فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ وَٱلۡكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (254)

{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } نداء من العزيز الوهاب إلى أهل اليقين والتصديق أن يبذلوا من الذي أوتوه فذلك خير من التقتير والشح إذ النفقة المرتضاة تبلغ بصاحبها أعلى منازل النعيم في أخراه وتعقبه أكرم الخلف في أولاه وصدق الله العظيم { . . وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين }{[787]} ، ويقول جل ثناؤه في المتصدقين حذرا من سخطه وطمعا في رضاه { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا }{[788]} ؛ بل تفضل عز وتقدس فبين أن الجواد السخي كلما بذل كان ربحه أوفر لأنه يبتغي مرضاة رب جليل يتقبل القليل ويعطي عليه الأجر الجزيل والثواب الجميل مصداقا لوعده الحق في محكم التنزيل { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم . . . }{[789]} ، بينما يطوق البخلاء ما بخلوا به يوم القيامة ولن تغني عنهم أموالهم من الله شيئا وما لهم من شافعين ولا صديق حميم والأمر بالنفقة هنا قد يكون للوجوب وقد يكون للندب فمن النفقات الواجبة الزكاة وما به قيام نفس المنفق ومن يعول وصيانة الأمة المسلمة مما يتهددها ومن المندوبة القربات وصدقة التطوع ، عن ابن جرير { أنفقوا مما رزقناكم } قال من الزكاة والتطوع . { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } يقول ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم بالنفقة منها في سبيل الله والصدقة على أهل المسكنة والحاجة وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها وابتاعوا بها ما عنده مما أعد لأوليائه من الكرامة بتقديم ذلك لأنفسكم ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه بما ندبتكم إليه وأمرتكم به من النفقة من أموالكم -من قبل مجيء يوم . . لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه . . قادرين ، لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب لا يوم عمل واكتساب . . . ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك . . يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء . . فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله بل { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }{[790]} . . وأخبرهم أيضا أنهم . . لا شافع لهم عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم }{[791]} وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص وإنما معناه من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة لأهل الكفر بالله لأن أهل ولاية الله والإيمان به يشفع بعضهم لبعض . . وأما قوله { والكافرون هم الظالمون } فإنه يعني تعالى ذكره بذلك : والجاحدون لله المكذبون به وبرسله هم الظالمون . يقول : هم الواضعون جحودهم في غير موضعه والفاعلون في غير مالهم فعله والقائلون ما ليس لهم قوله . . وفي قوله تعالى في هذا الموضع { والكافرون هم الظالمون } دلالة واضحة على صحة ما قلناه وأن قوله { ولا خلة ولا شفاعة } إنما هو مراد به أهل الكفر . . فإن قال قائل وكيف صرف الوعيد على الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل إيمان ، وذلك قوله { . . ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر . . } ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به ؛ يحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به . . . -{[792]} .


[787]:سورة السبأ من الآية 39.
[788]:سورة الإنسان الآيتان من 11-14.
[789]:سورة الحديد الآية 11 ومن الآية 12.
[790]:من سورة الزخرف الآية 27.
[791]:من سورة الشعراء الآيتان 100-101.
[792]:ما بين العارضتين من جامع البيان.