127- وبعد أن شاهد فرعون وقومه ما شاهدوا - من ظهور أمر موسى وقوة غلبته وإيمان السحرة به - قال الكبراء من قومه : أنترك موسى وقومه أحرارا آمنين ، ليكون مآلهم أن يفسدوا قومك عليك في أرض مصر بإدخالهم في دينهم ، ويتركك مع آلهتك في غير مبالاة ، فيظهر للمصريين عجزك وعجزهم ؟ قال فرعون مجيبا لهم : سنقتل أبناء قومه تقتيلا ما تناسلوا ، ونستبقى نساءهم أحياء ، حتى لا يكون لهم قوة كما فعلنا من قبل ، وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان قاهرون لهم .
قوله تعالى : { وقال الملأ من قوم فرعون } له .
قوله تعالى : { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } ، وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته .
قوله تعالى : { ويذرك } ، أي : وليذرك .
قوله تعالى : { وآلهتك } ، فلا يعبدك ولا يعبدها . قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة يعبدها ، وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج السامري لهم عجلاً ، وقال الحسن : كان قد علق على عنقه صليباً يعبده ، وقال السدي : كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناماً وأمرهم بعبادتها . وقال لقومه : هذه آلهتكم ، أراد ربها وربكم ، فذلك قوله { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والشعبي ، والضحاك : ويذرك وإلهتك ، بكسر الألف ، أي : عبادتك فلا يعبدك ، لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبد ، وقيل : أراد بالآلهة الشمس ، وكانوا يعبدونها . قال الشاعر :
تروحنا من اللعباء قصراً *** وأعجلنا الإلاهة أن تؤبا
قوله تعالى : { سنقتل أبناءهم } ، قرأ أهل الحجاز : سنقتل بالتخفيف من القتل ، وقرأ آخرون بالتشديد ، من التقتيل على التكثير .
قوله تعالى : { ونستحيي نساءهم } نتركهن أحياء .
قوله تعالى : { وإنا فوقهم قاهرون } ، غالبون قال ابن عباس : كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل له : إنه يولد مولود يذهب بملكك ، فلم يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى بالرسالة ، وكان من أمره ما كان ، فقال فرعون : أعيدوا عليهم القتل ، فأعادوا عليهم القتل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل .
وبعد هذا الحديث الذي ساقته السورة عما دار بين موسى وفرعون ، وبين موسى والسحرة ، والذى انتهى بإيمان السحرة برب العالمين بعد ذلك بدأت السورة تحكى لنا ما قاله الملأ من قوم فرعون بعد هزيمتهم المنكرة ، وما قاله موسى - عليه السلام - لقومه بعد أن بلغهم وعيد فرعون وتهديده لهم ، وما رد به قومه عليه مما يدل على سفاهتهم فقالت : { وَقَالَ الملأ . . . . } .
قوله - تعالى - { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } .
أى : قال الزعماء والوجهاء من قوم فرعون له ، بعد أن أصابتهم الهزيمة والخذلان في معركة الطغيان والإيمان ، قالوا له على سبيل التهييج والإثارة : أتترك موسى وقومه أحراراً آمنين في أرضك ، ليفسدوا فيها بإدخال الناس في دينهم ، أو جعلهم تحت سلطانهم ورياستهم .
روى أنهم قالوا له ذلك بعد أن رأوا عدداً كبيراً من الناس ، قد دخل في الإيمان متبعاً السحرة الذين قالوا { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين } وقوله { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } معناه : أتتركهم أنت يعبدون رب موسى وهارون ، ويتركون عبادتك وعبادة آلهتك ، فيظهر للناس عجزك وعجزها ، فتكون الطامة الكبرى التي بها بفسد ملكك .
قال السدى : إن فرعون كان قد صنع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها ، وسمى نفسه الرب الأعلى .
وقال الحسن إنه كان يعبد الكواكب ويعتقد أنها المربية للعالم السفلى كله ، وهو رب النوع الإنسانى .
وقد قرىء { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } بالنصب والرفع أما النصب فعلى أنه معطوف على { لِيُفْسِدُواْ } وأما الرفع فعلى أنه عطف على { أَتَذَرُ } أو على الاستئناف ، أو على أنه حال بحذف المبتدأ أى : وهو يذرك .
والمتأمل في هذا الكلام الذي حكاه القرآن عن الملأ من قوم فرعون ، يراه يطفح بأشد ألوان التآمر والتحريض . فهم يخوفونه فقدان الهيبة والسلطان بتحطيم الأوهام التي يستخدمها السلطان ، لذا نراه يرد عليهم بمنطق الطغاة المستكبرين فيقول : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .
أى : لا تخافوا ولا ترتاعوا أيها الملأ فإن قوم موسى أهون من ذلك ، وسننزل بهم ما كنا نفعله معهم من قبل وهو تقتيل الأبناء ، وترك النساء أحياء ، وإنا فوقهم غالبون كما كنا ما تغير شىء من حالنا ، فهم الضعفاء ونحن الأقوياء ، وهم الأذلة ونحن الأعزة .
فأنت ترى أن ما قاله الملأ من قوم فرعون هو منطق حاشية السوء في كل عهود الطغيان فهم يرون أن الدعوة إلى وحدانية الله إفساد في الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد . ولأنها هى الدعوة إلى وحدانية الله إفساد في الأرض ، لأنها ستأتى على بنيانهم من القواعد . ولأنها هى الدعوة إلى وحدانية الله التي ستحرر الناس من ظلمهم وجبرتهم ، وتفتح العيون على النور الذي يخشاه أولئك الفاسقون .
وترى أن ما قاله فرعون هو منطق الطغاة المستكبرين دائماً . فهم يلجأون إلى قوتهم المادية ليحموا بها آثامهم ، وشهواتهم ، وسلطانهم القائم على الظلم ، والبطش ، والمنافع الشخصية .
ويبلغ موسى وقومه هذا التهديد والوعيد من فرعون وملئه فماذا قال موسى - عليه السلام - ؟ لقد حكى القرآن عنه أنه لم يحفل بهذا التهديد بل أوصى قومه بالصبر ، ولوح لهم بالنصر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىَ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون : أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل ليفسدوا في الأرض ، يقول : كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر ، وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ يقول : ويذرك : ويدع خدمتك موسى ، وعبادتك وعبادة آلهتك .
وفي قوله : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وجهان من التأويل : أحدهما أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك ؟ وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل كان النصب في قوله : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لا على العطف به على قوله «ليفسدوا » . والثاني : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليذرك وآلهتك كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين . وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه كان نصب : وَيَذَرَكَ على العطف على ليُفْسِدُوا .
والوجه الأوّل أولى الوجهين بالصواب ، وهو أن يكون نصب : وَيَذَرَكَ على الصرف ، لأن التأويل من أهل التأويل به جاء .
وبعد ، فإن في قراءة أُبيّ بن كعب الذي :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج عن هارون ، قال : في حرف أبيّ بن كعب : وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك .
دلالة واضحة على أن نصب ذلك على الصرف .
وقد روى عن الحسن البصريّ أنه كان يقرأ ذلك : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ عطفا بقوله : وَيَذَرَكَ على قوله : أتَذَرُ مُوسَى كأنه وجّه تأويله إلى : أتذرُ موسى وقومه ويذرك وآلهتك ليفسدوا في الأرض ؟ وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها : أتذرُ موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وهو يذرُك وآلهتك ؟ فيكون «يذرُك » مرفوعا على ابتداء الكلام .
وأما قوله : وآلِهَتَكَ فإن قرّاء الأمصار على فتح الألف منها ومدّها ، بمعنى : وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها . وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان له بقرةٌ يعبدوها . وقد رُوى عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها : «وَيَذَرَكَ وإلا هَتَكَ » بكسر الألف ، بمعنى : ويذرك وعبُودتك .
والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها ، هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار لإجماع الحجة من القراء عليها .
ذكر من قال : كان فرعون يعبُد آلهة على قراءة من قرأ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وآلهته فيما زعم ابن عباس ، كانت البقرة كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج لهم عجلاً وبقرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن عمرو ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون جُمَانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا أبان بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : بلغني أن فرعون كان يعبد إلها في السرّ . وقرأ : «وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ » .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن أبي بكر ، عن الحسن ، قال : كان لفرعون إله يعبده في السرّ .
ذكر من قال معنى ذلك : ويذرك وعبادتك ، على قراءة من قرأ : «وإلاهتك » :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو ، عن الحسن ، عن ابن عباس : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يعَبد .
قال ثنا أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه قرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : وعبادتك ، ويقول إنه كان يُعبد ولا يَعبد .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : يترك عبادتك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «وإلاهَتَكَ » يقول : وعبادتك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » قال : عبادتك .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن حسين ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : «وَيَذَرَكَ وإلاهَتَكَ » وقال : إنما كان فرعون يُعبد ولا يَعبد .
وقد زعم بعضهم : أن من قرأ : «وإلاهَتَكَ » إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ : وآلِهَتَكَ غير أنه أنث وهو يريد إلها واحدا ، كأنه يريد «وَيَذَرَكَ وإلاهَكَ » ثم أنث الإله فقال : «وإلاهتك » .
وذكر بعض البصريين أن أعرابيا سُئِل عن الإلاهة فقال : «هي عَلَمة » يريد علما ، فأنث «العلم » ، فكأنه شيء نصب للعبادة يُعبد . وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي :
تَرَوّحْنا منَ اللّعْباءِ عَصْرا ***وأعْجَلْنا الإلاهَةَ أنْ تَئُوبا
يعني بالإلاهة في هذا الموضع : الشمس . وكأن هذا المتأوّل هذا التأويل ، وجّه الإلاهة إذا أدخلت فيها هاء التأنيث ، وهو يريد واحد الاَلهة ، إلى نحو إدخالهم الهاء في وِلْدَتِي وكَوْكَبَتِي ومَاءَتي ، وهو أهْلَة ذاك ، وكما قال الراجز :
يا مُضَرُ الحَمْرَاءِ أنْتِ أُسْرَتِي ***وَأنْتِ مَلْجاتِي وأنْتِ ظَهْرَتي
يريد : ظهري . وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرآ ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك .
وقوله : قالَ سَنُقَتّلُ أبْناءَهُمْ يقول : قال فرعون : سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل . وَنَسْتَحِيي نساءَهُمْ يقول : ونستبقي إناثهم . وَإنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ يقول : وإنا عالون عليهم بالقهر ، يعني بقهر الملك والسلطان . وقد بينا أن كلّ شيء عال بقهر وغلبة على شيء ، فإن العرب تقول : هو فوقه .
{ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك . { ويذرك } عطف على يفسدوا ، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة :
ألم أك جاركم ويكون بيني *** وبينكم المودّة والإخاء
على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك . وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال . وقرئ بالسكون كأنه قيل : يفسدوا ويذرك كقوله تعالى : { فأصدق وأكن } { وآلهتك } معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب . وقيل صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقربا إليه ولذلك قال : { أنا ربكم الأعلى } وقرئ " إلاهتك " أي عبادتك . { قال } فرعون { سنُقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم } كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده . وقرأ ابن كثير ونافع " سنقتل " بالتخفيف . { وإنا فوقهم قاهرون } غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا .
جملة : { قال الملأ } عطف على جملة : { قال فرعون آمنتم به } [ الأعراف : 123 ] أو على جملة { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } [ الأعراف : 109 ] . وإنما عطفت ولم تفصل لأنها خارجة عن المحاورة التي بين فرعون ومن آمن من قومه بموسى وآياته ، لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملأ فرعون ، بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة ، فإنهم لمّا رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون ، ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامَه . وأنه لم يَحرْ جَوَاباً . راموا إيقاظ ذهنه ، وإسعارَ حميته ، فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون ، ولعلهم رأوا منه تأثراً بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده ، فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة : { قال موسى لقومه استعينوا بالله } .
والاستفهام في قوله : { أتذر موسى } مستعمل في الإغراء بإهلاك موسى وقومه والإنكار على الإبطاء بإتلافهم ، وموسى مفعول { تذر } أي تتركه متصرفاً ولا تأخذ على يده .
والكلام على فعل { تذر } تقدم في قوله : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً } في الأنعام ( 70 ) .
وقوم موسى هم من آمن به ، وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومَن آمن من القبط .
واللام في قوله : { ليفسدوا } لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللاً بالفساد ، وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز : شُبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله ، واستعير لذلك المعنى حرفُ اللام عوَضاً عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] .
والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية ، ومغادرة أرض الاستعباد .
و { الأرض } مملكة فرعون وهي قطر مصر .
وقوله : { ويذَرَك } عطف على { ليفسدوا } فهو داخلي التعليل المجازي ، لأنّ هذا حاصل في بقائهم دون شك ، ومعنى تركهم فرعون ، تركهم تأليهه وتعظيمه ، ومعنى ترك آلهته نبذُهم عبادتَها ونهيُهم الناس عن عبادتها .
والآلهة جمع إله ، ووزنه أفعلة ، وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صوراً عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار ، أشهرها ( فتاح ) وهو أعظمها عندهم وكان يُعبد بمدينة ( مَنْفيس ) ، ومنها ( رع ) وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس ، ومنها ( ازيريس ) و ( إزيس ) و ( هوروس ) وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن ، ومنها ( توت ) وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة ، ومنها ( أمُون رع ) فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم .
وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل ( إيبيس ) ومثل الجعران وهو الجُعل .
وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعونُ إلى بُنوتهِ وخدمته ، وكان فرعون معدوداً ابنَ الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول ، ففرعون هو المنفذ للدين ، وكان يعد إله مصر ، وكانت طاعته طاعة للآلهة كما حكى الله تعالى عنه : { فقال أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] { ما علمْتُ لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] . وتوعُد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء ، والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه ، فالإضافة على معنى ( من ) التبعيضية .
وقرأ نافع وابن كثير ، وأبو جعفر : { سنقتل } بفتح النون وسكون القاف وضم التاء وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب .
والاستحياء : مبالغة في الإحياء ، فالسين والتاء فيه للمبالغة ، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه ، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يُبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن ، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدماً .
وجملة : { وإنّا فوقهم قاهرون } اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه ، أي : هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر : الغالب بإذلال .
و { فوقهم } مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة { فوقهم } مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره ، فهي تمثيلية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون: أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل ليفسدوا في الأرض، يقول: كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر، "وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ "يقول: ويذرك: ويدع خدمتك موسى وعبادتك وعبادة آلهتك.
وفي قوله: وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ وجهان من التأويل: أحدهما أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك؟
والثاني: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وليذرك وآلهتك كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين... وقوله: "قالَ سَنُقَتّلُ أبْناءَهُمْ" يقول: قال فرعون: سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل. "وَنَسْتَحِيي نساءَهُمْ" يقول: ونستبقي إناثهم. "وَإنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ" يقول: وإنا عالون عليهم بالقهر، يعني بقهر الملك والسلطان. وقد بينا أن كلّ شيء عال بقهر وغلبة على شيء، فإن العرب تقول: هو فوقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {وإنا فوقهم قاهرون} قيل: مسلّطون عليهم.
فإن قيل له: ما الحكمة في ذكر هذه القصص والأنباء السالفة في القرآن؟ قيل: لوجوه، والله أعلم.
أحدها: أن فيها دليل إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته؛ لأن في هذه القصص والأنباء كانت في كتبهم مبيّنة، وقد علموا أن لسانه كان على غير ما كانت كتبهم، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك ليتعلم منه، ولا سمع عن أحد منهم، ثم أنبأهم على ما كانت. دل أنه إنما عرف ذلك بمن يعلم علم الغيب.
والثاني: أن البشر جبلوا على حبّ السّماع إلى الأخبار والأحاديث، وحبّب ذلك إلى قلوبهم حتى إن واحدا منهم يولّد أحاديث، وينشئها من ذات نفسه لأن يستمعوا في ذلك إليه، ويسمعوا منه فذكر لهم هذه الأنباء والقصص ليكون استماعهم إليها وسماعهم لها. وذلك أحسن وأوفق؛ إذ أخبر أن ذلك أحسن القصص بقوله تعالى: {نحن نقصّ عليك أحسن القصص} [يوسف: 3].
والثالث: ذكر لهم هذا ليعلموا ما حل بهم في العاقبة من الهلاك والاستئصال وأنواع العذاب بفسادهم وتكذيبهم الرسل، ومال عاقبة المفسد منهم والمصلح ليكون ذلك زجرا لهم عن صنيع مثلهم.
والرابع: ذكر ليعرفوا كيف كانت معاملة الأنبياء والرسل أعداءهم ومعاملة الأعداء الرسل ليعاملوا أعداءهم مثل معاملتهم.
والخامس: أنهم كانوا ينكرون أن يكون من البشر رسول، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا كلهم من البشر.
والسادس: أنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان، ويقولون: {بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} [الشعراء: 74] [ويقولون]: {وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23] فأخبر أن في آبائهم السعداء، وهم الأنبياء، والأشقياء، فكيف اقتديتم أنتم بالأشقياء منهم؟ وهلاّ اتبعتم السعداء دون الأشقياء.
والسابع: فيها أن كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ عرّفنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن يأمر به، ومن ينهى عنه، وأيضا أن فيه ذكر الصالحين منهم، بعدما ماتوا، وانقرضوا كانوا بالذكر كالأحياء.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وفي قوله: {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} وجهان: أحدهما: ليفسدوا فيها بعبادة غيرك والدعاء إلى خلاف دينك. والثاني: ليفسدوا فيها بالغلبة عليها وأخذ قومه منها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في هذه الآية إخبار عن إنكار قوم فرعون وأشرافهم ورؤسائهم على فرعون تركه موسى وقومه ليفسدوا في الأرض على اعتقادهم، وإنما أنكروا على فرعون ذلك مع عبادتهم له، لأنه جرى على خلاف عادة الملوك في السطوة بمن خالف عليهم وشق العصا في ملكهم، وكان ذلك بلطف من الله تعالى وحسن دفاعه عن موسى. وعنوا بالإفساد في الأرض دعاء الخلق إلى مخالفة فرعون في عبادته وتجهيله إياه في ديانته لما يتفق عليه من ذلك مما لا قبل له به مما فيه انتقاض أمره وبطلان ملكه. وقوله تعالى "سنقتل أبناءهم "إنما تهددهم بقتل أبنائهم مع أن موسى هو الذي دعاهم إلى الله دونهم من حيث أنه لم يطمع فيه، لما رأى من قوة أمره وعلو شأنه فعدل إلى ضعفاء بني إسرائيل بقتل أبنائهم ليوهم أنه يتم له ذلك فيهم. وقوله تعالى "ونستحيي نساءهم" معناه نستبقي من تولد من بناتهم للمهنة والخدمة من غير أن يكون لهم نجدة ولا عندهم منعة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقول ملأ فرعون {أتذر موسى وقومه} مقالة تتضمن إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم أو تغيير ما بهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون، ومعنى {أتذر موسى}: أتترك..
وقوله تعالى: {وإنا فوقهم قاهرون} يريد في المنزلة والتمكن من الدنيا، و {قاهرون} يقتضي تحقير أمرهم أي هم أقل من أن يهتم بهم.
اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه، بل خلى سبيله فقال قومه له: {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض}. واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك، فحملوه على أخذه وحبسه. وقوله: {ليفسدوا في الأرض} أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه، وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك. واعلم أن على جميع الوجوه والاحتمالات فالقوم أرادوا بذكر هذا الكلام حمل فرعون على أخذ موسى عليه السلام، وحبسه، وإنزال أنواع العذاب به، فعند هذا لم يذكر فرعون ما هو حقيقة الحال وهو كونه خائفا من موسى عليه السلام.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ليفسدوا} أي للإفساد ولتركك وترك آلهتك، وكان التّرك هو لذلك وبدؤوا أوّلاً بالعلة العامة وهي الإفساد ثم اتبعوه بالخاصة ليدلّوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضاً يؤول إلى شيء يختصّ بفرعون، قدحوا بذلك زند تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم إذ هم الأشراف وبترك موسى وقومه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قنع فرعون في ذلك الوقت الذي بهرت قومه تلك المعجزة الظاهرة بالانفصال على هذا الوجه الذي لم يدع فيه حيلة إلا خيل بها، وخلص موسى عليه السلام بقومه متمكناً منهم بعض التمكن، وكان السياق لبيان أن أكثر الخلق فاسق، أخبر تعالى بما قال قوم فرعون بعدما رأوا من المعجز القاهر دليلاً على ذلك، فقال عاطفاً على {وألقي السحرة ساجدين} وما بعده، أو على قول فرعون: {وقال الملأ} أي الأشراف {من قوم فرعون} أي ظانين أن فرعون متمكن مما يريد بموسى عليه السلام من الأذى منكرين لما وصل إليه الحال من أمر موسى عليه السلام حين فعل ما فعل وآمن به السحرة، وما عمل فرعون شيئاً، لا قتله ولا حبسه، لأنه كان لا يقدر على ذلك ولا يعترف به لقومه {أتذر موسى وقومه}. ولما كان ما كان في أول مجلس من إيمان السحرة جديراً بأن يجر إليه أمثاله، سموه فساداً وجعلوه مقصوداً لفرعون إحماء له واستغضاباً فقالوا: {ليفسدوا} أي يوقعوا الفساد وهو تغيير الدين {في الأرض} أي التي هي الأرض كلها، وهي أرضنا هذه، أو الأرض كلها، لكون مثل هذا الفعل جديراً برد أهل الأرض كلهم عن عقائدهم {ويذرك وآلهتك}... والحاصل أنهم عيروه بالرضى بأن يكون رئيساً على القبط وموسى عليه السلام رئيساً 574 على بني إسرائيل فيكونوا بهذه المتاركة أكفاء للقبط. ولما أعجزه الله سبحانه أن يفعل بهم أكثر مما كان يعمل قبل مجيء موسى عليه السلام لما يراد به من الاستدراج إلى الهلاك، أخبر عنه سبحانه بما يفهم ذلك فقال مستأنفاً: {قال} أي فرعون {سنقتل} أي تقتيلاً كثيراً {أبناءهم} أي كما كنا نفعل {ونستحيي نساءهم} أي نبقيهم أحياء إذلالاً لهم وأمناً من غائلتهم في المستقبل {وإنا فوقهم} أي الآن {قاهرون} ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظرة لئلا تتوهم العامة أنه المولود الذي تحدث المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده فيثبطهم ذلك عن الطاعة، موهماً بهذا أن تركه لأذى موسى عليه السلام لعدم التفاته؟ إليه، لا يعجزه شيء عنه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
خاف ملأ فرعون عاقبة تركه لموسى حرا مطلقا في مصر فكلموه في ذلك وقد أخبرنا الله تعالى بما قالوه له وما أجابهم به وما كان من تأثير جوابه في موسى وقومه من نصحه لهم وما دار بين موسى وبينهم في ذلك فقال: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك} أي قالوا له أتترك موسى وقومه أحرارا آمنين لتكون عاقبتهم أن يفسدوا قومك عليك في أرض مصر بإدخالهم في دينهم، أو جعلهم تحت سلطانهم ورياستهم، ويتركك مع آلهتك كالشيء اللقا، فيظهر للمصريين عجزك وعجزها، وقد رأيت ما كان من أمر إيمان السحرة – إذ الظاهر من السياق أن هذا القول كان بعد قصة السحرة- وسيأتي ما فيه. وجمهور المفسرين على المراد بتركه وآلهته عدم عبادته وعبادتها، وقرأ ابن عباس "وإلاهتك "أي عبادتك...
{قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون} أي قال مجيبا للملأ سنقتل أبناء قومه تقتيلا ما تناسلوا– فتعبيره بالتقتيل يدل على التكثير والتدريج- ونستبقي نساءهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ولادته حتى ينقرضوا. {وإنّا فوقهم قاهرون} وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان قاهرون لهم كما كنا من قبل فلا يستطيعون إفسادا في أرضنا، ولا خروجا من حظيرة تعبيدنا. وفي سورة المؤمن {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه إنّي أخاف أن يبدّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26] وهو يدل على أنه كان لديه من يدافع عن موسى ممن آمن به سرا وممن كان يحبه وإن لم يؤمن به فقد قال تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39] وفيه تصريح بما كان له في أنفس المصريين من المحبة والاحترام.
وقد حكى الله تعالى لنا دفاع واحد ممن آمن به فقال: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي اللّه وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الّذي يعدكم إنّ اللّه لا يهدي من هو مسرف كذّاب} [غافر: 28]
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالإفساد في الأرض -من وجهة نظرهم- هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده؛ حيث يترتب عليها تلقائياً بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله. إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره -أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه فإذا عبد موسى وقومه رب العالمين. وتركوا هذه الآلهة التي يعبدها المصريون، فمعنى هذا هو تحطيم الأساس الذي يستمد منه فرعون سلطانه الروحي على شعبه المستخف؛ الذي إنما يطيعه لأنه هو كذلك فاسق عن دين الله الصحيح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملأ فرعون، بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة، فإنهم لمّا رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون، ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامَه. وأنه لم يَحرْ جَوَاباً. راموا إيقاظ ذهنه، وإسعارَ حميته، فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون، ولعلهم رأوا منه تأثراً بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده، فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة: {قال موسى لقومه استعينوا بالله} ...
... والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية، ومغادرة أرض الاستعباد.
.. والاستحياء: مبالغة في الإحياء، فالسين والتاء فيه للمبالغة، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يُبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدماً.
وجملة: {وإنّا فوقهم قاهرون} اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه، أي: هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر: الغالب بإذلال.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هكذا حرضوا فرعون على بني إسرائيل ذلك التحريض الخبيث ليزدلفوا إليه، وكذلك الحاشية المفسدة تسبق إلى فكر الطاغي، ليتوهم إخلاصهم له، وما هم إلا الممالئون المنافقون الكاذبون، ولم يكتفوا بالتحريض على بني إسرائيل، بل علا التحريض إلى موسى، وجاءوه من جهة ما، فقالوا عن موسى: {ويذرك وآلهتك}. أي بترك موسى، فيخرج عليك غير طائع لك، بل معاند، ومهاجر بالمخالفة وإنكار ألوهيتك، في أول دعوته ويترك آلهتك... والمعنى لا ينبغي أن تتركه وقد ترك بالخروج عليك، وعلى آلهتك المقدسة، وقال: إن الله واحد أحد. استجاب فرعون الطاغي لهم، لأنها رغبته، وقد سبقوه إلى ذكرها، ممالئين مزدلفين إليه بالباطل. قال: {سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون}. قال سنقتل الأبناء ونترك النساء، وسمى تركه النساء استحياء لهن، وهو لا يحيي ولا يميت، تركهن ليكن جواري وخدما في البيوت، وأكد قدرته على ذلك وإذلاله لهم بقوله وإنا فوقهم، المسيطرون عليهم، الذين نستطيع استئصال من نحب، وإبقاء من نحب أذلاء مقهورين، وهنا قد يسأل سائل: لماذا ترك موسى وهو الرأس فلم يقتله وأخاه؟. ونقول في الإجابة عن ذلك: إن موسى تربى في قصر فرعون، فكان له فيه أولياء، وكان على رأسهم امرأة فرعون، فكانوا يخذلونه عن أن ينزل به أذى، أو يقتله مثلا. وإن لموسى هيبة ورهبة في نفس فرعون تمنعه من أن ينزل به ما يريد، وهو يرى الآيات تجري على يديه وهو إن لم يؤمن بها أفزعته، وأرهبته. وإن مثل أوليائه من آل فرعون، كمثل أبي طالب في حمايته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أذى قريش وأن ينالوا منه، وهكذا يؤيد الله تعالى رسله ببعض خلقه.