48- وهو الذي سخر الرياح فتسوق السحب وتبشر الناس بالمطر الذي هو رحمة منه لهم ، ولقد أنزلنا من السماء ماء طاهراً مُطهراً مزيلا للأنجاس والأوساخ{[158]} .
قوله تعالى :{ وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته } يعني المطر { وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً } والطهور :هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، فهو اسم لما يتطهر به ، كالسحور اسم لما يتسحر به ، والفطور اسم لما يفطر به ، والدليل عليه ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وأراد به المطهر ، فالماء مطهر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة ، كما قال في آية أخرى : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } فثبت به أن التطهير يختص بالماء . وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور هو الطاهر ، حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة ، مثل الخل وماء الورد والمرق ونحوها . ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها . وذهب بعضهم إلى أن الطهور ما يتكرر منه التطهير ، كالصبور اسم لمن يتكرر منه الصبر ، والشكور اسم لمن يتكرر منه الشكر ، وهو قول مالك ، حتى جوز الوضوء بالماء الذي توضأ منه مرة . وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته أم لا نظر : إن كان الواقع شيئاً لا يمكن صون الماء عنه ، كالطين والتراب وأوراق الأشجار ، لا يزول ، فيجوز الطهارة به كما لو تغير لطول المكث في قراره ، وكذلك لو وقع فيه ما لا يخالطه ، كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته يجوز الطهارة به ، لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة . وإن كان شيئاً يمكن صون الماء منه ويخالطه كالخل والزعفران ونحوهما تزول طهوريته فلا يجوز الوضوء به . وإن لم يتغير أحد أوصافه ، ينظر : إن كان الواقع فيه شيئاً طاهراً لا تزول طهوريته ، فتجوز الطهارة به ، سواء كان الماء قليلاً أو كثيراً ، وإن كان الواقع فيه شيئاً نجساً ، ينظر : فإن كان الماء قليلاً أقل من القلتين ينجس الماء ، وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به . والقلتان خمس قرب ، ووزنه خمسمائة رطل ، والدليل عليه .
ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسين الجيري ، أنبأنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد الرحيم بن المنيب ، أنا جرير عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث وهذا قول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وجماعة من أهل الحديث : إن الماء إذا بلغ هذا الحد فلا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة . وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه ، وهو قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري . واحتجوا بما أخبرنا أبو القاسم ابن عبد الله بن محمد الحنفي ، أنبأنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري ، حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن الحكيم ، حدثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه ، حدثنا صدقة ابن الفضل ، أنبأنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله ابن عبد الرحمن ، حدثنا رافع بن خديج ، عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيه الحيض ولحوم الكلاب والنتن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الماء طهور " لا ينجسه شيء .
ثم ذكر - سبحانه - نعمته فى الرياح ، حيث تكون بشيرا بالأمطار التى تحييى الأرض بعد موتها ، فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } .
وبشرا : أى : مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق .
أى : وهو - سبحانه - الذى أرسل - بقدرته - الرياح لتكون بشيرا لعباده بقرب نزول رحمته المتمثلة فى الغيث الذى به حياة الناس والأنعام وغيرهما .
قال الجمل : " الرياح " أى : المبشرات وهى الصبا - وتأتى من جهة مطلع الشمس - والجنوب والشمال ، والدبور - وتأتى من ناحية مغرب الشمس - وفى قراءة سبعية : وهو الذى أرسل الريح .
. . على إرادة الجنس ، و " بشرا " قرىء بسكون الشين وضمها وقرىء - أيضا - نشرا ، أى : متفرقة قدام المطر .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعال - : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولي الحميد } ثم ذكر - سبحانه - ما ترتب على إرسال الرياح من خير فقال : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً . . } .
أى : وأنزلنا من السماء ماء طاهرا فى ذاته ، مطهرا لغيره ، سائغا فى شربه ، نافعا للإنسان والحيوان والنبات والطيور وغير ذلك من المخلوقات .
ووصف - سبحانه - الماء بالطهور زيادة فى الإشعار بالنعمة وزيادة فى إتمام المنة ، فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما ليس كذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً طَهُوراً * لّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيّ كَثِيراً } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي أرسل الرياح الملقحة بُشْرا : حياة أو من الحيا والغيث الذي هو منزله على عباده وأنْزَلْنا مِنَ السّماءِ ماءً طَهُورا يقول : وأنزلنا من السحاب الذي أنشأناه بالرياح من فوقكم أيها الناس ماء طهورا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتا يعني أرضا قَحِطة عذية لا تُنبت . وقال بَلْدَةً مَيْتا ولم يقل ميتة ، لأنه أريد بذلك لنحيي به موضعا ومكانا ميتا وَنُسْقِيَهُ من خلقنا أنْعَاما من البهائم وَأنَاسِيّ كَثِيرا يعني الأناسيّ : جمع إنسان وجمع أناسي ، فجعل الياء عوضا من النون التي في إنسان ، وقد يجمع إنسان : إناسين ، كما يجمع النَشْيان : نشايين . فإن قيل : أناسيّ جمع واحده إنسي ، فهو مذهب أيضا محكي ، وقد يجمع أناسي مخففة الياء ، وكأن من جمع ذلك كذلك أسقط الياء التي بين عين الفعل ولامه ، كما يجمع القرقور : قراقير وقراقر . ومما يصحح جمعهم إياه بالتخفيف ، قول العبرب : أناسية كثيرة .
{ وهو الذي أرسل الرياح } وقرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس . { نشرا } ناشرات للحساب جمع نشور ، وقرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف وحمزة والكسائي به وبفتح النون على أنه مصدر وصف به وعاصم { بشرا } تخفيف بشر جمع بشور بمعنى مبشر { بين يدي رحمته } يعني قدام المطر . { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } مطهرا لقوله { ليطهركم به } . وهو اسم لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به . قال عليه الصلاة والسلام " التراب طهور المؤمن " ، " طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا إحداهن بالتراب " . وقيل بليغا في الطهارة وفعول وإن غلب في المعنيين لكنه قد جاء للمفعول كالضبوث وللمصدر كالقبول وللاسم كالذنوب ، وتوصيف الماء به إشعارا بالنعمة فيه وتتميم للمنة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته ، وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها فبواطنهم بذلك أولى .
قرأت فرقة «الرياح » ، وقرأت فرقة «الريح » على الجنس ، فهي بمعنى الرياح وقد نسبنا القراءة في سورة الأعراف وقراءة الجمع أوجه{[8834]} لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب ، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح ، لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب{[8834]} وتتفرق وتأتي لينة من ها هنا وها هنا ، وشيئاً إثر شيء ، وريح العذاب خرجت{[8836]} لا تتداءب وإنما تأتي جسداً واحداً ، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه ، قال الرماني جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والشمال وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور .
قال القاضي أبو محمد : يرد{[8837]} على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً{[8838]} ، واختلف القراء في «النشر » ، في النون والباء{[8839]} وغير ذلك اختلافاً قد ذكرناه في سورة الأعراف{[8840]} ، و { نشراً } معناه منتشرة متفرقة و «الطهور » بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضته في ماء السماء وفي كل ما هو منه وبسبيله أن يكون طاهراً مطهراً وفيما كثرت فيه التغايير ، كماء الورد وعصير العنب أن يكون طاهراً ولا مطهراً .