3- وتضرّعوا إلى الله داعين أن يغفر لكم ذنوبكم ، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة وعمل الصالحات ، فَيُمتعكم متاعاً حسناً في الدنيا إلى أن تنتهي آجالكم المقدّرة لكم فيها ، ويُعطى في الآخرة كل صاحب عمل صالح فاضل ثواب عمله وفضله . وإن تنصرفوا عمّا أدعوكم إليه ، تعرضتم للعذاب ، فإني أخاف عليكم هذا العذاب في يوم كبير يحشر فيه الناس جميعاً ، ويكون فيه الهول الأكبر .
وقوله : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : وآمركم{[14469]} بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه ، وأن تستمروا{[14470]} على ذلك ، { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي : في الدنيا { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : في الدار الآخرة ، قاله قتادة ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] ، {[14471]}-{[14472]}
وقد جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله ، إلا أجِرْت بها ، حتى ما تجعل في فِي{[14473]} امرأتك " {[14474]} .
وقال ابن جرير : حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن مسعود في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات . فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات . ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره{[14475]} .
وقوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى ، وكذب رسله ، فإن العذاب يناله يوم معاده{[14476]} لا محالة ،
{ وأن استغفروا ربكم } عطف على ألا تعبدوا . { ثم توبوا إليه } ثم توسلوا إلى مطلوبكم بالتوبة فإن المعرض عن طريق الحق لا بد له من الرجوع . وقيل استغفروا من الشرك ثم توبوا إلى الله بالطاعة ، ويجوز أن يكون ثم لتفاوت ما بين الأمرين . { يمتّعكم متاعا حسنا } يعيشكم في أمن ودعة . { إلى أجل مسمّى } هو آخر أعماركم المقدرة ، أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال والأرزاق والآجال ، وإن كانت متعلقة بالأعمار لكنها مسماة بالإضافة إلى كل أحد فلا تتغير . { ويُؤت كل ذي فضل فضله } ويعط كل ذي فضل في دينه جزاء فضله في الدنيا والآخرة ، وهو وعد للموحد التائب بخير الدارين . { وإن تولّوا } وإن تتولوا . { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } يوم القيامة ، وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف . وقرئ { وإن تولوا } من ولي .
ومعنى الآية : استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته لكم وذلك بطلب دخولكم في الإسلام ثم توبوا من الكفر أي انسلخوا منه واندموا على سالفه . و { ثم } مرتبة لأن الكافر أول ما ينيب فإنه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه .
وقرأ الجمهور «يمتّعكم » بشد التاء ، وقرأ ابن محيصن «يمْتعكم » بسكون الميم وتخفيف التاء ، وفي كتاب أبي حاتم : «إن هذه القراءات بالنون » ، وفي هذا نظر . ، و { متاعاً } مصدر جار على غير الفعل المتقدم مثل قوله { والله أنبتكم من الأرض نباتاً }{[6247]} وقيل نصب بتعدي { يمتعكم } لأنك تقول : متعت زيداً ثوباً . ووصف المتاع «بالحسن » إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفترضاته والسرور بمواعيده والكافر ليس في شيء من هذا ، وأما من قال بأن «المتاع الحسن » هو فوائد الدنيا وزينتها فيضعف بين الكفرة يتشاركون في ذلك أعظم مشاركة و «الأجل المسمى » : هو أجل الموت معناه { إلى أجل مسمى } لكل واحد منكم ، وهذا ظاهر الآية : و «اليوم الكبير » - على هذا - هو يوم القيامة .
وتحتمل الآية أن يكون التوعد بتعجيل العذاب إن كفروا ، والوعد بتمتيعهم إن آمنوا ، فتشبه ما قاله نوح عليه السلام ، و «اليوم الكبير » - على هذا -كيوم بدر ونحوه ، والمجهلة _ في أي الأمرين يكون_ إنما هي بحسب البشر ، والأمر عند الله تعالى معلوم محصل ، والأجل واحد .
وقوله تعالى : { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي كل ذي إحسان بقوله ، أو بفعله ، أو قوته ، أو بماله ، أو غير ذلك ، مما يمكن أن يتقرب به و { فضله } يحتمل أن يعود الضمير فيه على الله عز وجل أي يؤتي الله فضله كل ذي فضل وعمل صالح من المؤمنين وهذا المعنى ما وعد به تعالى وتضعيف الحسنة بعشر أمثالها ومن التضعيف غير المحصور{[6248]} لمن شاء ، وهذا التأويل تأوله ابن مسعود وقال : ويل لمن غلبت آحاده عشراته . ويحتمل أن يكون قول ابن مسعود موافقاً للمعنى الأول{[6249]} .
وقرأ جمهور «وإن تَولّوا » بفتح التاء واللام ، فبعضهم قال الغيبة ، أي فقل لهم : إني أخاف عليكم ، وقال بعضهم معناه فإن تتولوا فحذفت التاء والآية كلها على مخاطبة الحاضر ، وقرأ اليماني وعيسى بن عمر : «وإن تُولُوا » ، بضم التاء واللام وإسكان الواو{[6250]} .
وقوله تعالى : { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } . توعد بيوم القيامة : ويحتمل أن يريد به يوماً من الدنيا كبدر وغيره .
{ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله }
عطف على جلمة { لا تعبدوا إلا الله } [ هود : 2 ] وهو تفسير ثان يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل ، فهذا ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله تعالى ، ودلائلُ على ذلك وأمثالٌ ونذر ، فالمقصود : تقسيم التفسير وهو وجه إعادة حرف التفسير في هذه الجملة وعدم الاكتفاء بالذي في الجملة المعطوف عليها .
والاستغفار : طلب المغفرة ، أي طلب عدم المؤاخذة بذنب مضى ، وذلك الندم .
والتوبة : الإقلاع عن عَمَل ذنب ، والعزمُ على أن لا يعود إليه .
و ( ثُم ) للترتيب الرتبي ، لأن الاعتراف بفساد ما هم فيه من عبادة الأصنام أهم من طلب المغفرة ، فإنّ تصحيح العزم على عدم العودة إليها هو مسمى التوبة ، وهذا ترغيب في نبذ عبادة الأصنام وبيان لما في ذلك من الفوائد في الدنيا والآخرة .
والمتاع : اسم مصدر التمتيع لما يُتمتع به ، أي يُنتفع . ويطلق على منافع الدنيا . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } في سورة [ الأعراف : 24 ] .
والحَسَن : تقييد لنوع المتاع بأنه الحَسن في نوعه ، أي خالصاً من المكدرات طويلاً بقاؤه لصاحبه كما دل عليه قوله : { إلى أجل مسمى } . والمراد بالمتاع : الإبقاءُ ، أي الحياة ، والمعنى أنه لا يستأصلهم . ووصفه بالحسن لإفادة أنها حياة طيبة .
و { إلى أجل } متعلق ب { يمتعكم } وهو غاية للتمتيع ، وذلك موعظة وتنبيه على أن هذا المتاع له نهاية ، فعلم أنه متاع الدنيا . والمقصود بالأجَل : أجل كل واحد وهو نهاية حياته ، وهذا وعد بأنه نعمة باقية طول الحياة .
وجملة : { يُؤْت كل ذي فضل فضله } عطف على جملة : { يمتعكم } . والإيتاء : الإعطاء ، وذلك يدل على أنه مِن المتاع الحسن ، فيعلم أنه إعطاء نعيم الآخرة . والفضل : إعطاء الخير . سمي فضلاً لأن الغالب أن فاعل الخير يفعله بما هو فاضل عن حاجته ، ثم تنوسي ذلك فصار الفضل بمعنى إعطاء الخير .
والفضل الأولُ : العمل الصالح ، بقرينة مقابلته بفضل الله الغني عن الناس .
والفضل الثاني المضاف إلى ضمير الجلالة هو ثواب الآخرة ، بقرينة مقابلته بالمتاع في الدنيا . والمعنى : ويؤت الله فضلَه كلّ ذي فَضْل في عمله .
ولما علق الإيتاء بالفضلين علم أن مقدار الجزاء بقدر المَجْزي عليه ، لأنه علق بذي فضل وهو في قوة المشتق ، ففيه إشعار بالتعليل وبالتقدير . وضبط ذلك لا يعلمه إلا الله ، وهو سر بين العبد وربه . ونظير هذا مع اختلاف في التقديم والتأخير وزيادة بيانٍ ، قولُه تعالى : { مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] .
{ وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير }
عطف على { وأن استغفروا ربكم } فهو من تمام ما جاء تفسيراً لـ { أحكمت آياته ثم فصلت } [ هود : 1 ] وهو مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى الناس .
وتَولوا : أصلُه تَتولوا ، حذفت إحدى التائين تخفيفاً .
وتأكيد جملة الجزاء ب { إن } وبكون المسند إليه فيها اسماً مخبراً عنه بالجملة الفعلية لقصد شدة تأكيد توقع العذاب .
وتنكير { يوم } للتهويل ، لتذهب نفوسهم للاحتمال الممكن أن يكون يوماً في الدنيا أو في الآخرة ، لأنهم كانوا ينكرون الحشر ، فتخويفهم بعذاب الدنيا أوْقع في نفوسهم . وبذلك يكون تنكير { يوم } صالحاً لإيقاعه مقابلاً للجَزَاءيْن في قوله : { يُمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله } ، فيقدّر السامع : إن توليتم فإني أخاف عليكم عذابين كما رجوت لكم إن استغفرتم ثوابين .
ووصفه بالكبير لزيادة تهويله ، والمراد بالكبر الكبر المعنوي ، وهو شدة ما يقع فيه ، أعني العذاب ، فوصف اليوم بالكبر مجاز عقلي .