185- لقد كذبوا محمدا فيما يدعوهم إليه من توحيد ، ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال في ملك الله العظيم للسماوات والأرض وما فيها ، مما يدل على كمال قدرة الصانع ووحدانيته ، ولم يفكروا في أنه قد اقترب أجلهم ، أو عسى أن يكون قد اقترب ، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق قبل مفاجأة الأجل ، فإذا لم يؤمنوا بالقرآن فبأي كلام يؤمنون بعده ؟
ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال : { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله } فيهما .
قوله تعالى : { من شيء } ، أي : وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته .
قوله تعالى : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } أي : لعل أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا ، ويصيروا إلى العذاب .
قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } ، أي : بعد القرآن يؤمنون ، يقول : بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون ، وليس بعده نبي ولا كتاب .
ثم دعاهم القرآن إلى النظر والاستدلال العقلى قال : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } .
الملكوت : هو الملك العظيم زيدت فيه اللام والتاء للمبالغة كما في جبروت .
والجملة الكريمة مسوقة لتوبيخهم على إخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينية إثر تقريعهم على عدم تفكرهم في أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم .
أى : أكذبوا ولم يتفكروا في شان رسولهم صلى الله عليه وسلم وما هو عليه من كمال العقل ، ولم ينظروا نظر تأمل واعتبار واستدلال في ملكوت السموات من الشمس والقمر والنجوم وغيرها ، وفى ملكوت الأرض من البحار والجبال والجواب وغيرها ، ولم ينظروا كذلك فيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشىء من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف مما يشهد بأن لهذا الكون خالقا قادرا هو المستحق وحده للعبادة والخضوع .
وقوله { مِن شَيْءٍ } بيان " لما " وفى ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض ، بل كل ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده .
وقوله : { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } في محل جر معطوف على ما قبله ، و { أَنْ } مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ، وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو { أَن يَكُونَ } .
والمعنى : أولم ينظروا - أيضا - في اقتراب آجالهم ، وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت لهم ونزول العذاب بهم وهم في أتعس حال .
إنهم لو تفكروا في أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم ولو نظروا فيما خلق الله من مخلوقات بعين التدبر والاتعاظ ، لآمنوا وهدوا إلى صراط العزيز الحميد .
وقوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } أى : إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو أكمل كتب الله بيانا ، وأقواها برهانا ، فبأى كلام بعده يؤمنون ؟
والجملة الكريمة مسوقة للتعجب من أحوالهم . ولقطع أى أمل في إيمانهم لأنهم ما داموا لم يؤمنوا بهذا الرسول المؤيد بالمعجزات ، وبهذا الكلام المعجز الجامع لكل ما يفيد الهداية ، فأخرى بهم ألا يؤمنوا بغير ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله في مُلك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض وفيما خلق جلّ ثناؤه من شيء فيهما ، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ويعلموا أن ذلك ممن لا نظير له ولا شبيه ، ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلاّ له ، فيؤمنوا به ويصدّقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته ويخلعوا الأنداد والأوثان ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه .
وقوله : فَبِأيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يقول : فبأيّ تجويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدّقون ، إن لم يصدّقوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى .
{ أوَ لم ينظروا } نظر استدلال . { في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه . { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم ، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب . { فبأي حديث بعده } أي بعد القرآن . { يؤمنون } إذا لم يؤمنوا به ، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر . وقيل هو متعلق بقوله : عسى أن يكون ، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن ، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به .
وقوله تعالى : { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } الآية ، هذا أيضاً توبيخ للكفار وتقرير ، والنظر هنا بالقلب عبرة وفكراً ، و { ملكوت } بناء عظمة ومبالغة ، وقوله : { وما خلق الله من شيء } لفظ يعم جميع ما ينظر فيه ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع ومن نفس الإنس وحواسه ومواضع رزقه ، و «الشيء » واقع على الموجودات ، وقوله : { وإن عسى } عطف على قوله : { في ملكوت } و { أن } الثاني في موضع رفع ب { عسى } ، والمعنى توقيفهم على أن لم يقع لهم نظر في شيء من هذا ولا في أنه قربت آجالهم فماتوا ففات أوان ا?ستدراك ووجب عليهم المحذور ، ثم وقفهم بأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر : [ الطويل ]
وعن أي نفس بعد نفسي أقاتل*** والضمير في قوله : { بعده } يراد به القرآن ، وقيل المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وقصته وأمره أجمع ، وقيل هو عائد على الأجل بعد الأجل إذ لا عمل بعد الموت .