مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ وَٱلۡكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (254)

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون } .

اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال ، وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق ، وأيضا فيه وجه آخر ، وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله : { وقاتلوا في سبيل الله } ثم أعقبه بقوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد ، ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد ، وهو قوله : { ياأيها الذين آمنوا أنفقوا } .

إذا عرفت وجه النظم فنقول في الآية مسائل :

المسألة الأولى : المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالا بقوله : { أنفقوا مما رزقناكم } فنقول : الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقا بالإجماع أما ما كان حراما فإنه لا يجوز إنفاقه ، وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراما ، والأصحاب قالوا : ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقا إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقا حلالا .

المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله : { أنفقوا } مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، فقال الحسن : هذا الأمر مختص بالزكاة ، قال لأن قوله : { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة } كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب وقال الأكثرون : هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب ، وليس في الآية وعيد ، فكأنه قيل : حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا ، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة والقول الثالث : أن المراد منه الإنفاق في الجهاد : والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد ، فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد ، وهذا قول الأصم .

المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو { لا بيع ، ولا خلة ، ولا شفاعة } بالنصب ، وفي سورة إبراهيم عليه السلام { لا بيع فيه ولا خلال } وفي الطور { لا لغو فيها ولا تأثيم } والباقون جميعا بالرفع ، والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال } .

المسألة الرابعة : المقصود من الآية أن الإنسان يجىء وحده ، ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا ، قال تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } وقال : { ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } .

أما قوله : { لا بيع فيه } ففيه وجهان الأول : أن البيع ههنا بمعنى الفدية ، كما قال : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } وقال : { ولا يقبل منها عدل } وقال : { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } فكأنه قال : من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب والثاني : أن يكون المعنى : قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال .

أما قوله : { ولا خلة } فالمراد المودة ، ونظيره من الآيات قوله تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وقال : { وتقطعت بهم الأسباب } وقال : { ويوم القيامة يكفرون بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } وقال حكاية عن الكفار : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } وقال : { وما للظالمين من أنصار } وأما قوله : { ولا شفاعة } يقتضي نفي كل الشفاعات .

واعلم أن قوله : { ولا خلة ولا شفاعة } عام في الكل ، إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين ، وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، وقد بيناه في تفسير قوله تعالى : { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة } .

واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها : أن كل أحد يكون مشغولا بنفسه ، على ما قال تعالى : { لكل امرىء منهم يومئذ شأن } والثاني : أن الخوف الشديد غالب على كل أحد ، على ما قال : { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } والثالث : أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضا لهذين الأمرين ، وإذا صار مبغضا لهما صار مبغضا لمن كان موصوفا بهما .

أما قوله تعالى : { والكافرون هم الظالمون } فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال : { والكافرون هم الظالمون } ولم يقل الظالمون هم الكافرون ، ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوها أحدها : أنه تعالى لما قال : { ولا خلة ولا شفاعة } أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقا ، فذكر تعالى عقيبه : { والكافرون هم الظالمون } ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين ، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على إثبات الشفاعة في حق الفساق ، قال القاضي : هذا التأويل غير صحيح لأن قوله : { والكافرون هم الظالمون } كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم .

والجواب : أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ ، تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى ، لأن غير الكافرين قد يكون ظالما ، أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله .

التأويل الثاني : أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب ، فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب ، ونظيره قوله تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } .

والتأويل الثالث : أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردىء ، ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله .

والتأويل الرابع : الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها ، لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله ، فإنهم كانوا يقولون في الأوثان : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقالوا أيضا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فمن عبد جمادا وتوقع أن يكون شفيعا له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه .

والتأويل الخامس : المراد من الظلم ترك الإنفاق ، قال تعالى : { آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله ، وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئا قل أو كثر .

والتأويل السادس : { والكافرون هم الظالمون } أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال : العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا ، وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم .