته في الناس، ومنهجه لإقامة الحياة على النحو الذي قدره وأراده لبني الإنسان. ومن ثم فهو موصول بغضبه ورضاه، وعقابه وثوابه، وموصول بالعقيدة وجودا وعدما في حقيقة الحال! ومنذ اللحظة الأولى يشعر الإنسان بخطر هذا الأمر و خطورته؛ كما يشعر أن كل صغيرة وكبيرة فيه تنال عناية الله ورقابته، وأن كل صغيرة وكبيرة فيه مقصودة كذلك قصدا لأمر عظيم في ميزان الله. وأن الله يتولى بذاته -سبحانه- تنظيم حياة هذا الكائن، والإشراف المباشر على تنشئة الجماعة المسلمة تنشئة خاصة تحت عينه، وإعدادها -بهذه النشأة- للدور العظيم الذي قدره لها في الوجود. وأن الاعتداء على هذا المنهج يغضب الله ويستحق منه شديد العقاب. إن هذه الأحكام تذكر بدقة وتفصيل... لا يبدأ حكم جديد حتى يكون قد فرغ من الحكم السابق وملابساته. ثم تجيء التعقيبات الموحية بعد كل حكم، وأحيانا في ثنايا الأحكام، منبئة بضخامة هذا الأمر وخطورته، تلاحق الضمير الإنساني ملاحقة موقظة محيية موحية. وبخاصة عند التوجيهات التي يناط تنفيذها بتقوى القلب وحساسية الضمير، لأن الاحتيال على النصوص والأحكام ممكن بغير هذا الوازع الحارس المستيقظ.
الحكم الأول يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة، وعن تزويج المشرك من مسلمة. والتعقيب: {أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}..
والحكم الثاني يتعلق بالنهي عن مباشرة النساء في المحيض.. وتتوالى التعليقات في هذا الأمر فترفع أمر المباشرة وأمر العلاقات بين الجنسين عن أن تكون شهوة جسد تقضي في لحظة، إلى أن تكون وظيفة إنسانية ذات أهداف أعلى من تلك اللحظة وأكبر، بل أعلى من أهداف الإنسان الذاتية. فهي تتعلق بإرادة الخالق في تطهير خلقه بعبادته وتقواه: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه. وبشر المؤمنين}..
والحكم الثالث حكم الإيمان بصفة عامة -تمهيدا للحديث عن الإيلاء والطلاق- ويربط حكم الإيمان بالله وتقواه، ويجيء التعقيب مرة: {والله سميع عليم}.. ومرة: {والله غفور حليم}.
والحكم الرابع حكم الإيلاء.. والتعقيب: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}.. والحكم الخامس حكم عدة المطلقة وترد فيه تعقيبات شتى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن. إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر}.. {والله عزيز حكيم}..
والحكم السادس حكم عدد الطلقات. ثم حكم استرداد شيء من المهر والنفقة في حالة الطلاق، وترد فيه التعقيبات التالية: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا، إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}.. {تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.. {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، إن ظنا أن يقيما حدود الله، وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}..
والحكم السابع حكم الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان بعد الطلاق. ويرد فيه: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه؛ ولا تتخذوا آيات الله هزوا؛ واذكروا نعمة الله عليكم، وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به؛ واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم}.. {ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر. ذلكم أزكى لكم وأطهر. والله يعلم وأنتم لا تعلمون}..
والحكم الثامن حكم الرضاعة والاسترضاع والأجر. ويعقب على أحكامه المفصلة في كل حالة من حالاته بقوله: واتقوا الله، واعلموا أن الله بما تعملون بصير.. والحكم التاسع خاص بعدة المتوفى عنها زوجها. ويعقب عليه بقوله: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، والله بما تعملون خبير}..
والحكم العاشر حكم التعريض بخطبة النساء في أثناء العدة. ويرد فيه: {علم الله أنكم ستذكرونهن. ولكن لا تواعدوهن سرا، إلا أن تقولوا قولا معروفا. ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، واعلموا أن الله غفور حليم}..
والحكم الحادي عشر حكم المطلقة قبل الدخول في حالة ما إذا فرض لها مهر وفي حالة ما إذا لم يفرض. ويجيء فيه من اللمسات الوجدانية: {وأن تعفوا أقرب للتقوى. ولا تنسوا الفضل بينكم. إن الله بما تعملون بصير}..
والحكم الثاني عشر حكم المتعة للمتوفى عنها زوجها وللمطلقة. ويرد فيه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين}.. والتعقيب العام على هذه الأحكام:
{كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}.. إنها العبادة.. عبادة الله في الزواج. وعبادته في المباشرة والإنسال. وعبادته في الطلاق والانفصال. وعبادته في العدة والرجعة. وعبادته في النفقة والمتعة. وعبادته في الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان. وعبادته في الافتداء والتعويض. وعبادته في الرضاع والفصال.. عبادة الله في كل حركة وفي كل خطرة..
ومن ثم يجيء -بين هذه الأحكام- حكم الصلاة في الخوف والأمن: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}.. يجيء هذا الحكم في ثنايا تلك الأحكام؛ وقبل أن ينتهي منها السياق. وتندمج عبادة الصلاة في عبادات الحياة، الاندماج الذي ينبثق من طبيعة الإسلام، ومن غاية الوجود الإنساني في التصور الإسلامي. ويبدو السياق موحيا هذا الإيحاء اللطيف.. إن هذه عبادات. وطاعة الله فيها من جنس طاعته في الصلاة. والحياة وحدة والطاعات فيها جملة. والأمر كله من الله. وهو منهج الله للحياة..
والظاهرة الملحوظة في هذه الأحكام أنها في الوقت الذي تمثل العبادة، وتنشئ جو العبادة وتلقي ظلال العبادة.. لا تغفل ملابسة واحدة من ملابسات الحياة الواقعية، وملابسات فطرة الإنسان وتكوينه، وملابسات ضروراته الواقعة في حياته هذه على الأرض. إن الإسلام يشرع لناس من البشر، لا لجماعة من الملائكة، ولا لأطياف مهومة في الرؤى المجنحة! ومن ثم لا ينسى -وهو يرفعهم إلى جو العبادة بتشريعاته وتوجيهاته- أنهم بشر، وإنها عبادة من بشر.. بشر فيهم ميول ونزعات، وفيهم نقص وضعف، وفيهم ضرورات وانفعالات، ولهم عواطف ومشاعر، وإشراقات وكثافات.. والإسلام يلاحظها كلها؛ ويقودها جملة في طريق العبادة النظيف، إلى مشرق النور الوضيء، في غير ما تعسف ولا اصطناع. ويقيم نظامه كله على أساس أن هذا الإنسان إنسان! ومن ثم يقرر الإسلام جواز الإيلاء. وهو العزم على الامتناع عن المباشرة فترة من الوقت. ولكن يقيده بألا يزيد على أربعة أشهر.
ويقرر الطلاق ويشرع له، وينظم أحكامه ومخلفاته. في الوقت الذي يبذل كل ذلك الجهد لتوطيد أركان البيت، وتوثيق أواصر الأسرة، ورفع هذه الرابطة إلى مستوى العبادة.. إنه التوازن الذي يجعل مثاليات هذا النظام كلها مثاليات واقعية رفيعة. في طاقة الإنسان. ومقصود بها هذا الإنسان. إنه التيسير على الفطرة. التيسير الحكيم على الرجل والمرأة على السواء. إذا لم يقدر لتلك المنشأة العظيمة النجاح؛ وإذا لم تستمتع تلك الخلية الأولى بالاستقرار. فالله الخبير البصير، الذي يعلم من أمر الناس ما لا يعلمون، لم يرد أن يجعل هذه الرابطة بين الجنسين قيدا وسجنا لا سبيل إلى الفكاك منه، مهما اختنقت فيه الأنفاس، ونبت فيه الشوك، وغشاه الظلام. لقد أرادها مثابة وسكنا؛ فإذا لم تتحقق هذه الغاية -بسبب ما هو واقع من أمر الفطر والطبائع- فأولى بهما أن يتفرقا؛ وأن يحاولا هذه المحاولة مرة أخرى. وذلك بعد استنفاد جميع الوسائل لإنقاذ هذه المؤسسة الكريمة؛ ومع إيجاد الضمانات التشريعية والشعورية كي لا يضار زوج ولا زوجة، ولا رضيع ولا جنين. وهذا هو النظام الرباني الذي يشرعه الله للإنسان..
وحين يوازن الإنسان بين أسس هذا النظام الذي يريده الله للبشر، والمجتمع النظيف المتوازن الذي يرف فيه السلام، وبين ما كان قائما وقتها في الحياة البشرية، يجد النقلة بعيدة بعيدة.. كذلك تحتفظ هذه النقلة بمكانها السامق الرفيع حين يقاس إليها حاضر البشرية اليوم في المجتمعات الجاهلية التي تزعم أنها تقدمية في الغرب وفي الشرق سواء، ويحس مدى الكرامة والنظافة والسلام الذي أراده الله للبشر، وهو يشرع لهم هذا المنهج. وترى المرأة -بصفة خاصة- مدى رعاية الله لها وكرامته.. حتى لأستيقن أنه ما من امرأة سوية تدرك هذه الرعاية الظاهرة في هذا المنهج إلا وينبثق في قلبها حب الله!!!
[و] النكاح -وهو الزواج- أعمق وأقوى وأدوم رابطة تصل بين اثنين من بني الإنسان؛ وتشمل أوسع الاستجابات التي يتبادلها فردان. فلا بد إذن من توحد القلوب، والتقائها في عقدة لا تحل. ولكي تتوحد القلوب يجب أن يتوحد ما تنعقد عليه، وما تتجه إليه. والعقيدة الدينية هي أعمق وأشمل ما يعمر النفوس، ويؤثر فيها، ويكيف مشاعرها، ويحدد تأثراتها واستجاباتها، ويعين طريقها في الحياة كلها. وإن كان الكثيرون يخدعهم أحيانا كمون العقيدة أو ركودها. فيتوهمون أنها شعور عارض يمكن الاستغناء عنه ببعض الفلسفات الفكرية، أو بعض المذاهب الاجتماعية. وهذا وهم وقلة خبرة بحقيقة النفس الإنسانية، ومقوماتها الحقيقية. وتجاهل لواقع هذه النفس وطبيعتها. ولقد كانت النشأة الأولى للجماعة المسلمة في مكة لا تسمح في أول الأمر بالانفصال الاجتماعي الكامل الحاسم، كالانفصال الشعوري الاعتقادي الذي تم في نفوس المسلمين. لأن الأوضاع الاجتماعية تحتاج إلى زمن وإلى تنظيمات متريثة. فلما أن أراد الله للجماعة المسلمة أن تستقل في المدينة، وتتميز شخصيتها الاجتماعية كما تميزت شخصيتها الاعتقادية. بدأ التنظيم الجديد يأخذ طريقه، ونزلت هذه الآية. نزلت تحرم إنشاء أي نكاح جديد بين المسلمين والمشركين -فأما ما كان قائما بالفعل من الزيجات فقد ظل إلى السنة السادسة للهجرة حين نزلت في الحديبية آية سورة الممتحنة: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن. الله أعلم بإيمانهن. فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار. لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}... {ولا تمسكوا بعصم الكوافر...} فانتهت آخر الارتباطات بين هؤلاء وهؤلاء. لقد بات حراما أن ينكح المسلم مشركة، وأن ينكح المشرك مسلمة. حرام أن يربط الزواج بين قلبين لا يجتمعان على عقيدة. إنه في هذه الحالة رباط زائف واه ضعيف. إنهما لا يلتقيان في الله، ولا تقوم على منهجه عقدة الحياة. والله الذي كرم الإنسان ورفعه على الحيوان يريد لهذه الصلة ألا تكون ميلا حيوانيا، ولا اندفاعا شهوانيا. إنما يريد أن يرفعها حتى يصله بالله في علاه؛ ويربط بينها وبين مشيئته ومنهجه في نمو الحياة وطهارة الحياة. ومن هنا جاء ذلك النص الحاسم الجازم: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}.. فإذا أمن فقد زالت العقبة الفاصلة؛ وقد التقى القلبان في الله؛ وسلمت الآصرة الإنسانية بين الاثنين مما كان يعوقها ويفسدها. سلمت تلك الآصرة، وقويت بتلك العقدة الجديدة: عقدة العقيدة. {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}.. فهذا الإعجاب المستمد من الغريزة وحدها، لا تشترك فيه مشاعر الإنسان العليا، ولا يرتفع عن حكم الجوارح والحواس. وجمال القلب أعمق وأغلى، حتى لو كانت المسلمة أمة غير حرة. فإن نسبها إلى الإسلام يرفعها عن المشركة ذات الحسب. إنه نسب في الله وهو أعلى الأنساب. {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا. ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم}..
[و] القضية نفسها تتكرر في الصورة الأخرى، توكيدا لها وتدقيقا في بيانها والعلة في الأولى هي العلة في الثانية: {أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه. ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}.. إن الطريقين مختلفان، والدعوتين مختلفتان، فكيف يلتقي الفريقان في وحدة تقوم عليها الحياة؟ إن طريق المشركين والمشركات إلى النار، ودعوتهم إلى النار. وطريق المؤمنين والمؤمنات هو طريق الله. والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه.. فما أبعد دعوتهم إذن من دعوة الله! ولكن أو يدعو أولئك المشركون والمشركات إلى النار؟ ومن الذي يدعو نفسه أو غيره إلى النار؟! ولكنها الحقيقة الأخيرة يختصر السياق إليها الطريق! ويبرزها من أولها دعوة إلى النار، بما أن مآلها إلى النار. والله يحذر من هذه الدعوة المردية {ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}.. فمن لم يتذكر، واستجاب لتلك الدعوة فهو الملوم! هنا نتذكر أن الله لم يحرم زواج المسلم من كتابية- مع اختلاف العقيدة -ولكن الأمر هنا يختلف. إن المسلم والكتابية يلتقيان في أصل العقيدة في الله. وإن اختلفت التفصيلات التشريعية.. فأما الأمر في زواج الكتابي من مسلمة فهو محظور؛ لأنه يختلف في واقعه عن زواج المسلم بكتابية- غير مشركة -ومن هنا يختلف في حكمه.. إن الأطفال يدعون لآبائهم بحكم الشريعة الإسلامية. كما أن الزوجة هي التي تتنقل إلى أسرة الزوج وقومه وأرضه بحكم الواقع. فإذا تزوج المسلم من الكتابية [غير المشركة] انتقلت هي إلى قومه، ودعي أبناؤه منها باسمه، فكان الإسلام هو الذي يهيمن ويظلل جو المحصن. ويقع العكس حين تتزوج المسلمة من كتابي، فتعيش بعيدا عن قومها، وقد يفتنها ضعفها ووحدتها هنالك عن إسلامها، كما أن أبناءها يدعون إلى زوجها، ويدينون بدين غير دينها. والإسلام يجب أن يهيمن دائما.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان المسلمون أيام نزول هذه السورة ما زالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات فبين الله الحكم في هذه الأحوال، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى، فإن للمسلمين يومئذٍ أقاربَ وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقَدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة.
والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهلُ الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة} تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله: {ولو أعجبكم} وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة، فالأمة هنا هي المملوكة، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله: {ولأمة مؤمنة} فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيراً من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله: {ولو أعجبكم} فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء.
وجملة {ويبين} معطوفة على {يدعو} يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات} [البقرة: 219] ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته. ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ابتدأ الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ببيان الروابط التي توثق العلاقات الفاضلة في المدينة الإسلامية، التي هي المقصد الأول من هذا الشرع الحكيم، فقد تضافرت الأخبار والآثار، وجاءت آيات الله البينات في هذا الشأن فاصلة وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين السابقتين بعض الأمور التي تحل عرى الجماعة، و توقع بينهم العداوة والبغضاء، و التي تضمنت علاج هذه الأمور... بدواء ناجع يشفي من سقامها، فذكر ما في الخمر والميسر من مآثم، واكتفى في هذا الموضع بذلك بيانا للعاقل الرشيد، وأشار إلى التنابذ والتدابر إن ضن الغني بالعطاء، وفقد الفقير الرجاء، فأوجب الإنفاق، وأشار إلى المعاول التي تهدم الجماعة الإسلامية، وتقوض أمنها، وتكثر شذابها، وأولئك هم الضعفاء واليتامى ومن لا مأوى لهم، فإن لم يصلحوا وعودهم أخضر، كان منهم الشطار واللصوص والهادمون الذين يأتون بنيان الجماعة من قواعده.
إن في شرع الله سبحانه وتعالى لخيرا الناس في الحال والمآل، وإقامة مدينة فاضلة في الدنيا، يكون الثواب لمن شاد بنيانها، في الآخرة، وكل عبادات هذا الدين تتجه نحو هذه الغاية، وتستهدف هذا الهدف، ولقد قال سبحانه في وصف شرعه وكتابه: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين 57 قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون 58} (يونس).
و بعد أن أشار إلى الأذى والوقاية منه، والداء ودفعه، أخذ يبين أساس البناء الاجتماعي الفاضل، وابتدأ من هذه الأسس بالقاعدة التي يشاد عليها البناء، والوحدة التي يتكون منها البنيان، والتي إذا قويت فيها الروابط قوي، وشد بعضه بعضا، وتلك القاعدة هي: الأسرة، فهي وحدة البناء الاجتماعي، وقاعدة كل بناء فاضل، وفيها تتربى كل المنازع الاجتماعية الفاضلة. و لقد ابتدأ من أحكام الأسرة ونظمها الإسلامية الفاضلة بالانتقاء في ركنيها، وهما الزوج والقرينة، فإنه إن كان الاختيار فيهما حسنا كانت العلاقة موثقة بروابط المودة والرحمة والإخلاص، كما قال تعالى: {و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة 21} (الروم).
و لقد ابتدأ ببيان أساس الاختيار وهو التدين، فقال تعالت كلماته: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} عندما ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته، وانبعث في مكة نور هدايته، كان أكثر المؤمنين، من الضعفاء غير ذوي الجاه والنسب والحسب، والأقلون كانوا كذلك، وكل المعاندين أو جلهم من أوسط قريش نسبا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالة الكفار الذين سبقوهم لأنبيائهم: {و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي 27} (هود). ولما قويت شوكة الإسلام، كثر دخول ذوي الأنساب فيه شيئا فشيئا، وإن كانوا مع ذلك قلة من قريش، وكان أولئك بمقتضى نسبهم الرفيع يرون في بني أعمامهم من قريش الكفاءة النسبية في الزواج، وربما كان فيهم بعض الميل لمصاهرتهم، بل كان من بعضهم فعلا من أبدى رغبتهم في المصاهرة، فجاء النهي القرآني عن نكاح المشركات، حتى يؤمن. والمشركون – هم عبدة الأوثان. وأصله من الإشراك، وأصل كلمة أشركته بمعنى جعلت الشيء بينه وبين غيره شركة، والشركة كما تكون في الحسيات والأشياء، تكون في المعاني، فيقول أشركته في أمري، وقد قال سبحانه وتعالى حاكيا عن موسى عليه السلام {و أشركه في أمري 32} (طه)
و من هذا الباب أطلقت كلمة "إشراك "على عبادة غير الله معه، لأن من فعل ذلك فقد أشرك مع الله غيره في العبادة والتقديس والألوهية، وألفاظ القرآن الكريم الدالة على ذلك كثيرة جدا، ولا تكاد تحصى، ولكثرة استعمال القرآن هذا اللفظ في هذا المعنى كان لكلمة "مشرك" إطلاق خاص فيه، وهو إطلاقه على من يعبد الأوثان، فكلمة: مشرك، ومشركين،و مشركات، كلها إذا ذكرت في القرآن انصرفت إلى عبدة الأوثان من غير أية قرينة دالة على ذلك، لأنها صارت في الإسلام حقيقة عرفية عليهم، ولا تطلق على اليهود والنصارى، وإن قال الله سبحانه عن النصارى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة 73} (المائدة) وعن اليهود: {و قالت اليهود عزير ابن الله.30} (التوبة) إذ صار لفظ المشركين اسما لجنس معين، ولذا كان يذكر النصارى واليهود بعنوان أهل الكتاب، وعبدة الأوثان باسم المشركين، فقد قال تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة 1} (البينة) فذكر في هذه الآية الكريمة الجميع بأهل الكفر، ولكنه فصل بينهما، فجعلهما جنسين مختلفين، وإن ذلك أدى إلى الاختلاف في المعاملة، والاختلاف في الأحكام، وكانت العلة في هذا الاختلاف مشتقة من التسمية نفسها، فأولئك لهم كتاب، وإن كان محرفا،و المشركون ليس لهم كتاب، فلا ضابط يضبطهم، ولا عاصم يحول بينهم وبين الإيغال المطلق في الشر، ولا حريجة دينية تقيدهم، بل هم حائرون بائرون.
وقوله تعالى في الغاية التي ينتهي إليها التحريم {حتى يؤمن} فيه إشارة إلى توقع إيمان المشركين رجالهم ونسائهم، وأن الفتح المبين قريب وليس ببعيد، فأولئك الذين يتعلقون بأنسابهم، ويرون المصاهرة معهم، لا يتعجلون أمرا لهم فيه أناة، فسيأتي اليوم الذي يؤمن هؤلاء جميعا، وبذلك يزول السبب الذي كان من أجله التحريم، وهو الإشراك، وإن في ذلك بشرى للمؤمنين بعامة بهذا الفتح، وبإعلاء كلمة الله، و بانتهاء القتال بين ذوي الأرحام الواصلة، وبشرى خاصة للذين يرغبون في الزواج من بنات أعمامهم، ويحول الشرك دونهم.
{و لأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} في هذه الجملة السامية بيان فضل التدين والإيمان على الشرك والكفر، وبيان فضل المؤمن على الكافر، وبيان فضل كمال النفس على جمال الجسم، وبيان فضل شرف القلب على شرف النسب،
ومثلها في هذا المعنى قوله تعالى بعد ذلك: {و لعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم]} فكلتا الجملتين الساميتين تشير إلى فضل الحقيقة الخلقية والدينية على المظهر الجسمي، والاستعلاء النسبي.
و الأمة: الأنثى من الرقيق، والسبب في أن زواج المؤمن من أمة مؤمنة لا يروقه منظرها، خير من زواجه من حرة مشركة يروقه منظرها، ويثير الإعجاب حسنها، كما دل على ذلك قوله تعالى: {و لو أعجبتكم} السبب في ذلك أن الزواج ليس علاقة وقتية، بل هو علاقة دائمة وليس قضاء وطر عاجل يكون الإعجاب المجرد سببه، بل الزواج صلة مودة رابطة يلاحظ عند الإقدام عليه عوامل بقائه لا الدوافع المجردة إلى إنشائه. وإذا كانت الأمة المؤمنة التي لا تثير الإعجاب قد اجتمعت فيها صفتان لا تثيران النفس، بل تمنعان، وهما الرق، وعدم رواء المنظر، ففيها صفة توجد المودة والوئام، وهي الإيمان. وإذا كانت الحرة المشركة التي تثير تقطع العلائق، وتفسد البيت، وهي الشرك الذي ليس معه عاصم عن إثم ولا غواية، ولا اتجاه معه إلى فضيلة ومودة واصلة وخلق كريم.
{و لا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} وإذا كان زواج المؤمن من المشركة حراما فتزويج المؤمنة من المشرك حرام أيضا، بل إنه أشد تحريما إذا كان التحريم مراتب، لأن في الزواج نوع ولاية من الرجل على المرأة، بدليل أن له حق تأديبها إن خرجت عن جادة الحق من غير تبريح ولا اعتداء، ولا قصد إلى الإيذاء، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يزوج الأولياء نساءهم من مشركين. والإنكاح كما قلنا تزويج الإنسان غيره. وإن الأسباب في تفضيل المؤمن ولو عبدا على المشرك ولو كان يثير الإعجاب بجمال جسمه وقوة بدنه، وجاهه الدنيوي، هي التي ذكرناها هناك، ويزاد عليها أن المشرك بما فيه من عنجهية ورجس الجاهلية، والطغيان النفسي، يسئ معاملة زوجه من غير دين مانع، ولا خلق زاجر، ولا ضمير لائم، فمن زوج ذات رحم منه مشركا فقد أسلمها إلى الجحيم، وألقى بها في فتنة، تفتن بها في دينها وخلقها، وفي كرامتها وفي إنسانيتها، وإن ذلك لا يغني عن كونه حرا نسيبا، فإن تلك المعاني التي تبذل أغلى من الحرية والنسب والمال والنشب، لأنها معاني الإنسانية السامية، ولهذا كان عبد مؤمن خيرا من كافر نسيب ولو غير مشرك.
{أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} وازن سبحانه وتعالى بين الزواج من المؤمنة والزواج من المشركة، والزواج من المؤمن والزواج من المشرك وكانت الموازنة من حيث الخيرية في كل جانب، فكان خير المشركين والمشركات حسيا ماديا، والمنفعة فيه عاجلة غير باقية، وكان الخير في جانب المؤمنين والمؤمنات نفسيا وروحيا والمنفعة فيه باقية غير سريعة الزوال، وتتناسب مع عقد الزواج وهو عقد الحياة الذي يمتد بامتدادها، وانتهت الموازنة بأن المؤمنة ولو كانت أمة خير من المشركة ولو كانت نسيبة حسناء، وبأن المؤمن ولو كان عبدا خير من المشرك ولو كان حسيبا نسيبا ونهدا قويا.
و في هذه الجملة السامية يبين سبحانه مغبة السوء في الزواج بالمشركين والمشركات، فقال سبحانه: {أولئك يدعون إلى النار} أي أن أولئك المشركين والمشركات إذا كان فيهم ما يستهوي الراغب في الزواج منهم من نسب رفيع، وجاه عريض، ومال وفير، وجمال ومنصب، فهم بهذه الأوصاف الدنيوية التي تستهوي النفوس الضعيفة إذا كان معها الشرك بالله وعبادة الأوثان، يدعون إلى الإقدام على أسباب النار في الآخرة والعذاب الأليم فيها، فإن الاستهواء المادي للنفس الضعيفة، والخلطة المستمرة بين الزوجين، والاتصال الدائم بينهما، كما قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن...} (البقرة، 187) إن هذه الأمور كلها من شأنها أن تسهل قبول المسلم أو المسلمة لما عليه المشرك من عادات جاهلية، وأخلاق وثنية، تبتدئ تلك المفاسد بالسريان إلى النفس بالسكوت عنها، ثم الرضا عن فعلها، ثم باستحسانها، وأول الشر استحسانه، وبذلك تنحل عرى الإسلام في نفس المسلم عروة عروة، حتى لا يبقى من الإسلام إلا الاسم والرسم، وهما لا يغنيان عن حقيقته شيئا!.
هذه دعوة المشركين والمشركات بالإغراء وبعدوى الأخلاق، إلى النار، وهي نقيض نداء الله لعباده، ولذا قال سبحانه: {و الله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه} فالله سبحانه بأوامره السامية، وشريعته المحكمة ينادي المؤمنين إلى سلوك طريق الجنة بأن يقوموا بالأعمال الصالحة، ويحصنوا نفوسهم في زواجهم بما يحمي أنفسهم من الشر والفساد، وبواعثهما، وما يغري بهما، ويحموا جماعتهم من أن تكون فيها تلك الأدواء الفتاكة بقيام أسر من الزواج قد انحلت في نفوسهم روابط الفضيلة والأخلاق، فإن ذلك التحصين الشخصي والاجتماعي هو السبيل إلى جنة الرضوان، كما أنه السبيل إلى مغفرة الرحمان، لأن صون النفوس وعفة القلوب، وسيادة الفضيلة في المجتمع، كل هذا من شأنه أن يوجه إلى الخير وإلى الكمال، فتذهب عن النفس أدرانها، وتستر عيوبها، وبذلك يغفر الله ذنوبها إذا تابت وأقلعت.
و لقد قيد سبحانه الدعاء إلى الجنة والمغفرة بقوله سبحانه: {بإذنه} والإذن يطلق على الإعلام، كما يطلق على الأمر، ويطلق على الإرادة مع الرضا والتوفيق والتيسير، وإن تلك المعاني الثلاثة متحققة في هذه الجملة السامية، فإن الله سبحانه أعلم الناس بطرق الجنة والمغفرة، وآذنهم بها ليسلك من يريد السلوك، وأمرهم أمرا قاطعا بالحق في كل شيء ليطيع من طلب الحق وسلك سبيله. وإنه سبحانه موفق من طلب الهداية ميسر له السبيل، آخذ بيده إلى الحق الذي لا مرية فيه.
{و يبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} يدعو الله سبحانه وتعالى إلى الجنة والمغفرة ويعلم الناس بالحق ويأمرهم به، وييسر السبيل إليه، ولا يكتفي سبحانه وتعالى بذلك، بل يقيم البينات والآيات الدالة القاطعة على أن الحق هو ما يدعو إليه، والمصلحة فيما يأمر به، والفضيلة والكمال فيما يشرع لهم من شرع ويوضح لهم من مناهج، فقد اقترن كل حكم بحكمته، وكل أمر بوجه المصلحة فيه، وكان ذلك لأجل أن يتذكر الناس دائما، ويكونوا على علم بوجه الخير في أوامر دينهم، وأحكام الشرع الذي نزل من عند الله الحكيم العليم، وهذا معنى قوله تعالى: {لعلهم يتذكرون} فالرجاء هنا في معنى التعليل، لأن الرجاء من الله تعالى في موضع التحقيق، أو نقول: الرجاء على حقيقته، وهو من العبد لا من الرب، أي أن الله سبحانه وتعالى شرع ما شرع من شريعة محكمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وبين بالآيات البينات وجه الخير فيما يشرع ليرجو الناس أن يكونوا في حال تذكر دائم لربهم وشرعه، وخالقهم وما أنزل لهم من أحكام تصلح دنياهم، وتقربهم إلى الله زلفى فينالون رضوانه يوم الدين.
أما بعد: فإن هاتين الآيتين الكريمتين توضحان لكل مؤمن الطريق الذي يتخذه ليختار زوجا يرضاها قرينة له ويقطعا معا صحراء الحياة، وتكون له السكن والمطمأن، وتبينان له أنه يجب عليه ألا يسير وراء ما يثير الإعجاب من رواء المنظر، أو علو النسب، أو جاه دنيوي، بل يطلب ذات الدين أولا، فإنه إن استقامت الأخلاق وتلاءمت النفوس، والتقت القلوب، حسنت العشرة، وقامت الأسرة على دعائم من الفضيلة والخلق الكريم، وأنبت الله لهما الذرية الصالحة نباتا حسنا، وإن لم تستقم الأخلاق ولم يكن الدين، تقطعت الروابط، وكاد كل منهما لصاحبه، أو أفسد الاستهواء قلب الصالح منهما لصاحبه، ويرين الله على قلبه، ولا يكون نبت الذرية إلا نكدا، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك "والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
أمامنا آية كريمة ينبغي الوقوف عندها لتوضيح معناها وتحديد مداها في موضوع زواج المسلم بغير المسلمة، وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}. فهذه الآية الصريحة تنبه المسلمين إلى أن وحدة العقيدة التي ينطوي عليها قلب الزوج والزوجة أمر مطلوب ومرغوب، بل أمر ضروري لوحدة الأسرة وأمنها واستقرارها، إذ من المستحيل أن تقوم رابطة الزواج من الناحية المادية الصرفة مقام العقيدة الأساسية التي ينطوي عليها قلب الزوج والزوجة، والتي تضمن اشتراكهما الفعلي في نظرة واحدة، ومن زاوية واحدة، إلى الحياة الدنيا والحياة الأخرى معا، وفي نظرة واحدة، ومن زاوية واحدة، إلى القيم الروحية والأخلاقية التي يجب أن تسود حياة الأسرة والأولاد.
وبعد ذلك يدخل معنا الحق سبحانه وتعالى في مسألة جديدة لو نظرنا إليها لوجدناها أساس أي حركة في الحياة وفي المجتمع، إنها مسألة الزواج. ويريد سبحانه أن يضمن الاستقرار والسعادة للكائن الذين كرّمه وجعله خليفة في الأرض، وجعل كل الأجناس مسخّرة لخدمته. إن الحق يريد أن يصدر ذلك الكائن عن ينبوع منهجي واحد؛ لأن الأهواء المتضاربة هي التي تفسد حركة الحياة، فأراد أن يصدر المجموع الإنساني كله عن ينبوع عقدي واحد، وأراد أن يحمي ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والأهواء، لذلك ينبهنا الحق إلى هذا الموقف. إنه سبحانه يريد سلامة الوعاء الذي سيوجد ذلك الإنسان، من بعد الزواج، فبالزواج ينجب الإنسان وتستمر الحياة بالتكاثر. ولذلك لابد من الدقة في اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل، فهو سبحانه يقول: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للناس لعلهم يتذكّرون 221} وقد أراد الحق أن ينبهنا إلى هذا الأمر ليحرص الإنسان على أن يستبقي الثمرة إلى أن تنضج ويصير لها بذور.
إن المرأة لا تكون ثمرة طيبة إلا إذا أنجبت مثلها ولداً صالحا نافعا، يريد الحق للنشء أن يكون غير مضطرب الإيمان؛ لذلك يقول: {ولا تُنكحوا المشركات حتى يؤمنّ} أي إياكم أن تنخدعوا بالمعايير الهابطة النازلة، وعلى كل منكم أن يأخذ حكم الله: {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} لأن إعجاب الإنسان بالمرأة بصرف النظر عن الإيمان سيكون إعجابا قصير العمر.
وانظروا إلى دقة قوله سبحانه: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة} أي إن الأمة المسلمة خير من حرة مشركة، {ولو أعجبتكم}.
لقد جاء قول الحق هنا بمقاييس الإعجاب الحسي. ليلفتنا إلى أننا لا يصح أن نهمل مقاييس خالدة ونأخذ مقاييس بائدة وزائلة. إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن لمن جعله خليفة في الأرض عقيدة واحدة يصدر عنها السلوك الإنساني؛ لأن العقائد إن توزعت حسب الأهواء فسيتوزع السلوك حسب الأهواء. وحين يتوزع السلوك تتعاند حركة الحياة ولا تتساند. فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر يؤثر فيها؛ فشرط في بناء اللبنة الأولى للأسرة ألا ينكح مؤمن مشركة؛ لأن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى حضانة الطفل لمدة طويلة هي... أطول أعمار الطفولة في الكائن الحي. ولو كان الأب مؤمناً والأم مشركة فالأب سيكون مشغولاً بحركة الحياة فتتأصل عن طريق الأم معظم القيم التي تتناقض مع الإيمان.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الزواج بين الرغبة العاطفية والمصلحة الواقعية:
في هذه الآية تأكيد على الأساس التشريعي للحكم بحرمة تزويج المشركات للمؤمنين وحرمة تزويج المؤمنات للمشركين. وهو التباين في النظرة بين المؤمنين وبين المشركين، ما يوجب التباين في السلوك وفي الهدف، فينعكس على الحياة الزوجية التي يجب أن تخضع للمودة والرحمة القائمة على وحدة التصوّر، ووحدة الشعور بالهدف. فالمؤمنون يسيرون في اتجاه دعوة اللّه إلى الجنّة، التي تقتضي نمطاً في السلوك وفي التفكير يختلف مع النمط في السلوك والتفكير الذي تقتضيه دعوة المشركين إلى النّار. فكيف يمكن أن يتحقّق الإخلاص للحياة الزوجية مع الالتزامات الروحية والفكرية والحياتية التي تفرضها العقيدة؟. وقد يجدر بنا أن نفهم من الآية الكريمة، أنها لم تجعل النهي عن الزواج هنا على أساس التعسف، كما ربما يتوهمه بعض النّاس، حيث جُعل الحكم ثابتاً حتى لو كان على خلاف رغبة النّاس وإعجابهم، بل حاولت أن تقود الإنسان إلى الموازنة بين الرغبة العاطفية وبين المصلحة الواقعية للعقيدة والحياة، لينتهي بالنتيجة إلى الاقتناع بأنَّ الرغبة لا تمثّل شيئاً كبيراً بإزاء قضية المصير للإنسان في الدنيا والآخرة. وتبقى لنا هذه الآية لتركز الخطّ الإيماني، الذي تقوم عليه العلاقات الزوجية، من أجل أن تكون أساساً لبناء بيت إسلامي يقوم على المحبة والمودة المرتبطة باللّه في أجواء الإيمان والإسلام.
{ولأمة مؤمنة خير من مشركة:} {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} فإنَّ اللّه لا يريد للمسلمين الزواج من النساء اللاتي يعبدن الأصنام ويعتبرنها شركاء للّه في حقّ العبودية، لأنَّ العلاقة الزوجية قائمة على الاتحاد الروحي، والانسجام الفكري بين الزوجين، بالإضافة إلى الاتحاد الجسدي. وهل يمكن قيام اتحاد بين الفكر التوحيدي والفكر الإشراكي، أو حصول انسجام بين قيم الوحدانية وقيم الوثنية؟!. فإذا تبدل الشرك بالإيمان وانفتحت قلوبهن على اللّه وعلى دينه، فلا بأس عليهم من الزواج بهنّ، من خلال الانسجام الفكري المنفتح على اللقاء الروحي في الحياة المشتركة بينهم.
{وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} المشركة بالصفات المتنوّعة التي تجذب اهتمام الرّجل وإعجابه، كالمال، والذكاء، والجمال، والحسب، والموقع الاجتماعي، والشرف العائلي، لأن الإيمان يتميّز على ذلك كلّه، لأنه ينفذ إلى عمق الوجدان الإنساني في تصوّراته وتطلّعاته ومشاعره وأفكاره وعاداته وتقاليده وروحيته، ما يترك تأثيره على العمق الداخلي للشخصية الإنسانية، بحيث ينفتح العقل على العقل، والروح على الروح، والقلب على القلب، والحياة على الحياة، فتتداخل الشخصيتان، لتؤلفا شخصية واحدة متنوّعة الخصوصيات.
{أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّار} لأنهم يدعون إلى الشرك في العقيدة أو العبادة، الذي لا يغفره اللّه لصاحبه إلاَّ إذا تراجع عنه؛ ويتحركون في حياتهم من دون أية قاعدة فكرية عاصمة من الانحراف الأخلاقي أو الاجتماعي، ما يدفعهم إلى التمرّد على كلّ القيم الإنسانية المنفتحة على التعاليم الإلهية، التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في السمو الروحي الذي يقترب به الإنسان من اللّه، وبذلك يستحقون دخول النّار، فيجرّون معهم أزواجهم وذرياتهم وكلّ النّاس الذين يعيشون معهم، ويلتزمون بخطّهم الذي يقودهم إلى الضلال المندفع نحو النّار. {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ للنّاس لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
ليقرّبهم إليه من خلال تقريبهم إلى الإيمان به من خلال آياته الظاهرة البينة التي تؤدي إلى القناعة، وترتكز على الحجة الواضحة التي لا تسمح لأي لبس أو اشتباه. وذلك هو دور الآيات؛ فإنها تنقذ الإنسان من غفلته، وتدفعه إلى أن يتذكر كل القضايا الحيّة المتصلة بحياته وبمصيره، ليتوازن في نظراته إليها وفي التزامه بها في الواقع العملي.