قوله تعالى : { وقال نسوة في المدينة } الآية . يقول : شاع أمر يوسف والمرأة في المدينة مدينة مصر . وقيل : مدينه عين الشمس ، وتحدث النساء بذلك وقلن - وهن خمس نسوة : امرأة حاجب الملك ، وامرأة صاحب الدواب ، وامرأة الخباز ، وامرأة الساقي ، وامرأة صاحب السجن ، قاله مقاتل . وقيل : هن نسوة من أشراف مصر : { امرأة العزيز تراود فتاها } ، أي : عبدها الكنعاني ، { عن نفسه } ، أي : تطلب من عبدها الفاحشة ، { قد شغفها حباً } ، أي : علقها حبا . قال الكلبي : حجب حبه قلبها حتى لا تفعل سواه . وقيل : أحبته حتى دخلها حبه شغاف قلبها ، أي : داخل قلبها . وقال السدي : الشغاف جلدة رقيقة على القلب ، يقول : دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب . وقرأ الشعبي و الأعرج : { شغفها } بالعين غير المعجمة ، معناه : ذهب الحب بها كل مذهب . ومنه شغف الجبال وهو رؤوسها . { إنا لنراك في ضلال مبين } ، أي : خطأ ظاهر . وقيل : معناه إنها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر .
ثم حكت السورة الكريمة بعد ذلك ما قالته بعض النساء ، بعد ان شاع خبر امرأة العزيز مع فتاها ، وما فعلته معهن من أفعال تدل على شدة مكرها ودهائها ، وما قاله يوسف - عليه السلام - بعد أن سمع من تهديدهن وإغرائهن . . قال - تعالى - :
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز . . . } .
قوله - سبحانه - { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ . . } حكاية لما تناقلته الألسنة عن امرأة العزيز ، فقد جرت العادة بين النساء ، أن يتحدثن عن أمثال هذه الأمور في مجالسهن ، ولا يكتمنها خصوصا إذا كانت صاحبة الحادثة من نساء الطبقة المرموقة . . كامرأة العزيز .
والنسوة : اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ومفرده حيث المعنى : امرأة .
والمراد بالمدينة : مدينة مصر التي كان يعيش فيها العزيز زوجته والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لنسوة .
أى : وقال نسوة من نساء مدينة مصر - على سبيل النقد والتشهير والتعجب - إن امرأة العزيز ، صاحبة المكانة العالية ، والمنزلة الرفيعة ، بلغ بها الحال في انقيادها لهواها ، وفى خروجها عن طريق العفة . . أنها تراود فتاها عن نفسه ، أى : تطلب منه مواقعتها ، وتتخذ لبلوغ غرضها شتى الوسائل والحيل .
ولم يبين لنا القرآن الكريم عدد هؤلاء النسوة ولا صفاتهم ، لأنه لا يتعلق بذلك غرض نافع ، ولأن الذي يهدف إليه القرآن الكريم هو بيان ما حدث بين يوسف وامرأة العزيز ، قد شاع أمره بين عدد من النساء في مدينة كبيرة كمصر وفى وصفها بأنها { امرأة العزيز } زيادة في التشهير بها . فقد جرت العادة بين الناس ، بأن ما يتعلق بأصحاب المناصب الرفيعة من أحداث ، يكون أكثر انتشارا بينهم ، وأشد في النقد والتجريح .
والتعبير بالمضارع في قوله - سبحانه - { تُرَاوِدُ } يشعر بأنها كانت مستمرة على ذلك ، دون أن يمنعها منه افتضاح أمرها ، وقول زوجها لها { واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين }
والمراد بفتاها يوسف - عليه السلام - ووصفْتَه بذلك لأنه كان في خدمتها ، والمبالغة في رميها بسوء السلوك ، حيث بلغ بها الحال في احتقار نفسها ، أن تكون مراودة لشخص هو خادم لها . .
وجملة { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } بيان لحالها معه ، وهى في محل نصل حال من فاعل تراود أو من مفعوله والمقصود بها تكرير لومها ، وتأكيد انقيادها لشهواتها .
وشغف مأخوذ من الشغاف - بكسر الشين - وهو غلاف القلب ، أو سويداؤه أو حجابه ، يقال : شغف الهوىو قلب فلان شغفا ، أى بلغ شغافه .
والمراد أن حبها إياه قد شق شغاف قلبها . وتمكن منه تمكنا لا مزيد عليه و " حبا " تمييز محول عن الفاعل ، والأصل : شغفها حبها إياه .
وجملة { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } مقررة لمضمون ما قبلها من لوم امرأة العزيز ، وتحقير سلوكها ، والمراد بالضلال : مخالفة طريق الصواب .
أى : إنا لنرى هذه المرأة بعين بصيرتنا ، وصادق علمنا . في خطأ عظيم واضح بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، لأنها - وهى المرأة المرموقة وزوجة الرجل الكبير - تراود خادمها عن نفسه .
والتعبير " بإنا لنراها . . " للإِشعار بأن حكمهن عليها بالضلال ليس عن جهل ، وإنما هو عن علم ورورية ، مع التلويح بأنهن يتنزهن عن مثل هذا الضلال المبين الصادر عنها .
قال صاحب المنار : " وهن ما قلن هذا إنكارا للمنكر ، وكرها للرذيلة ، ولا حبا في المعروف ، ونصرا للفضيلة ، وإنما قلنه مكرا وحيلة ، ليصل إليها قولهن فيحملها على دعوتهن ، وإراءتهن بأعين أبصارهن ، ما يبطل ما يدعين رؤيته بأعين بصائرهن ، فيعذرنها فيما عذلنها عليه فهو مكر لا رأى " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : وتحدّث النساء بأمر يوسف ، وأمر امرأة العزيز في مدينة مصر ، وشاع من أمرهما فيها ما كان ، فلم ينكتم ، وقلن : { امرأة العزيز تراود فتاها } : عبدها ، عن نفسه : كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وشاع الحديث في القرية ، وتحدّث النساء بأمره وأمرها ، وقلن : { امْرأةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ } ، أي : عبدها .
وأما العزيز فإنه الملك في كلام العرب ، ومنه قول أبي دؤاد :
دُرّةٌ غاصَ عَلَيْها تاجِرٌ *** جُلِيَتْ عنْدَ عَزِيزٍ يَوْمَ طَلّ
يعني بالعزيز : الملك ، وهو من العزّة .
وقوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول قد وصل حثّ يوسف إلى شغاف قلبها ، فدخل تحته حتى غلب على قلبها . وشغاف القلب : حجابه وغلافه الذي هو فيه ، وإياه عَنى النابغة الذبياني بقوله :
وَقَدْ حالَ هَمّ دُونَ ذلكَ داخِلٌ *** دُخُولَ شُغافٍ تَبْتَغِيهِ الأصَابِعُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول في قوله : { شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه تحت الشغاف .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه في شغافها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : دخل حبه في شغافها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : كان حبه في شغافها .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث الحسن بن محمد ، عن شبابة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول : علقها حبّا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : غلبها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه عن أيوب بن عائذ الطائي عن الشعبي : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : المشغوف : المحبّ ، والمشعوف : المجنون .
وبه قال : حدثنا أبي ، عن أبي الأشهب ، عن أبي رجاء والحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : أحدهما : قد بطنها حبا ، وقال الاَخر : قد صدقها حبا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد بطنها حبّا . قال يعقوب : قال أبو بشر : أهل المدينة يقولون : قد بطنها حبّا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قال : سمعته يقول في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطنها حبّا . وأهل المدينة يقولون ذلك .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن قرة ، عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد بطن بها حبّا .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطنها حبه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . عن الحسن : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : بطن بها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : استبطنها حبها إياه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، أي : قد علقها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : قد علقها حبّا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هو الحبّ اللازق بالقلب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، يقول : هلكت عليه حبّا ، والشّغَاف : شَغاف القلب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : والشغاف : جلدة من على القلب ، يقال لها : لسان القلب ، يقول : دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب .
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأته عامة قرأة الأمصار بالغين : { قَدْ شَغَفَها } ، على معنى ما وصفت من التأويل .
وقرأ ذلك أبو رجاء : { قَدْ شَعَفَها } ، بالعين .
حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا أبو قطن ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن أبي رجاء : { قَدْ شَعَفَها } .
قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي الأشهب ، أو عوف ، عن أبي رجاء : { قَدْ شَعَفَها حُبّا } ، بالعين .
قال : حدثنا خلف ، قال : حدثنا محبوب ، قال : قرأه عوف : { قَدْ شَعَفَها } .
قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن أسيد ، عن الأعرج : { قَدْ شَعَفَها حُبّا } ، وقال : شعفها : إذا كان هو يحبها .
ووجّه هؤلاء معنى الكلام إلى أن الحبّ قد عمها .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول : هو من قول القائل : " قد شُعِفَ بها " ، كأنه ذهب بها كلّ مذهب ، من شغف الجبال ، وهي رؤوسها .
ورُوي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الشغف : شغف الحبّ . والشّعفَ : شَعَف الدابة حين تذعر .
حدثني بذلك الحارث ، عن القاسم ، أنه قال : يُروى ذلك عن أبي عوانة ، عن مغيرة عنه .
قال الحارث : قال القاسم ، يذهب إبراهيم إلى أنّ أصل الشغف : هو الذعر . قال : وكذلك هو كما قال إبراهيم في الأصل ، إلا أن العرب ربما استعارت الكلمة فوضعتها في غير موضعها قال امرؤ القيس :
أتَقْتُلِني وَقَدْ شَعَفْتُ فُؤَادَها *** كمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرّجلُ الطّالي
قال : وشعف المرأة . من الحبّ ، وشعف المهنوءة من الذّعر ، فشبه لوعة الحبّ وجواه بذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال : ابن زيد ، في قوله : { قَدْ شَغَفَها حُبّا } ، قال : إن الشّغْف ، والشّعَف مختلفان ، والشعْف في البغض ، والشغْف في الحبّ . وهذا الذي قاله ابن زيد لا معنى له ، لأن الشعْف في كلام العرب بمعنى : عموم الحبّ ، أشهر من أن يجهله ذو علم بكلامهم .
قال أبو جعفر : والصواب في ذلك عندنا من القراءة : { قَدْ شَغَفَها } ، بالغين ؛ لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
وقوله : { إنّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } ، قلن : إنا لنرى امرأة العزيز في مراودتها فتاها عن نفسه ، وغلبة حبه عليها لفي خطأ من الفعل ، وجور عن قصد السبيل مبين لمن تأمله وعلمه أنه ضلال وخطأ غير صواب ولا سداد . وإنما كان قيلهنّ ما قلن من ذلك ، وتحدّثهنّ بما تحدّثن به من شأنها وشأن يوسف مكرا منهنّ فيما ذكر لتريهنّ يوسف .
{ وقال نسوة } هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها . { في المدينة } ظرف لقال أي أشعن الحاكية في مصر ، أو صفة نسوة وكن خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب . { امرأة العزيز تُراود فتاها عن نفسه } تطلب مواقعة غلامها إياها . و{ العزيز } بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة . { قد شغفها حبّاً } شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حبا ، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه . وقرئ " شعفها " من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه . { إنا لنراها في ضلال مبين } في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب .