البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا} (48)

وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة .

قال ابن عطية : وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب ، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرّق وتأتي لينة ومن ههنا وههنا وشيئاً اثر شيء ، وريح العذاب خرجت لاتتداءب وإنما تأتي جسداً واحداً .

ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه .

قال الرماني : جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح : الجنوب ، والصبا ، والشمال .

وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور .

قال أي ابن عطية : يرد هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا هبت الريح : « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » انتهى .

ولا يسوغ أن يقال : هذه القراءة أوجه لأنه كلاً من القراءتين متواتر والألف واللام في الريح للجنس فتعم ، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنه يجوز أن يريد بقوله عليه السلام : « رياحاً » الثلاثة اللواقح وبقوله « ولا تجعلها ريحاً » الدبور .

فيكون ما قاله الرماني مطابقاً للحديث على هذا المفهوم .

وتقدم الخلاف في قراءة { نشراً } وفي مدلوله في الأعراف { بين يدي رحمته } استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلماً به .

والطهور فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر ، وإما أن يكون اسماً لما يتطهر به كالسحور والفطور ، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه .

والظاهر في قوله { ماء طهوراً } أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه ، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر .

وقال ثعلب : هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، فإن كان ما قاله شرحاً لمبالغته في الطهارة كان سديداً ويعضده { وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به } وإلاّ ففعول لا يكون بمعنى مفعل ، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } وقال الشاعر :

إلى رحج الأكفال غيد من الظبا *** عذاب الثنايا ريقهنّ طهور