فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ وَٱلۡكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (254)

ظاهر الأمر في قوله : { أَنفَقُوا } الوجوب ، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك ، ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد ، وقيل : إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض ، والتطوّع . قال ابن عطية : وهذا صحيح ، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال ، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله . قال القرطبي : وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجباً ، ومرة ندباً بحسب تعين الجهاد ، وعدم تعينه . قوله : { من قَبْلِ أَن يَأتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ } أي : أنفقوا ما دمتم قادرين { من قَبْلِ أَن يَأتِىَ } ما لا يمكنكم الإنفاق فيه ، وهو : { يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ } أي : لا يتبايع الناس فيه . والخلة : خالص الموّدة مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين . أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ، ولا شفاعة مؤثرة إلا لمن أذن الله له . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بنصب لا بيع ولا خلة ، ولا شفاعة ، من غير تنوين . وقرأ الباقون برفعها منوّنة ، وهما لغتان مشهورتان للعرب ، ووجهان معروفان عند النحاة ، فمن الأوّل قول حسان بن ثابت :

ألا طِعانَ ألا فُرسانَ عَادِية *** ألا يحشؤكم حول التَّنَانير

ومن الثاني قول الراعي :

وما صَرَمْتِكِ حَتَّى قُلْتَ مُعْلِنَةً *** لا ناقة لِيَ في هَذَا وَلاَ جَمَلُ

ويجوز في غير القرآن التغاير برفع البعض ، ونصب البعض ، كما هو مقرر في علم الإعراب . قوله : { والكافرون هُمُ الظالمون } فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه ، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعاً يوجب كفره لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الذين ءامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رزقناكم } قال : من الزكاة ، والتطوّع . وأخرج ابن المنذر ، عن سفيان قال : يقال : نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ، ونسخ شهر رمضان كل صوم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : قد علم الله أن ناساً يتخاللون في الدنيا ، ويشفع بعضهم لبعض ، فأما يوم القيامة ، فلا خلة إلا خلة المتقين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عطاء قال : الحمد لله الذي قال : { والكافرون هُمُ الظالمون } ولم يقل : والظالمون هم الكافرون .