254- يا أيها المؤمنون بالله وباليوم الآخر أنفقوا بعض ما رزقكم الله في وجوه الخير ، وبادروا بذلك قبل أن يأتي يوم القيامة الذي يكون كله للخير ولا توجد فيه أسباب النزاع ، لا تستطيعون فيه تدارك ما فاتكم في الدنيا ، ولا ينفع فيه بيع ولا صداقة ولا شفاعة أحد من الناس دون الله ، والكافرون هم الذين يظهر ظلمهم في ذلك اليوم ، إذ لم يستجيبوا لدعوة الحق .
{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } ما أوجبت عليكم إنفاقه . { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم ، والخلاص من عذابه إذ لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه ، أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يعينكم عليه أخلاؤكم أو يسامحوكم به ولا شفاعة { إلا من أذن الرحمن ورضي له قولا } حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم في حط ما في ذممكم ، وإنما رفعت ثلاثتها مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب : هل فيه بيع ؟ أو خلة ؟ أو شفاعة ؟ وقد فتحها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الأصل . { والكافرون هم الظالمون } يريد والتاركون للزكاة هم ظالمون الذين ظلموا أنفسهم ، أو وضعوا المال في غيره موضعه وصرفوه على غير وجهه ، فوضع الكافرون موضعه تغليظا لهم وتهديدا كقوله : { ومن كفر } مكان ومن لم يحج وإيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار لقوله تعالى : { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } .
موقع هذه الآية مثل موقع { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا } [ البقرة : 245 ] الآية لأنّه لما دعاهم إلى بذل نفوسهم للقتال في سبيل الله فقال : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أنّ الله سميع عليم } [ البقرة : 244 ] شفَّعَهُ بالدعوة إلى بذل المال في الجهاد بقوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [ البقرة : 245 ] على طريقة قوله : { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [ الأنفال : 72 ] ، وكانت هذه الآية في قوة التذييل لآية { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } لأنّ صيغة هذه الآية أظهر في إرادة عموم الإنفاق المطلوب في الإسلام ، فالمراد بالإنفاق هنا ما هو أعم من الإنفاق في سبيل الله ، ولذلك حذف المفعول والمتعلق لقصد الانتقال إلى الأمر بالصدقات الواجبة وغيرها ، وستجيء آيات في تفصيل ذلك .
وقوله : { مما رزقناكم } حث على الإنفاق واستحقاق فيه .
وقوله : { من قبل أن يأتي يوم } حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه ، واليوم هو يوم القيامة ، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذّر التدارك للفائِت ، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع ، والارتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة ، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل .
والخلة بضم الخاء المودة والصحبة ، ويجوز كسر الخاء ولم يقرأ به أحد ، وتطلق الخلة بالضم على الصديق تسمية بالمصدر فيستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره قال الحماسي :
ألاَ أبلِغَا خُلَّتي راشِدا *** وصنوي قديماً إذا ما اتصل
وقال كعب : أكرِم بها خُلةً ، البيت .
فيجوز أن يراد هنا بالخلة المودة ، ونفي المودة في ذلك لِحصول أثرها وهو الدّفع عن الخليل كقوله تعالى : { واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً } [ لقمان : 33 ] ، ويجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه وهو النفع كقوله : { يوم لا ينفع مال ولا بنون } [ الشعراء : 88 ] ، قال كعب بن زهير :
وقَال كل خليل كنت آمُلُه *** لا ألهِيَنَّك إني عنك مشغول
وقرأ الجمهور { لا بيع فيه } وما بعده بالرفع لأنّ المراد بالبيع والخلة والشفاعة الأجناس لا محالة ، إذ هي من أسماء المعاني التي لا آحاد لها في الخارج فهي أسماء أجناس لا نكرات ، ولذلك لا يحتمل نفيها إرادة نفي الواحد حتى يحتاج عند قصد التنصيص على إرادة نفي الجنس إلى بناء الاسم على الفتح ، بخلاف نحو لا رجلَ في الدار ولا إلَه إلا الله ، ولهذا جاءت الرواية في قول إحدى صواحب أم زرع « زوجي كلَيْلِ تِهَامَهْ لا حَرٌّ ولا قُرٌّ ولا مَخَافَةٌ ولا سآمهْ » بالرفع لا غير ، لأنّها أسماء أجناس كما في هذه الآية . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح لنفي الجنس نصّاً فالقراءتان متساويتان معنى ، ومن التكلّف هنا قول البيضاوي إنّ وجه قراءة الرفع وقوع النفي في تقدير جواب لسؤال قائل هل بيعٌ فيه أو خلّة أو شفاعة .
والشفاعة الوساطة في طلب النافع ، والسعي إلى من يراد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما ، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر ، يقال شفع كمنع إذا صيّر الشيء شفعاً ، وشفع أيضاً كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأنّ المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وتراً فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعاً ، فالشفاعة تقتضي مشفوعاً إليه ومشفوعاً فيه ، وهي في عرفهم لا يتصدّى لها إلاّ من يتحقّق قبول شفاعته ، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفَّعهُ فيه أي فقبل شفاعته ، وفي الحديث : « قالوا هذا جدير إن خطب بأن ينكح وإن شفع بأن يشفع » .
وبهذا يظهر أنّ الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة قال :
فذاك فتًى إن تأته في صنيعة *** إلى ماله لا تأته بشفيع
ومما جاء في منشور الخليفة القادر بالله للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي « ولّيناك كورة خراسان ولقبناك يمين الدولة ، بشفاعة أبي حامد الإسفرائيني » ، أي بواسطته ورغبته .
فالشفاعة في العرف تقتضي إدلال الشفيع عند المشفوع لديه ، ولهذا نفاها الله تعالى هنا بمعنى نفي استحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعاً عند الله بإدلال ، وأثبتها في آيات أخرى كقوله قريباً { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] وقوله : { ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، وثبتت للرسول عليه السلام في أحاديث كثيرة وأشير إليها بقوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } [ الإسراء : 79 ] وفسّرت الآية بذلك في الحديث الصحيح ، ولذلك كان من أصول اعتقادنا إثبات الشفاعة للنبيء صلى الله عليه وسلم وأنكرها المعتزلة وهم مخطئون في إنكارها وملبسون في استدلالهم ، والمسألة مبسوطة في كتب الكلام .
والشفاعة المنفية هنا مراد بها الشفاعة التي لا يسع المشفوعَ إليه ردّها ، فلا يعارض ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنّ تلك كرامة أكرمه الله تعالى بها وأذن له فيها إذ يقول : « اشفع تشفع » فهي ترجع إلى قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] وقوله : { ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] وقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له } [ سبأ : 23 ] .
وقوله : { والكافرون هم الظالمون } صيغة قصر نشأت عن قوله : { لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة } فدلّت على أن ذلك النفي تعريض وتهديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأنّ ذلك التهديد والمهدّد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله ، وهذا أشدّ وقعاً على المعاقب لأنّ المظلوم يجد لنفسه سلوّاً بأنّه معتدى عليه ، فالقصر قصر قلب ، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنّهم مظلومون .
ولك أن تجعلَه قصراً حقيقياً ادّعائياً لأنّ ظلمهم لما كان أشدّ الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم .
والمراد بالكافرين ظاهراً المشركون ، وهذا من بدائع بلاغة القرآن ، فإنّ هذه الجملة صالحة أيضاً لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، لأنّ ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدأوا الدين بالمناوأة ، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذبّ عن حوزته . وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظنّ بهم ذلك ، فتركه والكفر متلازمان ، فالكافرون يظلمون أنفسهم ، والمؤمنون لا يظلمونها ، وهذا كقوله تعالى : { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] ، وذلك أنّ القرآن يصوّر المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظاً وتنزيهاً ، ومن هذه الآية وأمثالها اعتقد بعض فرق الإسلام أنّ المعاصي تبطل الإيمان كما قدّمناه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم}: من الأموال في طاعة الله. {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه}: لا فداء فيه. {ولا خلة} فيه ليعطيه بخلة ما بينهما. {ولا شفاعة} للكفار فيه كفعل أهل الدنيا بعضهم في بعض، فليس في الآخرة شيء من ذلك. {والكافرون هم الظالمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم... من الزكاة والتطوّع.
{مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ}: ادّخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم بالنفقة منها في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعدّه لأوليائه من الكرامة، بتقديم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه، بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم. {مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ}: من قبل مجيء يوم لا بيع فيه، يقول: لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين، لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ، أو بالعمل بطاعة الله، سبيلٌ¹. ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضا الله، أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال، إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به يومٌ لا مُخالّة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل الأخلاّء بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين، كما قال الله تعالى ذكره. وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء من الإخوان، لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخُلّة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالى ذكره ن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الاَخرة إذا صاروا فيها: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص. وإنما معناه: من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة لأهل الكفر بالله، لأن أهل ولاية الله والإيمان به يشفع بعضهم لبعض. وكان قتادة يقول في ذلك: قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خُلّة إلا خُلّة المتقين.
{وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ}: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله هم الظالمون. يقول: هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما ليس لهم قوله. وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ} دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله: {وَلا خُلّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ} فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتَوْا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم.
فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان؟ قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل كفر، والاَخر أهل إيمان، وذلك قوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به، فحض أهل الإيمان به على ما يقرّبهم إليه من النفقة في طاعته وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصدّ عن سبيله، فقال تعالى ذكره: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا} أنتم {مِمّا رَزَقْنَاكُمْ} في طاعتي، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي، {مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم، {وَلاَ خُلّةٌ} لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي¹ وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم، وهم الظالمون أنفسهم دوني، لأني غير ظلام لعبيدي... عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: {وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ} ولم يقل: «الظالمون هم الكافرون».
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} يحتمل الأمر بالإنفاق أمرا بتقديم الطاعات والمسارعة إلى الخيرات {من قبل أن يأتي يوم} [يمنعهم، ويعجزهم] عن ذلك، وهو الموت، ويحتمل أمره بالإنفاق من الأموال في طاعة الله {من قبل أن يأتي يوم} وهو يوم القيامة...
ويحتمل: {يوم لا بيع فيه} أنهم يملكون بيع أنفسهم من الله تعالى ما داموا أحياء، فإذا ماتوا لم يملكوا كقوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}. فأول الآية، وإن خرج الخطاب للمؤمنين، فالوصف وصف الكافرين، لكن فيها زجرا للمؤمنين عن صنيع مثل صنيع الكفار...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان قبل فتور الجَلَد وانقضاء الأمل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم} أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} حتى تبتاعوا ما تنفقونه {وَلاَ خُلَّةٌ} حتى يسامحكم أخلاؤكم به. وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات. لأنّ الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير
{والكافرون هُمُ الظالمون} أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال {والكافرون} للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج {وَمَن كَفَرَ} [النور: 55] مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة} [فصلت: 6]...
اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال، وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق.
وأيضا فيه وجه آخر، وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله: {وقاتلوا في سبيل الله} ثم أعقبه بقوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد، ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد، وهو قوله: {ياأيها الذين آمنوا أنفقوا...}...
[و] المقصود من الآية أن الإنسان يجئ وحده، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا، قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} وقال: {ونرثه ما يقول ويأتينا فردا}.
أما قوله: {لا بيع فيه} ففيه وجهان
الأول: أن البيع ههنا بمعنى الفدية، كما قال: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} وقال: {ولا يقبل منها عدل} وقال: {وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها} فكأنه قال: من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب.
والثاني: أن يكون المعنى: قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال.
أما قوله: {ولا خلة} فالمراد المودة، ونظيره من الآيات قوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} وقال: {وتقطعت بهم الأسباب} وقال: {ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا} وقال حكاية عن الكفار: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم} وقال: {وما للظالمين من أنصار} وأما قوله: {ولا شفاعة} يقتضي نفي كل الشفاعات.
واعلم أن قوله: {ولا خلة ولا شفاعة} عام في الكل، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة}.
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور:
أحدها: أن كل أحد يكون مشغولا بنفسه، على ما قال تعالى: {لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}.
والثاني: أن الخوف الشديد غالب على كل أحد، على ما قال: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى}.
والثالث: أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضا لهذين الأمرين، وإذا صار مبغضا لهما صار مبغضا لمن كان موصوفا بهما.
{والكافرون هم الظالمون}: ذكروا في تأويل هذه الآية وجوها:
التأويل الثاني: أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب، ونظيره قوله تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}.
والتأويل الثالث: أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الرديء، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله.
والتأويل الرابع: الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وقالوا أيضا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فمن عبد جمادا وتوقع أن يكون شفيعا له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه.
والتأويل الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق، قال تعالى: {آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا} أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئا قل أو كثر.
والتأويل السادس: {والكافرون هم الظالمون} أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الاختلاف على الأنبياء سبباً للجهاد الذي هو حظيرة الدين وكان عماد الجهاد النفقة أتبع ذلك قوله رجوعاً إلى أول السورة من هنا إلى آخرها وإلى التأكيد بلفظ الأمر لما تقدم الحث عليه من أمر النفقة: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان {أنفقوا} تصديقاً لدعواكم في جميع أبواب الجهاد الأصغر والأكبر ولا تبخلوا فأي داء أدوأ من البخل {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]
ولما أمر بذلك هونه عليهم بالإعلام بأنه له لا لهم فقال: {مما} أي الشيء الذي ورد القول إلى مظهر العظمة حثاً على المبادرة إلى امتثال الأمر وتقبيحاً بحال من أبطأ عنه فقال: {رزقناكم} بما لنا من العظمة، وجزم هنا بالأمر لأنه لما رغب في النفقة من أول السورة إلى هنا مرة بعد أخرى في أساليب متعددة صارت دواعي العقلاء في درجة القبول لما تندب إليه من أمرها وإن كان الخروج عما في اليد في غاية الكراهة إلى النفس، وصرف الأمر بالتبعيض إلى الحلال الطيب... وأتبعه بما يرغب ويرهب من حال يوم التناد الذي تنقطع فيه الأسباب التي أقامها سبحانه وتعالى في هذه الدار فقال: {من قبل أن يأتي يوم} موصوف بأنه {لا بيع فيه} موجود {ولا خلة}. قال الحرالي: هي مما منه المخاللة وهي المداخلة فيما يقبل التداخل حتى يكون كل واحد خلال الآخر، وموقع معناها الموافقة في وصف الرضى والسخط، فالخليل من رضاه رضى خليله وفعاله من فعاله...
(ولا شفاعة} والمعنى أنه لا يفدى فيه أسير بمال، ولا يراعى لصداقة من مساوٍ ولا شفاعة من كبير، لعدم إرادة الله سبحانه وتعالى لشيء من ذلك ولا يكون إلا ما يريد، وفي الآية التفات شديد إلى أول السورة حيث وصف المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم والإيقان بالآخرة، وبيان لأن المراد بالإنفاق أعم من الزكاة وأن ذلك يحتمل جميع وجوه الإنفاق من جميع المعادن والحظوظ التي تكسب المعالي وتنجي من المهالك...
قال الحرالي: فانتظم هذا الانتهاء في الخطاب بما في ابتداء السورة من {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} [البقرة: 3] إلى قوله {المفلحون} [البقرة: 5] فلذلك وقع بعد هذا الانتهاء افتتاح آية هي سيدة آي هذه السورة المنتظمة بأولها انتظاماً معنوياً برأس {الم ذلك الكتاب} [البقرة: 1 2] فكان في إشارة هذا الانتظام توطئة لما أفصح به الخطاب في فاتحة سورة آل عمران، لما ذكر من أن القرآن مثاني إفهام وحمد. فكان أوله حمداً وآخره حمداً ينثني ما بين الحمدين على أوله، كما قال "حمدني عبدي، أثنى عليّ عبدي "فجملته حمد وتفاصيله ثناء...
ولما حث سبحانه وتعالى على الإنفاق ختم الآية بذم الكافرين لكونهم لم يتحلوا بهذه الصفة لتخليهم من الإيمان وبعدهم عنه وتكذيبهم بذلك اليوم فهم لا ينفقون لخوفه ولا رجائه فقال بدل -ولا نصرة لكافر: {والكافرون} أي المعلوم كفرهم في ذلك اليوم، وهذا العطف يرشد إلى أن التقدير: فالذين آمنوا يفعلون ما أمرناهم به لأنهم المحقون، والكافرون {هم} المختصون بأنهم {الظالمون} أي الكاملون في الظلم لا غيرهم، ومن المعلوم أن الظالم خاسر وأنه مخذول غير منصور، لأنه يضع الأمور في غير مواضعها، ومن كان كذلك لا يثبت له أمر ولا يرتفع له شأن بل هو دائماً على شفا جرف هار، ولأجل ذلك يختم سبحانه وتعالى كثيراً من آياته بقوله {وما للظالمين من أنصار} [البقرة: 270] فقد انتفى بذلك جميع أنواع الخلاص المعهودة في الدنيا في ذلك اليوم من الافتداء بالمال والمراعاة لصداقة أو عظمة ذي شفاعة أو نصرة بقوة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... بعد أن ذكرنا الله تعالى بالرسل وما كان من أقوامهم بعدهم من الاختلاف والاقتتال، عاد إلى أمرنا بالإنفاق بأسلوب آخر كما تقدم التنبيه في تفسير الآية السابقة. هنالك يقول {من ذا الذي يقرض الله} وقد نبهنا على ما في هذا الخطاب من اللطف والبلاغة. وأزيد هنا أن هذا اللطف إنما يفعل فعله ويبلغ نهاية تأثيره فيمن بلغ في الإيمان إلى عين اليقين، وعرج في الكمال إلى منازل الصديقين، ولطف وجدانه وشعوره، وتألق ضياؤه ونوره، وما كل المؤمنين يدرجون في هذا المدارج، أو يرتقون على هذه المعارج، فالأكثرون منهم يفعل في نفوسهم الترهيب، ما لا يفعل الترغيب، فهم لا ينفقون في سبيل الله إلا خوفا من عقابه، أو طمعا في ثوابه. وقد يعرض للضعفاء من هؤلاء الغرور بشفاعة تغني هنالك عن العمل، أو فدية تقي صاحبها عاقبة ما كان عليه من الزلل، فأمثال هؤلاء يعالجون بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}...
قالوا: إن المراد بالإنفاق هنا الإنفاق الواجب، لأن الكلام يتضمن الوعيد على الترك وهو لا يكون إلا على ترك الواجب. وقال بعضهم: بل يشتمل المندوب. ومن الواجب على أغنياء المسلمين إذا وقع الفساد في الأمة وتوقفت إزالته على المال أن يبذلوه لدفع المفاسد الفاشية والغوائل الغاشية، وحفظ المصالح العامة. أقول وفي قوله تعالى: {ما رزقناكم} إشعار بأنه لا يطلب منهم إلا بعض ما جعلهم مستخلفين فيه من رزقه ونعمه عليهم. فأين هذا من الطلب بصيغة الإقراض؟ كأنه يقول: إننا ما رزقناكم الرزق الحسن واستخلفناكم فيه إلا وقد نقلناه من أيدي قوم أساؤوا التصرف فحبسوا المال وأمسكوا عن المصالح والمنافع التي يرتقي بها شأن البشر بالتعاون على البر والخير. فلا تكونوا مثلهم فإنهم ظلموا أنفسهم وقومهم ببخلهم، فكانوا كافرين بنعم الله تعالى عليهم، إذ لم يضعوها في مواضعها، ولذلك ختم الآية بقوله: {والكافرون هم الظالمون}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله، فلهذا قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} وهذا من باب الحصر، أي: الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعقب السياق على ذكر الاختلاف والاقتتال بنداء {الذين آمنوا}، ودعوتهم إلى الإنفاق مما رزقهم الله. فالإنفاق صنو الجهاد وعصب الجهاد:...إنها الدعوة بالصفة الحبيبة إلى نفوس المؤمنين، والتي تربطهم بمن يدعوهم، والذي هم به مؤمنون: يا أيها الذين آمنوا.. وهي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه. فهو الذي أعطى، وهو الذي يدعو إلى الإنفاق مما أعطى: {أنفقوا مما رزقناكم}.. وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}.. فهي الفرصة التي ليس بعدها -لو فوتوها على أنفسهم- بيع تربح فيه الأموال وتنمو. وليس بعده صداقة أو شفاعة ترد عنهم عاقبة النكول والتقصير. ويشير إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله. فهو الإنفاق للجهاد. لدفع الكفر. ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر: {والكافرون هم الظالمون}.. ظلموا الحق فأنكروه. وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك. وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان، وموهوا عليهم الطريق، وحرموهم الخير الذي لا خير مثله. خير السلم والرحمة والطمأنينة والصلاح واليقين. إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب؛ ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة؛ ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع.. إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها. ومن واجب البشرية -لو رشدت- أن تطاردهم حتى يصبحوا عاجزين عن هذا الظلم الذي يزاولونه؛ وأن ترصد لحربهم كل ما تملك من الأنفس والأموال.. وهذا هو واجب الجماعة المسلمة الذي يندبها إليه ربها ويدعوها من أجله بصفتها تلك؛ ويناديها ذلك النداء الموحي العميق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الآية مثل موقع {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا} [البقرة: 245] الآية لأنّه لما دعاهم إلى بذل نفوسهم للقتال في سبيل الله فقال: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أنّ الله سميع عليم} [البقرة: 244] شفَّعَهُ بالدعوة إلى بذل المال في الجهاد بقوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} [البقرة: 245] على طريقة قوله: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [الأنفال: 72]، وكانت هذه الآية في قوة التذييل لآية {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} لأنّ صيغة هذه الآية أظهر في إرادة عموم الإنفاق المطلوب في الإسلام، فالمراد بالإنفاق هنا ما هو أعم من الإنفاق في سبيل الله، ولذلك حذف المفعول والمتعلق لقصد الانتقال إلى الأمر بالصدقات الواجبة وغيرها، وستجيئ آيات في تفصيل ذلك.
وقوله: {مما رزقناكم} حث على الإنفاق واستحقاق فيه. وقوله: {من قبل أن يأتي يوم} حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه، واليوم هو يوم القيامة، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذّر التدارك للفائِت، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع، والارتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل.
والخلة بضم الخاء المودة والصحبة، ويجوز كسر الخاء ولم يقرأ به أحد، وتطلق الخلة بالضم على الصديق تسمية بالمصدر فيستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره...
فيجوز أن يراد هنا بالخلة المودة، ونفي المودة في ذلك لِحصول أثرها وهو الدّفع عن الخليل كقوله تعالى: {واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} [لقمان: 33]، ويجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه وهو النفع كقوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون} [الشعراء: 88]...
والشفاعة: الوساطة في طلب النافع، والسعي إلى من يراد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر، يقال شفع كمنع إذا صيّر الشيء شفعاً، وشفع أيضاً كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأنّ المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وتراً فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعاً، فالشفاعة تقتضي مشفوعاً إليه ومشفوعاً فيه، وهي في عرفهم لا يتصدّى لها إلاّ من يتحقّق قبول شفاعته، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفَّعهُ فيه أي فقبل شفاعته... وبهذا يظهر أنّ الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة... وقوله: {والكافرون هم الظالمون} صيغة قصر نشأت عن قوله: {لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة} فدلّت على أن ذلك النفي تعريض وتهديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأنّ ذلك التهديد والمهدّد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله، وهذا أشدّ وقعاً على المعاقب لأنّ المظلوم يجد لنفسه سلوّاً بأنّه معتدى عليه، فالقصر قصر قلب، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنّهم مظلومون. ولك أن تجعلَه قصراً حقيقياً ادّعائياً لأنّ ظلمهم لما كان أشدّ الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم. والمراد بالكافرين ظاهراً المشركون، وهذا من بدائع بلاغة القرآن، فإنّ هذه الجملة صالحة أيضاً لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله، لأنّ ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدأوا الدين بالمناوأة، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذبّ عن حوزته.
وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظنّ بهم ذلك، فتركه والكفر متلازمان، فالكافرون يظلمون أنفسهم، والمؤمنون لا يظلمونها، وهذا كقوله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6، 7]، وذلك أنّ القرآن يصوّر المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظاً وتنزيهاً...