السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۚ وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا} (48)

ثم ذكر النوع الثالث بقوله تعالى : { وهو } أي : وحده { الذي أرسل الرياح } وقرأه ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس وقرأه الباقون بالجمع لكونها تارة صبا وتارة دبوراً وتارة شمالاً وتارة جنوباً وغير ذلك ، ويسن الدعاء عند هبوب الريح ويكره سبها لخبر «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها ، واستعيذوا بالله من شرها » رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن ، وقوله تعالى : { نشراً } قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي : ناشرات للسحاب ، وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين على التخفيف ، وقرأه عاصم بالباء الموحدة مضمومة وسكون الشين جمع بشور بمعنى مبشر ، وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به { بين يدي رحمته } أي : قدام المطر ، ولما كان الماء مسبباً عما تحمله الريح من السحاب أتبعه به بقوله تعالى : { وأنزلنا } أي : بما لنا من العظمة { من السماء } أي : من السحاب أو الجرم المعهود { ماء } ثم أبدل منه بياناً للنعمة به ، فقال تعالى : { طهوراً } أي : طاهراً في نفسه مطهراً لغيره كما قال تعالى في آية أخرى : { ليطهّركم به } ( الأنفال ، 11 ) ، فهو اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به ، وكالسحور اسم لما يتسحر به والفطور اسم لما يفطر به . قال صلى الله عليه وسلم في البحر : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته » أراد به المطهر فالماء المطهر ؛ لأنه يطهر الإنسان من الحدث والخبث .

وذهب بعض الأئمة إلى أن الطهور هو الطاهر حتى جوّز إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل ، وردّ بأنه لو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها ، وذهب بعض منهم إلى أن الطهور ما يتكرر به التطهير ، كالصبور اسم لمن يتكرر منه الصبر ، والشكور اسم لمن يتكرر منه الشكر ، حتى جوّز الوضوء بالماء الذي يتوضأ به مرة بعد مرة وردَّ بأن فعولاً يأتي اسماً للآلة كسحور لما يتسحر به كما مر فيجوز أن يكون طهور كذلك ، ولو سلم اقتضاؤه التكرر فالمراد جمعاً بين الأدلة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا الماء في أسفارهم القليلة الماء ، بل عدلوا عنه إلى التيمم ثبوت ذلك لجنس الماء أو في المحل الذي كان يمر عليه فإنه يطهر كل جزء منه .