قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } الآية . هذه هي الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحاصلها{[35695]} : لم{[35696]} ( لم ){[35697]} تنزَّل الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه ، { أَوْ نرى رَبَّنَا } حتى يخبرنا بأنه{[35698]} أرسله إلينا{[35699]} ؟
قال الفراء : قوله تعالى{[35700]} : { وَقَالَ{[35701]} الذين{[35702]} لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي : لا يخافون لقاءنا ، فوضع الرجال موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحدٌ ، ومنه{[35703]} قوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تخافون لله{[35704]} عظمةً{[35705]}
قال القاضي : لا وجه لذلك ، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ، والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب ، لتكذيبهم ( بالمعاد ){[35706]} ، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك ، فقوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } محمول على الحقيقة ، وهو{[35707]} أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة ، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً ، فالخوف{[35708]} تابع ( للرجاء ){[35709]} . {[35710]} .
دلَّ ظاهر الآية على جواز الرؤية ، لأن اللقاء جنس تحته أنواع ، أحد أنواعه الرؤية ، والآخر الاتصال والمماسّة . وهما باطلان ، فدلَّ على جواز الرؤية ، لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء{[35711]} . وقالت المعتزلة : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ، لأنه يقال في الدعاء : لقاك الله الخير . ويقول القائل : لم أَلْقَ الأمير . وإن رآه من بعد إذا حجب عنه ، ويقال في الضرير : لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب ، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه ، بل المراد من اللقاء هنا{[35712]} المصير{[35713]} إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم { لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [ الانفطار : 19 ] لا أنه{[35714]} رؤية البصر{[35715]} . قال ابن الخطيب وهذا كلام ضعيف ، لأنَّ اللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطبق على كل واحد من تلك المعاني ، فيصح قوله : لقاك الخير{[35716]} ، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير ، ويصح قول البصير : لقيته ( بمعنى رأيته ، وما لقيته ){[35717]} بمعنى ما{[35718]} وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى{[35719]} : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً ، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني{[35720]} وبين الوصول بالرؤية ، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني .
وقولهم : المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه . صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل{[35721]} على وجوبها ، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين ( الكفار{[35722]} ){[35723]} .
قوله : «لَوْلاَ أُنْزِلَ » : هلاّ أنزل «عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ » فيخبرونا أن محمداً صادق{[35724]} { أَوْ نرى رَبَّنَا } فيخبرنا بذلك { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ } ( أي : تعظموا في أنفسهم ){[35725]} بهذه المقالة{[35726]} . قال الكلبي ومقاتل : نزلت الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما المنكرين للنبوة{[35727]} والبعث{[35728]} .
قوله : «عُتُواً » مصدر وقد صحَّ هنا وهو الأكثر وأُعِلَّ{[35729]} في مريم في «عِتِيًّا »{[35730]} ، لمناسبة ذكرت هناك ، وهي تواخي رؤوس الفواصل{[35731]} .
قال مجاهد : «عُتُوًّا » طغواً{[35732]} . وقال مقاتل : «عتوًّا » غلوًّا في القول{[35733]} .
والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به{[35734]} .
وقوله : «فِي أَنْفُسِهِمْ » ، لأنهم{[35735]} أضمروا{[35736]} الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه ، كما قال : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ( بِبَالِغِيهِ ){[35737]} }{[35738]}
[ غافر : 56 ] . وعتوا : تجاوزوا الحد في الظلم{[35739]} .
وهذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه :
أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت نبوة محمد - عليه السلام{[35740]} - فبعد{[35741]} ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت والاستكبار .
وثانيها : أنَّ نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ، فلا يدل{[35742]} على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز وردّ المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجِّح ، وهو محض الاستكبار والتعنت .
وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ، ويسألوه عن صدق محمد - عليه السلام{[35743]} - وهو سبحانه يقول : نعم هو رسولي{[35744]} ، فذلك{[35745]} لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد - عليه السلام{[35746]} - لأنَّا بيَّنَّا أن المعجزة تقوم مقام التصديق بالقول ، إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول : اللهم إن كنت صادقاً فأحْيِ هذا الميت ، فيحييه الله تعالى ، ( والعادة لم تجر بمثله ){[35747]} ، وبين أن يقول له : صدقت . وإذا كان التصديق بالقول والتصديق الحاصل بالمعجز ( سيّين ){[35748]} في كونه تصديقاً للمدعى ، كان{[35749]} تعيين أحدهما محض استكبار وتعنت .
ورابعها : يمكن أن يكون المراد أنَّ الله تعالى قال : لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل{[35750]} الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت ، فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به ، فلا جرم لا أعطيهم ذلك .
وخامسها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله لا يُرَى ، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل الاستهزاء{[35751]} .
استدل المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية ، لأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً . قالوا : فقوله : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } ليس إلا لأجل سؤال الرؤية ، واستعظم في آية أخرى قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] . فثبت أن الاستكبار والعتو هاهنا إنما حصل لأجل سؤال الرؤية ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة{[35752]} . ونقول هاهنا : إنّا بينا أن قوله : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } يدل{[35753]} على الرؤية ، وأمّا الاستكبار والعتو فلا يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة ، لأنَّ من طلب شيئاً محالاً لا يقال : إنه عَتَا واستكبر ، ألا ترى قولهم : { اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] لم يثبت{[35754]} لهم بطلب هذا{[35755]} المحال عتوًّا واستكباراً بل قال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ الأعراف : 138 ] .
ومما يدل على ذلك أن موسى - عليه السلام{[35756]} - لما قال : { رَبِّ{[35757]} أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ما وصفه الله بالاستكبار والعتوّ ، لأنه - عليه السلام{[35758]} - طلب الرؤية شوقاً ، وهؤلاء لمَّا{[35759]} طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك{[35760]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.