{ وقال الذين لا يرجون } لا يأملون { لقاءنا } بالخير لكفرهم بالبعث ، أولا يخافون { لقاءنا } بالشر على لغة تهامة ، واصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي ، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول . { لولا } هلا . { أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل فيكونوا رسلا إلينا . { أو نرى ربنا } فيأمرنا بتصدقيه واتباعه . { لقد استكبروا في أنفسهم } أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك . { وعتوا } وتجاوزوا الحد في الظلم . { عتوا كبيرا } بالغا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها ، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ماسدت دونه مطامح النفوس القدسية ، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله :
ثم أخبر عن مقالة الكفار { لولا أنزل علينا الملائكة } الآية ، وقوله { يرجون } قال أبو عبيدة وقوم معناه يخافون والشاهد لذلك قول الهذلي : [ الطويل ]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . . . وخالفها في بيت نوب عوامل{[8805]}
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابه لأن خوف لقاء الله تعالى مقترن أبداً برجائه ، فإذا نفي الرجاء عن أحد فإنما أخبر عنه أنه مكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء ، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء الله تعالى ، وأما بيت الشعر المذكور فمعناه عندي لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله ، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا أنفسهم وسألوا ما ليسوا به بأهل ، { وعتوا } ، معناه صعبوا عن الحق واشتدوا ، ويقال عتو وعتي على الأصل ، وعتي معلول باستثقال الضم على الواو فقلبت ياء ثم كسر ما قبلها طلب التناسب{[8806]} .
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسولَ عليه الصلاة والسلام ، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب { الذين لا يَرجُون لقاءنا } وعنون عليهم في المقالات السابقة ب { الذين كفروا } [ الفرقان : 4 ] وب { الظالمون } [ الفرقان : 8 ] لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض ، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكةِ ، وطَلَبوا رؤية الله في الدنيا ، ونزولَ الملائكة عليهم في الدنيا ، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة ، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم .
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل ، فمن أجل ذلك أيضاً جعل قولهم ذلك طريقاً لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله } في سورة يونس ( 15 ) .
و { لولا } حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة ، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به ، يعنون أنه إن كان صادقاً فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم .
ومعنى : { لا يرجون } لا يظنون ظنّاً قريباً ، أي يَعُدّون لقاء الله محالاً . ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ، ولذلك عقب بقوله : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل .
والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم . والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كِلاب أو بني نُمير أنشده ثعلب في « مجالسه » والقالي في « أماليه » :
أَلاَ يَا سَنا برقٍ على قُلَلِ الحِمى *** لَهِنَّك مِنْ برقٍ علي كريمُ
فإن قوله : من برق ، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب .
والاستكبار : مبالغة في التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب .
و { فِي } للظرفية المجازية ؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها ، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى : { وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
ويجوز أن تكون { في } للتعليل كما في الحديث " دخلتتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها " الحديث ، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم . وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك ؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية .
والعُتوّ : تجاوز الحد في الظلم ، وتقدم في قوله تعالى : { وعَتوا عن أمر ربّهم } في الأعراف ( 77 ) . وإنما كان هذا ظلماً لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية .
وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.