اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَقَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ أَوۡ نَرَىٰ رَبَّنَاۗ لَقَدِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ وَعَتَوۡ عُتُوّٗا كَبِيرٗا} (21)

قوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } الآية . هذه هي الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحاصلها{[35695]} : لم{[35696]} ( لم ){[35697]} تنزَّل الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه ، { أَوْ نرى رَبَّنَا } حتى يخبرنا بأنه{[35698]} أرسله إلينا{[35699]} ؟

فصل

قال الفراء : قوله تعالى{[35700]} : { وَقَالَ{[35701]} الذين{[35702]} لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } أي : لا يخافون لقاءنا ، فوضع الرجال موضع الخوف لغة تهاميّة إذا كان معه جحدٌ ، ومنه{[35703]} قوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تخافون لله{[35704]} عظمةً{[35705]}

قال القاضي : لا وجه لذلك ، لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ، والمعلوم من حال عبّاد الأصنام أنهم كانوا لا يخافون العقاب ، لتكذيبهم ( بالمعاد ){[35706]} ، فكذلك لا يرجون الثواب لمثل ذلك ، فقوله : { لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } محمول على الحقيقة ، وهو{[35707]} أنهم لا يرجون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب والجنة ، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً ، فالخوف{[35708]} تابع ( للرجاء ){[35709]} . {[35710]} .

فصل

دلَّ ظاهر الآية على جواز الرؤية ، لأن اللقاء جنس تحته أنواع ، أحد أنواعه الرؤية ، والآخر الاتصال والمماسّة . وهما باطلان ، فدلَّ على جواز الرؤية ، لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمي الرؤية لقاء{[35711]} . وقالت المعتزلة : تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة ، لأنه يقال في الدعاء : لقاك الله الخير . ويقول القائل : لم أَلْقَ الأمير . وإن رآه من بعد إذا حجب عنه ، ويقال في الضرير : لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب ، وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه ، بل المراد من اللقاء هنا{[35712]} المصير{[35713]} إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم { لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [ الانفطار : 19 ] لا أنه{[35714]} رؤية البصر{[35715]} . قال ابن الخطيب وهذا كلام ضعيف ، لأنَّ اللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطبق على كل واحد من تلك المعاني ، فيصح قوله : لقاك الخير{[35716]} ، ويصح قول الأعمى : لقيت الأمير ، ويصح قول البصير : لقيته ( بمعنى رأيته ، وما لقيته ){[35717]} بمعنى ما{[35718]} وصلت إليه ، وإذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى{[35719]} : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } مذكور في معرض الذم لهم ، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً ، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني{[35720]} وبين الوصول بالرؤية ، وقد بطل الأول فتعيّن الثاني .

وقولهم : المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه . صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل ، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل{[35721]} على وجوبها ، بل على أنّ إنكار الرؤية ليس إلا من دين ( الكفار{[35722]} ){[35723]} .

قوله : «لَوْلاَ أُنْزِلَ » : هلاّ أنزل «عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ » فيخبرونا أن محمداً صادق{[35724]} { أَوْ نرى رَبَّنَا } فيخبرنا بذلك { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ } ( أي : تعظموا في أنفسهم ){[35725]} بهذه المقالة{[35726]} . قال الكلبي ومقاتل : نزلت الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما المنكرين للنبوة{[35727]} والبعث{[35728]} .

قوله : «عُتُواً » مصدر وقد صحَّ هنا وهو الأكثر وأُعِلَّ{[35729]} في مريم في «عِتِيًّا »{[35730]} ، لمناسبة ذكرت هناك ، وهي تواخي رؤوس الفواصل{[35731]} .

فصل

قال مجاهد : «عُتُوًّا » طغواً{[35732]} . وقال مقاتل : «عتوًّا » غلوًّا في القول{[35733]} .

والعتو : أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به{[35734]} .

وقوله : «فِي أَنْفُسِهِمْ » ، لأنهم{[35735]} أضمروا{[35736]} الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه ، كما قال : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ( بِبَالِغِيهِ ){[35737]} }{[35738]}

[ غافر : 56 ] . وعتوا : تجاوزوا الحد في الظلم{[35739]} .

فصل

وهذا جواب عن شبهتهم وبيانه من وجوه :

أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت نبوة محمد - عليه السلام{[35740]} - فبعد{[35741]} ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض التعنت والاستكبار .

وثانيها : أنَّ نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ، فلا يدل{[35742]} على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز وردّ المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجِّح ، وهو محض الاستكبار والتعنت .

وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ، ويسألوه عن صدق محمد - عليه السلام{[35743]} - وهو سبحانه يقول : نعم هو رسولي{[35744]} ، فذلك{[35745]} لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد - عليه السلام{[35746]} - لأنَّا بيَّنَّا أن المعجزة تقوم مقام التصديق بالقول ، إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول : اللهم إن كنت صادقاً فأحْيِ هذا الميت ، فيحييه الله تعالى ، ( والعادة لم تجر بمثله ){[35747]} ، وبين أن يقول له : صدقت . وإذا كان التصديق بالقول والتصديق الحاصل بالمعجز ( سيّين ){[35748]} في كونه تصديقاً للمدعى ، كان{[35749]} تعيين أحدهما محض استكبار وتعنت .

ورابعها : يمكن أن يكون المراد أنَّ الله تعالى قال : لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل{[35750]} الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ، ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت ، فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به ، فلا جرم لا أعطيهم ذلك .

وخامسها : لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله لا يُرَى ، وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل الاستهزاء{[35751]} .

فصل

استدل المعتزلة بهذه الآية على عدم الرؤية ، لأنّ رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً . قالوا : فقوله : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } ليس إلا لأجل سؤال الرؤية ، واستعظم في آية أخرى قولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] . فثبت أن الاستكبار والعتو هاهنا إنما حصل لأجل سؤال الرؤية ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة{[35752]} . ونقول هاهنا : إنّا بينا أن قوله : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } يدل{[35753]} على الرؤية ، وأمّا الاستكبار والعتو فلا يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة ، لأنَّ من طلب شيئاً محالاً لا يقال : إنه عَتَا واستكبر ، ألا ترى قولهم : { اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] لم يثبت{[35754]} لهم بطلب هذا{[35755]} المحال عتوًّا واستكباراً بل قال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ الأعراف : 138 ] .

ومما يدل على ذلك أن موسى - عليه السلام{[35756]} - لما قال : { رَبِّ{[35757]} أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] ما وصفه الله بالاستكبار والعتوّ ، لأنه - عليه السلام{[35758]} - طلب الرؤية شوقاً ، وهؤلاء لمَّا{[35759]} طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك{[35760]} .


[35695]:وحاصلها: سقط من ب.
[35696]:في ب: لا.
[35697]:لم: تكملة من الفخر الرازي.
[35698]:في ب: بأن.
[35699]:انظر الفخر الرازي 24/67.
[35700]:تعالى: سقط من ب.
[35701]:وقال: سقط من ب.
[35702]:في الأصل: الذي. وهو تحريف.
[35703]:ومنه: سقط من ب.
[35704]:في ب: له.
[35705]:معاني القرآن 2/265.
[35706]:في النسختين: العقاب. والتصويب من الفخر الرازي.
[35707]:في ب: وهم.
[35708]:في الأصل: فالجواب.
[35709]:انظر الفخر الرازي 24/67 – 68.
[35710]:ما بين القوسين في ب: الرجاء.
[35711]:انظر الفخر الرازي 24/68.
[35712]:في ب: ههنا.
[35713]:في ب: الوصول.
[35714]:أنه: سقط من ب.
[35715]:انظر الفخر الرازي 24/68.
[35716]:في النسختين: لقاك الله الخير. والتصويب من الفخر الرازي.
[35717]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[35718]:ما: سقط من ب.
[35719]:تعالى: سقط من ب.
[35720]:في ب: المكان.
[35721]:بل: سقط من ب.
[35722]:انظر الفخر الرازي 24/68.
[35723]:ما بين القوسين في ب: الكافر.
[35724]:في الأصل: أن محمد صادق، وفي ب: أن محمد صادقا.
[35725]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35726]:انظر البغوي 6/167.
[35727]:في ب: النبوة.
[35728]:انظر الفخر الرازي 24/68.
[35729]:وأعل: سقط من ب.
[35730]:مريم: 8، 69.
[35731]:انظر اللباب 5/400-401.
[35732]:انظر البغوي 6/167.
[35733]:المرجع السابق.
[35734]:المرجع السابق.
[35735]:في ب: لأن.
[35736]:أضمروا: سقط من ب.
[35737]:غافر: 56.
[35738]:ما بين القوسين في ب: ببالغه.
[35739]:انظر الفخر الرازي 24/70.
[35740]:في ب: صلى الله عليه وسلم.
[35741]:في ب: فعند.
[35742]:في ب: فلا بد.
[35743]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35744]:في ب: رسول.
[35745]:في ب: فكذلك.
[35746]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35747]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35748]:في النسختين: سببان. والتصويب من الفخر الرازي.
[35749]:في ب: وأن.
[35750]:في النسختين: إلا لأجل. والتصويب من الفخر الرازي.
[35751]:انظر الفخر الرازي 24/68 – 69.
[35752]:انظر اللباب 1/154.
[35753]:يدل: سقط من ب.
[35754]:في ب: لم ثبت. وهو تحريف.
[35755]:في ب: بهذا. وهو تحريف.
[35756]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35757]:رب: سقط من ب.
[35758]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35759]:في ب: إنما.
[35760]:انظر الفخر الرازي 24/69 – 70.