43- يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة في المساجد حال سكركم حتى تفقهوا ما تقولون ، ولا تدخلوا المساجد وأنتم على جنابة إلا إذا كنتم عابري المساجد عبوراً دون استقرار فيها ، حتى تطهروا بالاغتسال . وإن كنتم مرضى لا تستطيعون استعمال الماء خشية زيادة المرض أو بطء البرء ، أو مسافرين يشق عليكم وجود الماء ، فاقصدوا التراب الطيب ، وكذلك إذا جاء أحد منكم من المكان المعد لقضاء الحاجة أو آتيتم النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به لفقده ، فاقصدوا تراباً طيباً كذلك فاضربوا به أيديكم ، وامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله من شأنه العفو العظيم والمغفرة .
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول ، وعن قربان محلها - وهي المساجد - للجُنُب ، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر ، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة ، عند قوله [ تعالى ]{[7531]} { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ]{[7532]} } الآية [ البقرة : 219 ] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فلما نزلت هذه الآية ، تلاها عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات{[7533]} فلما نزل{[7534]} قوله [ تعالى ]{[7535]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 90 ، 91 ] فقال عمر : انتهينا ، انتهينا .
وفي رواية إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو - وهو ابن شُرَحبيل - عن عُمَرَ بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر ، فذكر الحديث وفيه : فنزلت الآية التي في ] سورة[ {[7536]} النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت{[7537]} الصلاة ينادي : ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران . لفظ أبي داود .
وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم{[7538]} .
حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شُعْبَة ، أخبرني سِمَاكُ بن حَرْبٍ قال : سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال : نزلت في أربعُ آيات : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار ، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا ، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر{[7539]} بها أنف سعد ، فكان سعد مَفْزور{[7540]} الأنف ، وذلك قبل أن تحرم الخمر ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية .
والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة . ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه ، من طُرُق عن سِماكٍ به{[7541]} .
سبب آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمَّار ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكي ، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي ، عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانا - قال : فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، ما أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون . [ قال ]{[7542]} فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وكذا رواه الترمذي عن عبد{[7543]} بن حُمَيْدٍ ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، به ، وقال : حسن صحيح{[7544]} .
وقد رواه ابن جرير ، عن محمد بن بشار ، عن عبد الرحمن بن مَهْدي ، عن سفيانَ الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ؛ أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : { قُلْ [ يَا ]{[7545]} أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فخلط فيها ، فنزلت : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث الثوري ، به . {[7546]}
ورواه ابن جَرِير أيضا ، عن ابن حُمَيْدٍ ، عن جَرِيرٍ ، عن عطاء ، عن أبي عبد الله السَّلَمِيّ قال : كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف ، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها ، وذلك قبل أن يحرم{[7547]} الخمر ، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فلم يقرأها كما ينبغي ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }
ثم قال : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال ، حدثنا حَمَّاد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب - وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي ؛ أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا ، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون . أعبد ما تعبدون . وأنتم عابدون ما أعبد . وأنا عابد ما عبدتم . لكم دينكم ولي دين . فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }{[7548]} .
وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ]{[7549]} } وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى ، قبل أن تحرم الخمر ، فقال الله : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية . رواه ابن جرير . وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ . وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة : كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر .
وقال الضَّحَّاكُ في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } لم يعن بها سُكْرَ الخمر ، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم قال ابن جرير : والصواب أن المراد سُكْر الشراب . قال : ولم يتوجه النهي إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب ؛ لأن ذاك في حكم المجنون ، وإنما خُوطِب بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف{[7550]} .
وهذا حاصل ما قاله . وقد ذكره غير واحد من الأصوليين ، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام ، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له ؛ فإن الفهم شرط التكليف . وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر بالكلية ؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما ، والله أعلم . وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك .
وقوله : { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } هذا أحسن ما يقال في حد السكران : إنه الذي لا يدري ما يقول{[7551]} فإن المخمور{[7552]} فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره{[7553]} وخشوعه فيها ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابةَ ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي ، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول . انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب ، به{[7554]} وفي بعض ألفاظ الحديث{[7555]} فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه .
وقوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمر{[7556]} به مرًّا ولا تجلس . ثم قال : ورُوي عن عبد الله بن مسعود ، وأنس ، وأبي عُبَيْدَةَ ، وسعيد بن المُسَيَّبِ ، وأبي الضُّحَى ، وعطاء ، ومُجَاهد ، ومسروق ، وإبراهيم النَّخَعي ، وزيد بن أسلم ، وأبي مالك ، وعَمْرو بن دينار ، والحكم بن عُتَيْبَة{[7557]} وعِكْرِمَة ، والحسن البصري ، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري ، وابن شهاب ، وقتادَة ، نحوُ ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني اللَّيْثُ ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل{[7558]} { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فأنزل الله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ }
ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ ، رحمه اللهُ ، ما ثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سُدُّوا كل خَوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر " {[7559]} .
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم ، علما منه أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، سيلي الأمر بعده ، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين ، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه ، رضي الله عنه . ومن روى : " إلا باب علي " كما وقع في بعض السنن ، فهو خطأ ، والصحيح . ما ثبت في الصحيح . ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه ؛ إلا أن بعضهم قال : يمنع مرورهما لاحتمال التلويث . ومنهم من قال : إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ، رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ناوليني الخُمْرة من المسجد " فقلت : إني حائض . فقال : " إن حيضتك ليست في يدك " . وله عن أبي هريرة مثله{[7560]} ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد ، والنفساء في معناها والله أعلم .
وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة{[7561]} العامري ، عن جَسْرة بنت دجاجة ، عن عائشة ] رضي الله عنها[ {[7562]} قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ " {[7563]} قال أبو مسلم الخَطَّابي : ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا : أفلت مجهول . لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري ، عن مَحْدوج{[7564]} الذهلي ، عن جَسْرة ، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به . قال أبو زرعة الرازي : يقولون : جسْرة عن أم سلمة . والصحيح جسرة عن عائشة .
فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي ، من حديث سالم بن أبي حفصة ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخُدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي ، لا يحل لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك . إنه حديث ضعيف لا يثبت ؛ فإن سالما هذا متروك ، وشيخه عطية ضعيف{[7565]} والله أعلم .
قول آخر في معنى الآية : قال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرني ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن علي : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } قال : لا يقرب الصلاة ، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء .
ثم رواه من وجه آخر ، عن المنهال بن عمرو ، عن زِرّ ، عن علي بن أبي طالب ، فذكره . قال : ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير ، والضحاك ، نحو ذلك .
وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن المِنْهال ، عن عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش - عن علي فذكره . ورواه من طريق الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ ، عن ابن عباس ، فذكره . ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ ، وعن مجاهد ، والحسن بن مُسْلِمٍ ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ ، وابنِهِ عبد الرَّحمنِ ، مثل ذلك ، وروي من طريق ابن جُرَيْج ، عن عبد الله بن كَثِير قال : كنَّا نسمع أنه في السفر .
ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث أبي قِلابة ، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم ، وإن لم تجد{[7566]} الماء عشر حججٍ ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير " {[7567]} .
ثم قال{[7568]} ابن جرير - بعد حكايته القولين - : والأوْلَى قول من قال : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه . وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : أو { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا{[7569]} } [ المائدة : 6 ] إلى آخره . فكان معلوما بذلك أن قوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } لو كان معنيا به المسافر ، لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل . قال : والعابر{[7570]} السبيل : المجتاز مَرّا وقطعا . يقال منه : " عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عبرا وعبورا " ومنه قيل : " عبر فلان النهر " إذا قطعه وجاوزه . ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار : هي عُبْرُ أسفار وعَبْر أسفار ؛ لقوتها على قطع الأسفار .
وهذا الذي نصره هو قولُ الجمهور ، وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة ، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا ، والله أعلم .
وقوله : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعي : أنه يحرم على الجنب المكث في المسجدِ حتى يغتسل أو يتيمم ، إن عدم الماء ، أو لم يقدر على استعماله بطريقة . وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجدِ ، لما روى{[7571]} هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح : أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك ؛ قال سعيد بن منصور :
حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو{[7572]} الدرَاوَرْدِي - عن هِشَام بنِ سَعْدٍ ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار قال : رأيت رجالا{[7573]} من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون{[7574]} إذا توضؤوا وضوء الصلاة ، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم ، فالله{[7575]} أعلم .
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أما المرض المبيح للتيمم ، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فواتُ عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء . ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسَّان مالكُ بن إسماعيل ، حدثنا قيس عن خَصِيف{[7576]} عن مجاهد في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } قال : نزلت في رجل من الأنصار ، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
هذا مرسل . والسفر معروف ، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير .
وقوله : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } الغائط : هو المكان المطمئن من الأرض ، كنى بذلك عن التغوط ، وهو الحدث الأصغر .
وأما قوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } فقرئ : " لَمَسْتم " و " لامستم " واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك ، على قولين :
أحدهما : " أن ذلك كناية عن الجماع ؛ لقوله { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } قال : الجماع . ورُوي عن علي ، وأبيّ بن كعب ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعُبَيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشَّعْبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيَّان - نحوُ ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني حُمَيد بن مَسْعَدةَ ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا شُعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع . وقال ناس من العرب : اللمس الجماع : قال : فأتيت ابن عباس فقلت له : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس ، فقالت الموالي . ليس بالجماع . وقالت العرب : الجماع . قال : من أيّ الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي . قال : غُلب فريقُ الموالي . إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء .
ثم رواه عن ابن بشَّار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة - به نحوه . ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير ، نحوه .
ومثله قال : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم قال : حدثنا أبو بشر ، أخبرنا{[7577]} سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني بما يشاء .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، أنبأنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الملامسة : الجماع ، ولكن الله كريم يكني بما يشاء .
وقد صح{[7578]} من غير وجه ، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك . ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم .
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان ، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيًا إليه .
ثم قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن مُخَارقٍ ، عن طارق{[7579]} عن عبد الله بن مسعود قال : اللمس ما دون الجماع .
وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله . وروي من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : القبلة من المس ، وفيها الوضوء .
وقال : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عُبَيد الله{[7580]} بن عمر ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى{[7581]} فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللماس .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة ، عن مخارق ، عن طارق ، عن عبد الله قال : اللمس ما دون الجماع .
ثم قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن ابن عمر ، وعبيدة ، وأبي عثمان النَّهْدي وأبي عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود - وعامر الشَّعْبي ، وثابت بن الحجَّاج ، وإبراهيم النَّخَعي ، وزيد بن أسلم نحو ذلك .
قلت : وروى مالك ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه كان يقول : قبلة الرجل امرأته وجَسَّه بيده من الملامسة ، فمن قَبّل امرأته أو جسها بيده ، فعليه الوضوء .
وروى الحافظ أبو الحسن الدارقُطْني [ في سننه ]{[7582]} عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك . ولكن رَوَيْنا عنه من وجه آخر : أنه كان يقبل امرأته ، ثم يصلي ولا يتوضأ . فالرواية عنه مختلفة ، فيحمل{[7583]} ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب ، والله أعلم .
والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل ، رحمهم الله ، قال ناصر هذه المقالة : قد قرئ في هذه الآية { لامَسْتُمُ } { ولمستم } واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال ] الله[ {[7584]} تعالى : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] ، أي جسوه{[7585]} وقال [ رسول الله ]{[7586]} صلى الله عليه وسلم لماعز - حين أقر بالزنا يُعرض له بالرجوع عن الإقرار - : " لعلك قبلت أو لمست " {[7587]} وفي الحديث الصحيح : " واليد زناها اللمس " وقالت عائشة ، رضي الله عنها : قَلّ يوم إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا ، فيقبّل ويلمس . ومنه ما ثبت في الصحيحين : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة{[7588]} وهو يَرْجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا : ويطلق في اللغة على الجس باليد ، كما يطلق على الجماع ، قال الشاعر :
وألمستُ كَفي كفَّه أطلب الغِنَى . . .
واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله{[7589]} بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير - وقال أبو سعيد : حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس{[7590]} يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها ، غير أنه لم يجامعها ؟ قال : فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [ هود : 114 ] قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توضأ ثم صَلِّ " . قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ، أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ قال : " بل للمؤمنين عامة " .
ورواه الترمذي من حديث زائدة{[7591]} به ، وقال : ليس بمتصل . وأخرجه النسائي من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا{[7592]} .
قالوا : فأمره بالوضوء ؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها . وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة ، كما تقدم في حديث الصدِّيق [ رضي الله عنه ]{[7593]} ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له " الحديث ، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله : { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ ]{[7594]} } الآية [ آل عمران : 135 ] .
ثم قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم قال : حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل ، ثم يصلي ولا يتوضأ{[7595]} .
ثم قال : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن عروة ، عن عائشة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، قلت : من هي إلا أنت ؟ فضحكت .
وهكذا رواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم ، عن وكيع ، به{[7596]} .
ثم قال أبو داود : روي عن الثوري أنه قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزَنيّ ، وقال يحيى القطَّان لرجل : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء .
وقال الترمذي : سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال : حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عُرْوَة .
وقد وقع في رواية ابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي ، عن وكيع عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة .
وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة{[7597]} وهذا نص في كونه عروة بن الزبير ، ويشهد له قوله : من هي إلا أنت ، فضحكت{[7598]} .
لكن روى أبو داود ، عن إبراهيم بن مَخْلد الطَّالْقاني ، عن عبد الرحمن بن مَغْراء ، عن الأعمش قال : حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة{[7599]} فذكره ، والله أعلم .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو زيد عمر بن شَبَّةَ ، عن{[7600]} شهاب بن عبَّاد ، حدثنا مَنْدَل بن علي ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة - وعن أبي رَوْق ، عن إبراهيم التَّيمي ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء{[7601]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن أبي روق الهمْدَاني ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ .
[ و ]{[7602]} رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان - زاد أبو داود : وابن مهدي - كلاهما عن سفيان الثوري به . {[7603]} ثم قال أبو داود ، والنسائي : لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا سعيد{[7604]} بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، حدثنا يزيد بن سِنَان ، عن عبد الرحمن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ، ثم لا يفطر ، ولا يحدث وضوءًا{[7605]} .
وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا حفص بن غِياث ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السَّهْمِية عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يُقَبّل ثم يصلي ولا يتوضأ .
وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن فُضَيل ، عن حجاج بن أَرْطَاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به{[7606]} .
وقوله : { فَإِنْ لَمْ{[7607]} تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية : أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه ، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم . وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع ، كما هو مقرر في موضعه ، كما هو{[7608]} في الصحيحين ، من حديث عِمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في{[7609]} القوم ، فقال : " يا فلان ، ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ ألست برجل مسلم ؟ " قال : بلى يا رسول الله ، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء . قال : " عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك " . {[7610]}
ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ{[7611]} تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } فالتيمم في اللغة هو : القصد . تقول العرب : تيممك{[7612]} الله بحفظه ، أي : قصدك . ومنه قول امرئ القيس{[7613]} :
وَلَمَّا رَأتْ{[7614]} أنَّ المَنِية ورِدُها *** وأن الحصَى من تحت أقدامها دَامِ
تيممت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الفيء عَرْمَضها طام
والصعيد قيل : هو كل ما صعد على وجه الأرض ، فيدخل فيه التراب ، والرمل ، والشجر ، والحجر ، والنبات ، وهو قول مالك . وقيل : ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ ، والنورة ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وقيل : هو التراب فقط ، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [ الكهف : 40 ] أي : ترابا أملس طيبا ، وبما ثبت في صحيح مسلم ، عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " {[7615]} وفي لفظ : " وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " . قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه .
والطيب هاهنا قيل : الحلال . وقيل : الذي ليس بنجس . كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان{[7616]} عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر حجج ، فإذا وجده ، {[7617]} فليمسه بَشرته ، فإن ذلك خير له " .
وقال الترمذي : حسن صحيح : وصححه ابن حبان أيضا{[7618]} ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة{[7619]} وصححه الحافظ أبو الحسن القطان . وقال ابن عباس : أطيب الصعيد تراب الحرث . رواه ابن أبي حاتم ، ورفعه ابن مَرْدويه في تفسيره{[7620]} .
وقوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } التيمم بدل عن الوضوء في التطهر{[7621]} به ، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه ، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع ، ولكن{[7622]} اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال .
أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - : أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين ؛ لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين ، وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين ، كما في آية السرقة : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] قالوا : وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع{[7623]} الطهورية . وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " . ولكن لا يصح ؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم{[7624]} وروى أبو داود عن ابن عمر - في حديث - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه .
ولكن في إسناده محمد بن ثابت العَبْدي ، وقد ضعفه بعض الحفاظ ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاري وأبو زرعة وابن عَدِي : هو الصواب . وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر{[7625]} {[7626]} .
واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن الأعرج ، عن ابن الصَّمَّة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه . {[7627]}
وقال ابن جرير : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا نعيم بن حَمَّاد ، حدثنا خارجةُ بن مُصْعب ، عن عبد الله بن عطاء ، عن موسى بن عُقْبة ، عن الأعرج ، عن أبي جُهيم{[7628]} قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي حتى فرغ ، ثم قام إلى الحائط{[7629]} فضرب بيديه عليه ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين ، ثم رد علي السلام{[7630]} .
والقول الثاني : إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين ، وهو القول القديم للشافعي .
والثالث : أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة ؛ قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن ذَرّ ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ؛ أن رجلا أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء ؟ فقال عمر : لا تصل . فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت ، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " إنما كان يكفيك " . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض ، ثم نفخ فيها ومسح بها{[7631]} وجهه وكفيه{[7632]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا عفَّان ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عَزْرَة{[7633]} عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى ، عن أبيه ، عن عمار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم : " ضربة للوجه والكفين " {[7634]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا سليمان الأعمش ، حدثنا شقيق قال : كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله : لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل ؟ فقال عبد الله : لا . فقال أبو موسى : أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر : ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل ، فأصابتني جنابة ، فتمرغت في التراب ؟ فلما رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته ، فضحك وقال : " إنما كان يكفيك أن تقول هكذا " ، وضرب بكفيه إلى الأرض ، ثم مسح كفيه جميعا ، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة ؟ فقال عبد الله : لا جرم ، ما رأيت عمر قنع بذاك قال : فقال له أبو موسى : فكيف بهذه الآية في سورة النساء : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا } ؟ قال : فما درى عبد الله ما يقول ، وقال : لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم{[7635]} .
وقال تعالى في آية المائدة : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [ المائدة : 6 ] ، استدل بذلك الشافعي ، رحمه الله تعالى ، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء ، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة : أنه مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه .
وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } أي : في الدين الذي شَرَعه لكم { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فلهذا أباح إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَةُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم ، كما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي :
نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسِيرةَ شهر وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وفي لفظ : فعنده طَهُورُه مسجده - وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة " {[7636]} .
وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها{[7637]} طهورا إذا لم نجد الماء " .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } أي : ومن عفوه عنكم وغَفره لكم أن شرع{[7638]} التيمم ، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم{[7639]} الماء توسعة عليكم ورخصة لكم ، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول ، أو جنابة حتى يغتسل ، أو حدث حتى يتوضأ ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء ، فإن الله ، عز وجل ، قد أرخص في التيمم والحالة هذه ، رحمة بعباده ورأفة بهم ، وتوسعة عليهم ، ولله الحمد والمنة .
وإنما ذكرنا ذلك هاهنا ؛ لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة ، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر ، والخمر إنما حرم بعد أحد ، يقال : في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير ، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ، ولا سيما صدرها ، فناسب أن يذكر السبب هاهنا ، وبالله الثقة .
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها استعارت من أسماء قلادة ، فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوها بغير وضوء ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا ، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا{[7640]} .
طريق أخرى : قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا في البيداء{[7641]} - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ! فجاء أبو بكر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ! قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا ، فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بَركتكم يا آل أبي بكر . قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته .
وقد رواه البخاري أيضًا عن قُتيبة وإسماعيل . ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن مالك{[7642]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح قال : قال ابن شهاب : حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار بن ياسر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته ، فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ، وذلك حتى أضاء الفجر ، وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله ، عز وجل ، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط{[7643]} .
وقد رواه ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا صيفي ، عن ابن أبي ذئب ، ] عن الزُّهْري[ {[7644]} عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي اليقظان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلك عقد لعائشة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر{[7645]} فتغيّظ أبو بكر على عائشة ] رضي الله عنها[ {[7646]} فنزلت عليه الرخصة : المسح بالصعيد الطيب . فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة ! نزلت فيك رخصة ! فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا ، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط . {[7647]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا العلاء{[7648]} بن أبي سوية ، حدثني الهيثم عن زُرَيق{[7649]} المالكي - من بني مالك بن كعب بن سعد ، وعاش مائة وسبع عشرة سنة - عن أبيه ، عن الأسلع بن شريك قال : كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقتة وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضَفت أحجارًا فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت . ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : " يا أسلع ، مالي أرى رحلتك تغيرت ؟ " قلت : يا رسول الله ، لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : " ولم ؟ " قلت : إني أصابتني جنابة ، فخشيت القُرَّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله تعالى : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم ] إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } وقد روي من وجه آخر عنه .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } أي لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من نحو نوم أو خمر حتى تنتهوا وتعلموا ما تقولون في صلاتكم . روي ( أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه صنع مادبة ودعا نفرا من الصحابة -حين كانت الخمر مباحة- فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلي بهم فقرأ : أعبد ما تعبدون ) . فنزلت . وقيل أراد بالصلاة مواضعها وهي المساجد وليس المراد منه نهي السكران عن قربان الصلاة ، وإنما المراد النهي عن الإفراط في الشرب والسكر ، من السكر وهو السد . وقرئ { سكارى } بالفتح وسكرى على أنه جمه كهلكى . أو مفرد بمعنى وأنتم قوم سكرى ، أو جماعة سكرى وسكرى كحبلى على أنها صفة للجماعة . { ولا جنبا } عطف على قوله { وأنتم سكارى } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، لأنه يجري مجرى المصدر . { إلا عابري سبيل } متعلق بقوله { ولا جنبا } ، استثناء من أعم الأحوال أي لا تقربوا الصلاة جنبا في عامة الأحوال إلا في السفر وذلك إذا لم يجد الماء وتيمم ، ويشهد له تعقيبه بذكر التيمم ، أو صفة لقوله { جنبا } أي جنبا غير عابري سبيل . وفيه دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث . ومن فسر الصلاة بمواضعها فسر عابري سبيل بالمجتازين فيها ، وجوز الجنب عبور المسجد . وبه قال الشافعي رضي الله عنه . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : لا يجوز له المرور في المسجد إلا إذا كان فيه الماء أو الطريق . { حتى تغتسلوا } غاية النهي عن القربان حال الجنابة ، وفي الآية تنبيه على أن المصلي ينبغي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، ويزكي نفسه عما يجب تطهيرها عنه . { وإن كنتم مرضى } مرضا يخاف معه من استعمال الماء ، فإن الواجد كالفاقد . أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه . { أو على سفر } لا تجدونه فيه . { أو جاء أحد منكم من الغائط } فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين ، وأصل الغائط المكان المطمئن من الأرض . { أو لامستم النساء } أو ما مسستم بشرتهن ببشرتكم ، وبه استدل الشافعي على أن اللمس ينقض الوضوء . وقيل : أو جامعتموهن . وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة " لمستم " ، واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة . { فلم تجدوا ماء } فلم تتمكنوا من استعماله ، إذ الممنوع عنه كالمفقود . ووجه هذا التقسيم أن المترخص بالتيمم إما محدث أو جنب ، والحالة المقتضية له في غالب الأمر مرض أو سفر . والجنب لما سبق ذكره اقتصر على بيان حاله والمحدث لما لم يجر ذكره ذكر من أسبابه ما يحدث بالذات وما يحدث بالعرض ، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل حال الجنب وبيان العذر مجملا فكأنه قيل : وإن كنتم جنبا مرضى أو على سفر أو محدثين جئتم من الغائط أو لامستم فلم تجدوا ماء { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } . أي فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا . ولذلك قالت الحنفية : لو ضرب المتيمم يده على حجر صلد ومسح به أجزأه . وقال أصحابنا لا بد من أن يعلق باليد شيء من التراب لقوله تعالى في المائدة { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أي بعضه ، وجعل من لابتداء الغاية تعسف إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض ، واليد اسم للعضو إلى المنكب ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ها هنا { وأيديكم إلى المرافق } . { إن الله كان عفوا غفورا } فلذلك يسر الأمر عليكم ورخص لكم .
سبب النهي عن قرب الصلاة في حال سكر : أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربت الخمر عند أحدهم قبل التحريم ، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، فحضرت الصلاة ، فتقدمهم علي بن أبي طالب ، فقرأ { قل يا أيها الكافرون } [ الكافرون : 1 ] فخلط فيها ، بأن قال : «أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد » ، فنزلت الآية ، وروي أن المصلي عبد الرحمن بن عوف{[4055]} .
وجمهور المفسرين على أن المراد سكر الخمر ، إلا الضحاك ، فإنه قال : إنما المراد سكر النوم{[4056]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، والخطاب لجميع الأمة الصاحين ، وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت ، وإنما هو مخاطب إذا صحا بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضاع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر ، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق ، على ما ذهب إليه بعض الناس .
وقرأت فرقة { سكارى } جمع سكران{[4057]} ، وقرأت فرقة «سَكرى » بفتح السين على مثال فعلى وقرأ الأعمش : «سُكرى » بضم السين وسكون الكاف على مثال فعلى ، وقرأ النخعي «سَكرى » بفتح السين{[4058]} . قال أبو الفتح : هو تكسير سكران على سكارى ، كما قالوا : روبى نياماً{[4059]} وكقولهم : هلكى وميدى{[4060]} في جمع هالك ومائد ، ويحتمل أن يكون صفة لمؤنثة واحدة ، كأن المعنى وأنتم جماعة سكرى ، وأما «سُكرى » بضم السين فصفة لواحدة ، كحبلى ، والسكر انسداد الفهم ، ومنه سكرت الماء إذا سددت طريقه ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا العبادة المعروفة ، حسب السبب في نزول الآية ، وقالت طائفة : { الصلاة } هنا المراد بها موضع الصلاة والصلاة معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين{[4061]} .
قال القاضي أبو محمد : وإنما احتيج إلى هذا الخلاف بحسب ما يأتي في تفسير عابري السبيل ، ويظهر من قوله : { حتى تعلموا } أن السكران لا يعلم ما يقول ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره : إن السكران لا يلزمه طلاقه ، فأسقط عنه أحكام القول ، لهذا ، ولقول النبي عليه السلام للذي أقر بالزنى أسكران أنت ؟ فمعناه : أنه لو كان سكران لم يلزمه الإقرار .
قال القاضي أبو محمد : وبين طلاق السكران وإقراره بالزنى فرق ، وذلك أن الطلاق والإقرار بالمال والقذف وما أشبهه هذا يتعلق به حقوق الغير من الآدميين ، فيتهم السكران إن ادعى أنه لم يعلم ، ويحكم عليه حكم العالم ، والإقرار بالزنا إنما هو حق لله تعالى ، فإذا ادعى فيه بعد الصحو أنه كان غير عالم دين ، وأما أحكام الجنايات ، فهي كلها لازمة للسكران { وأنتم سكارى } ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال ، وحكي عن ابن فورك أنه قال : معنى الآية النهي عن السكر ، أي لا يكن منكم سكر ، فيقع قرب الصلاة ، إذ المرء مدعو إلى الصلاة دأباً ، والظاهر أن الأمر ليس كذلك ، وقد روي : أن الصحابة بعد هذه الآية كانوا يشربون ويقللون اثر الصبح واثر العتمة ، ولا تدخل عليهم صلاة إلا وهم صاحون .
وقوله : { ولا جنباً } عطف على موضع هذه الجملة المنصوبة{[4062]} ، والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان ، هذا قول جمهور الأمة ، وروي عن بعض الصحابة : لا غسل إلا على من أنزل{[4063]} ، وهو من الجنابة ، وهي : البعد ، كأنه جانب الطهر أو من الجنب ، كأنه ضاجع ومس بجنبه جنباً ، وقرأت فرقة «جنْباً » بإسكان النون ، و { عابري سبيل } هو من العبور أي : الخطور والجواز ، ومنه : عبر السفينة النهر ، ومنه : ناقة عبر السير والفلاة والمهاجرة{[4064]} ، أي تعبرها بسرعة السير ، قال الشاعر : وهي امرأة : [ الكامل ]
عَيْرَانَةٌ سَرْحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ *** عَبْرَ الهَوَاجِرِ كَالْهُزُفِّ الخَاضِبِ{[4065]}
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم : عابر السبيل هو المسافر ، فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ، وقال ابن عباس أيضاً وابن مسعود وعكرمة والنخعي وغيرهم : عابر السبيل الخاطر في المسجد ، وهو المقصود في الآية ، وهذا يحتاج إلى ما تقدم من أن القول بأن الصلاة هي المسجد والمصلى ، وروى بعضهم : أن سبب نزول الآية { أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد ، فنزلت الآية في ذلك{[4066]} ، ثم نزلت { وإن كنتم مرضى } إلى آخر الآية ، بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة " المريسيع " {[4067]} حين أقام على التماس العقد{[4068]} ، هكذا قال الجمهور ، وقال النخعي : نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية ، ذكر النقاش : أن ذلك نزل بعبد الرحمن بن عوف ، والمريض المقصود في هذه الآية هو الحضري ، والذي يصح له التيمم هو الذي يخاف الموت لبرد الماء وللعلة به ، وهذا يتيمم بإجماع ، إلا ما روي عن عطاء : أنه يتطهر وإن مات ، والذي يخاف حدوث علة على علة أو زيادة علة والذي يخاف بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب فيما حفظت ، والأسباب التي لا يجد المريض بها الماء هي إما عدم المناول ، وإما خوف ما ذكرناه ، وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ، وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة المجدور ، والمحصوب ، والعلل المخوف عليها من الماء ، والمسافر في هذه الآية : هو الغائب عن الحضر ، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر ، هذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء ، وقال الشافعي في كتاب الأشراف ، وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر يجوز فيه التقصير ، وهذا ضعيف .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك قالت فرقة : لا يتيمم في سفر معصية ، وهذا أيضاً ضعيف ، والأسباب التي لا يجد بها المسافر الماء هي إما عدمه جملة ، وإما خوف فوات الرفيق بسبب طلبه ، وإما خوف على الرجل بسبب طلبه ، وإما خوف سباع أو إذاية عليه ، واختلف في وقت إيقاعه التيمم ، فقال الشافعي : في أول الوقت ، وقال أبو حنيفة وغيره : في آخر الوقت ، وفرق مالك بين اليائس والعالم الطامع بإدراكه في الوقت ، والجاهل بأمره جملة ، وقال إسحق بن راهويه : لا يلزم المسافر طلب الماء إلا بين يديه وحوله ، وقالت طائفة : يخرج من طلبه الغلوتين{[4069]} ونحوهما ، وفي مذهب مالك يمشي في طلبه ثلاثة أميال ، وقال الشافعي : يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو فوات الوقت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، وأصل { الغائط } ما انخفض من الأرض ، وكانت العرب تقصد بقضاء حاجتها ذلك الصنف من المواضع ، حتى كثر استعماله في قضاء الحاجة وصار عرفه ، وقرأ قتادة الزهري «من الغيْط » ساكنة الياء من غير ألف ، قال ابن جني : هو محذوف من فيعل ، عين هذه الكلمة واو{[4070]} ، وهذا اللفظ يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى ، واختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما اعتقد في ذلك : أن أنواع الأحداث ثلاثة ، ما خرج من السبيلين معتاداً ، وما أذهب العقل ، واللمس ، هذا على مذهب مالك ، وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من النجاسات من الجسد ، ولا يراعى المخرج ولا غيره ، ولا يعد اللمس فيها ، وعلى مذهب الشافعي ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، والإجماع من الأحداث على تسعة ، أربعة من الذكر ، وهي البول والمني والودي والمذي ، وواحد من فرج المرأة وهو دم الحيض ، واثنان من الدبر ، وهما الريح والغائط ، وذهاب العقل كالجنون والإغماء والنوم الثقيل ، فهذه تنقض الطهارة الصغرى إجماعاً ، وغير ذلك كاللمس والدود يخرج من الدبر وما أشبهه مختلف فيه ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم { لامستم } وقرأ حمزة والكسائي «لمستم » وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع ، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه ، إذ في جميع ذلك لمس ، واختلف أهل العلم في موقعها هنا : فمالك رحمه الله يقول : اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين ، فالملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم ، لأن اللمس نقض وضوءه ، وقالت طائفة : هي هنا مخصصة للمس اليد ، والجنب لا ذكر له إلا مع الماء ، ولا سبيل له إلى التيمم ، وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وعن عبد الله بن مسعود وغيرهما ، وقال أبو حنيفة : هي هنا مخصصة للمس الذي هو الجماع ، فالجنب يتيمم ، واللامس باليد لم يجر له ذكر فليس بحدث ، ولا هو ناقض لوضوء ، فإذا قبّل الرجل امرأته للذة لم ينتقض وضوءه ، ومالك رحمه الله يرى : أن اللمس ينقض إذا كان للذة ، ولا ينقض إذا لم يقصد به اللذة ، ولا إذا كان لابنة أو لأم ، والشافعي رحمه الله يعمم لفظة { النساء } ، فإذا لمس الرجل عنده أمه أو ابنته على أي وجه كان انتقض وضوءه ، وعدم وجود الماء يترتب للمريض وللمسافر حسبما ذكرناه ، ويترتب للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف ، واختلف فيه ، فقال الحسن : يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديماً ، وهذا قول ضعيف ، لأن دين الله يسر كما قال صلى الله عليه وسلم ، ويريد بنا اليسر ولم يجعل علينا في الدين من حرج ، وقالت طائفة : يشتري ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعداً ، وقالت طائفة : يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاثة ، ونحو هذا ، وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله ، وقيل لأشهب : أيشتري القربة بعشرة دراهم ؟ فقال ما أرى ذلك على الناس .
قال القاضي أبو محمد : وقدر هذه المسألة إنما هو بحسب غنى المشتري وحاجته ، والوجه عندي أن يشتري ما لم يؤذ غلاؤه ، ويترتب أيضاً عدم الماء للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهذا هو الذي يقال فيه : إنه لم يجد ماء ولا تراباً ، كما ترجم البخاري ، ففيه أربعة أقوال ، فقال مالك وابن نافع : لا يصلي ولا يعيد ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد وقال اصبغ : لا يصلي ويقضي ، إذا خاف الحضري فوات الوقت إن تناول الماء ، فلمالك رحمه الله قولان في المدونة : إنه يتيمم ولا يعيد ، وقال : إنه يعيد ، وفي الواضحة وغيرها عنه : أنه يتناول الماء ويغتسل وإن طلعت الشمس . وعلى القول بأنه يتيمم ولا يعيد إذا بقي من الوقت شيء بقدر ما كان يتوضأ ويصلي ركعة ، فقيل : يعيد ، وقيل : لا يعيد ، ومعنى قوله { فتيمموا } في اللغة : اقصدوا ، ومنه قول امرىء القيس [ الطويل ]
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عُرْمُضُها طَامي{[4071]}
ومنه قول أعشى بني ثعلبة : [ المتقارب ]
تَيَمَّمْت قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ{[4072]}
ثم غلب هذا الاسم في الشرع على العبادة المعروفة ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، قاله الخليل وغيره ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
كأَنَّه بالضُّحى تَرمي الصَّعيدَ بِهِ *** دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ{[4073]}
واختلف الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب ، فقالت طائفة : يتيمم بوجه الأرض ، تراباً كان أو رملاً أو حجارة أو معدناً أو سبخة ، وجعلت «الطيب » بمعنى الطاهر ، وهذا مذهب مالك ، وقالت طائفة منهم : «الطيب » بمعنى الحلال ، وهذا في هذا الموضع قلق ، وقال الشافعي وطائفة : «الطيب » بمعنى المنبت ، كما قال جل ذكره
{ والبلد الطيب يخرج نباته }{[4074]} فيجيء الصعيد على هذا التراب ، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغير ذلك مما ذكرناه ، فمكان الإجماع : أن يتيمم الرجل في تراب منبت طاهر غير منقول ولا مغصوب ، ومكان الإجماع في المنع : أن يتيمم الرجل على الذهب الصرف ، أو الفضة والياقوت والزمرد ، أو الأطعمة ، كالخبز واللحم وغيرهما ، أو على النجاسات - واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز ، وهو مذهب مالك ، ومنع وهو مذهب الشافعي ، وأشار أبو الحسن اللخمي إلى أن الخلاف فيه موجود في المذهب ، وأما الملح فأجيز في المذهب المعدني والجامد ، ومنعا ، وأجيز المعدني ومنع الجامد ، والثلج في المدونة جوازه ، ولمالك في غيرها منعه ، وذكر النقاش عن ابن علية وابن كيسان : أنهما أجازا التيمم بالمسك والزعفران .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خطأ بحت من جهات ، وأما التراب المنقول في طبق وغيره ، فجمهور المذهب جواز التيمم به ، وفي المذهب المنع ، وهو في غير المذهب أكثر ، وأما ما طبخ كالآجر والجص ففيه في المذهب قولان ، الإجازة والمنع ، وفي التيمم على الجدار الخلاف ، وأما التيمم على النبات والعود فاختلف فيه في مذهب مالك ، فالجمهور على منع التيمم على العود ، وفي مختصر الوقار{[4075]} : أنه جائز ، وحكى الطبري في لفظة «الصعيد » اختلافاً : أنها الأرض الملساء وأنها الأرض المستوية ، وأن «الصعيد » التراب ، وأنه وجه الأرض .
وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين ، وبه قال الجمهور ، ووقع في حديث عمار في البخاري في بعض الطرق تقديم اليدين{[4076]} ، وقاله بعض أهل العلم : قياساً على تنكيس الوضوء ، وتراعى في الوجه حدوده المعلومة في الوضوء ، فالجمهور على أن استيعابه بالمسح في التيمم واجب ، ويتتبعه كما يصنع بالماء ، وأن لا يقصد ترك شيء منه ، وأجاز بعضهم أن لا يتتبع كالغضون في الخفين ، وما بين الأصابع في اليدين{[4077]} ، وهو في المذهب قول محمد بن مسلمة ، ومذهب مالك في المدونة : أن التيمم بضربتين ، وقال ابن الجهم : التيمم واحدة ، وقال مالك في كتاب محمد : إن تيمم بضربة أجزأه ، وقال غيره في المذهب : يعيد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، وقال مالك في المدونة : يبدأ بأصابع اليسرى على أصابع اليمنى ، ثم يمر كذلك إلى المرفق ، ثم يلوي بالكف اليسرى على باطن الذراع الأيمن ، حتى يصل إلى الكوع ، ثم يفعل باليمنى على اليسرى كذلك ، فظاهر هذا الكلام أنه يستغنى عن مسح الكف بالأخرى ، ووجهه أنهما في الإمرار على الذراع ماسحة ممسوحة ، قال ابن حبيب : يمر بعد ذلك كفيه ، فهذا مع تحكيم ظاهر المدونة خلاف ، قال اللخمي : في كلام المدونة يريد ثم يمسح كفه بالأخرى فيجيء على تأويل أبي الحسن كلام ابن حبيب تفسيراً ، وقالت طائفة : يبدأ بالشمال كما في المدونة ، فإذا وصل على باطن الذراع إلى الرسغ ، مشى على الكف ، ثم كذلك باليمنى في اليسرى ، ووجه هذا القول أن لا يترك من عضو بعد التلبس به موضعاً ، ثم يحتاج إلى العودة إليه بعد غيره ، وقالت طائفة : يتناول بالتراب كما يتناول بالماء في صورة الإمرار دون رتبة ، وقال مالك في المدونة : في المذهب بمسح يديه إلى المرفقين ، فإن مسح إلى الكوعين أعاد في الوقت ، وقال ابن نافع : يعيد أبداً ، قال غيرهما : في المذهب يمسح إلى الكوعين وهذا قول مكحول وجماعة من العلماء ، وفي غير المذهب يمسح الكفين فقط ، وفي ذلك حديث عن عمار بن ياسر{[4078]} ، وهو قول الشعبي ، وقال ابن شهاب : يمسح إلى الآباط ، وذكره الطبري عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة حين نزلت آية التيمم : إنك لمباركة ، نزلت فيك رخصة ، فضربنا ضربة لوجوهنا ، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط ، {[4079]} وفي مصنف أبي داود عن الأعمش : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسح إلى أنصاف ذراعيه ، ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء فيما حفظت ، وما حكى الداودي{[4080]} من أن الكوعين فرض والمرافق سنة والآباط فضيلة ، فكلام لا يعضده قياس ولا دليل ، وإنما عمم قوم لفظة اليد فأوجبوه من المنكب ، وقاس قوم على الوضوء فأوجبوه من المرافق ، وعمم جمهور الأمة{[4081]} ، ووقف قوم مع الحديث في الكوعين ، وقيس أيضاً على القطع{[4082]} ، إذ هو حكم شرعي وتطهير ، كما هذا تطهير ، ووقف آخرون مع حديث عمار في الكفين ، واختلف المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين ، يجب ولا يجب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}... فتركوا شربها إلا من بعد صلاة الفجر إلى الضحى الأكبر، فيصلون الأولى وهم أصحياء... {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، ثم استثنى المسافر الذي لا يجد الماء، فقال سبحانه: {إلا عابري سبيل}.
{وإن كنتم مرضى أو على سفر}، يعني به جرحا فوجدتم الماء، فعليكم التيمم...
{أو جاء أحد منكم من الغائط}، يعني الخلاء، {أو لمستم النساء}، يعني جامعتم، {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، يقول: الصحيح الذي لا يجد الماء، والمريض الذي يجد الماء يتيمموا {صعيدا طيبا}، يعني حلالا طيبا، {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} إلى الكرسوع.
{إن الله كان عفوا} عنكم {غفورا} لما كان منكم قبل النهي عن السكر والصلاة والتيمم بغير وضوء...
- ابن رشد: قال مالك في تفسير هذه الآية: {وإن كنتم مرضى أو على سفر}: أن ذلك في المريض الذي لا يستطيع أن ينهض إلى الماء، ولا يجد من يناوله إياه، فإذا كان كذلك يتيمم كما يتيمم المسافر إذا لم يجد الماء.
- ابن العربي: قال مالك: قبلة الرجل امرأته، وجسها بيده: من الملامسة. -ابن العربي: قال مالك: الصعيد وجه الأرض...
{لا تَقْرَبُوا اَلصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَراى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}: يقال نزلت قبل تحريم الخمر، وأيما كان نزولها قبل تحريم الخمر أو بعده، فمن صلى سكران لم تجز صلاته، لنهي الله عز وجل إياه عن الصلاة حتى يعلم ما يقول. وإن معقولا أن الصلاة قول وعمل، وإمساك في مواضع مختلفة، ولا يؤدي هذا إلا من أمر به ممن عقله. وعليه إذا صلى سكران أن يعيد إذا صحا، ولو صلى شارب محرم غير سكران كان عاصيا في شربه المحرم، ولم يكن عليه إعادة صلاة، لأنه ممن يعقل ما يقول، والسكران الذي لا يعقل ما يقول، وأحب إلي لو أعاد...
وأقل السكر أن يكون يغلب على عقله في بعض ما لم يكن يغلب عليه قبل الشرب. ومن غلب على عقله بوسن ثقيل، فصلى وهو لا يعقل، أعاد الصلاة إذا عقل وذهب عنه الوسن، ومن شرب شيئا ليذهب عقله، كان عاصيا بالشرب، ولم تجز عنه صلاته، وعليه وعلى السكران إذا أفاقا قضاء كل صلاة صلياها وعقولهما ذاهبة. (الأم: 1/69-70. ون أحكام الشافعي: 1/57-58. والرسالة: 120-121.)...
{لا تَقْرَبُوا اَلصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَراى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا اِلا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ}: فأوجب الله عز وجل الغسل من الجنابة، فكان معروفا في لسان العرب أن الجنابة: الجماع، وإن لم يكن مع الجماع ماء دافق، وكذلك ذلك في حد الزنا، وإيجاب المهر، وغيره...
{لا تَقْرَبُوا اَلصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَراى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا اِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ}: فقال بعض أهل العلم بالقرآن في قول الله عز وجل: {وَلا جُنُبًا اِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} قال: لا تقربوا مواضع الصلاة. وما أشبه ما قال بما قال لأنه ليس في الصلاة عبور سبيل، إنما عبور السبيل في موضعها وهو المسجد. فلا بأس أن يمر الجنب في المسجد مارا، ولا يقيم فيه لقول الله عز وجل: {وَلا جُنُبًا اِلا عَابِرِي سَبِيلٍ}...
- {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}: وكل ما وقع عليه اسم صعيد لم تخالطه نجاسة، فهو صعيد طيب يتيمم به. وكل ما حال عن اسم صعيد لم يتيمم به؛
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: صدّقوا الله ورسوله. {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ}: لا تصلوا {وأَنْتُمْ سُكَارَى}: وهو جمع سكران، {حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} في صلاتكم، وتقرؤون فيها مما أمركم الله به، أو ندبكم إلى قيله فيها مما نهاكم عنه وزجركم.
ثم اختلف أهل التأويل في السكر الذي عناه الله بقوله: {لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى}؛
فقال بعضهم: عنى بذلك: السكر من الشراب...عن ابن عباس: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى} قبل أن تحرم الخمر، فقال الله: {يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى}... نهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريم الخمر.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى من النوم. وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، تأويل من قال ذلك: نهى من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر، للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك نهي من الله.
{وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها جنبا "إلا عابري سبيل"، يعني: إلا أن تكونوا مجتازي طريق: أي مسافرين "حتى تغتسلوا". وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا المصلى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوه جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه. فقال أهل هذه المقالة: أقيمت الصلاة مقام المصلّى والمسجد، إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيامئذ لا يتخلفون عن التجميع فيها، فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة كفاية عن ذكر المساجد والمصلّى الذي يصلون فيه. وأولى القولين بالتأويل لذلك تأويل من تأوّله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ}: إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّساء فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا}، فكان معلوما بذلك أن قوله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُوا} لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ} معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. والعابر السبيل: المجتازه مرّا وقطعا، يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر: إذا قطعه وجازه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار لقوتها: وهي عبْرُ أسفار لقوتها على الأسفار.
{وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى}: من جرح أو جدري وأنتم جنب.
عن ابن مسعود، قوله: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ} قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم هو الكسير والجريح، فإذا أصابت الجنابة الكسير اغتسل، والجريح لا يحلّ جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها.
عن السديّ: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} والمرض: هو الجراح والجراحة التي يتخوّف عليها من الماء إن أصابه ضَرّ صاحبه، فذلك يتيمم صعيدا طيبا.
عن سعيد بن جبير في قوله: {وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} قال: إذا كان به جروح أو قروح يتيمم.
وقال آخرون: المريض الذي لا يجد أحدا يأتيه بالماء ولا يقدر عليه، وليس له خادم، ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبو إليه، تيمم وصلى إذا حلت الصلاة. وهو أعذر من المسافر.
فتأويل الآية إذا: وإذا كنتم جرحى أو بكم قروح أو كسر أو علة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة، وأنتم مقيمون غير مسافرين، فتيمموا صعيدا طيبا.
{أوْ على سَفَرٍ}: أو إن كنتم مسافرين وأنتم أصحاء جنب، فتيمموا صعيدا. وكذلك تأويل قوله: {أوْ جاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ} يقول: أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح، فليتيمم صعيدا طيبا. والغائط: ما اتسع من الأودية وتصوّب، وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان، لأن العرب كانت تختار قضاء حاجتها في الغيطان فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تُقْضى في الغيطان حيث قضاها من الأرض: متغوّط، جاء فلان من الغائط يعني به: قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الأرض.
{أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ}: أو باشرتم النساء بأيديكم.
ثم اختلف أهل التأويل في اللمس الذي عناه الله بقوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ}؛ فقال بعضهم: عَنَى بذلك: الجماع... عن ابن عباس قال: اللمس والمسّ والمباشرة: الجماع، ولكن الله يكني بما شاء.
وقال آخرون: عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء جسد الإنسان. وأوجبوا الوضوء على من مسّ بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه... القبلة من المسّ...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ.
حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السديّ، قال: أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة، قالت: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلي ولا يتوضأ».
حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، قال: حدثنا أبي، قال: ثني يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أمّ سلمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءا».
ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلالة الواضحة على أن اللمس في هذا الموضع لمس الجماع لا جميع معاني اللمس... وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جنابة وهم جراح.
وقال آخرون: نزلت في قوم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أعوزهم الماء فلم يجدوه في سفر لهم؛
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة أنها قالت: كنت في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الجيش، ضَلّ عقدي، فأخبرت بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأمر بالتماسه، فالتمس فلم يوجد. فأناخ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأناخ الناس، فباتوا ليلتهم تلك¹ فقال الناس: حبست عائشة النبيّ صلى الله عليه وسلم! قالت: فجاء إليّ أبو بكر، ورأس النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجري وهو نائم، فجعل يهمزني ويقرصني ويقول: من أجل عقدك حبست النبيّ صلى الله عليه وسلم! قالت: فلا أتحرّك مخافة أن يستيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أوجعني فلا أدري كيف أصنع. فلما رآني لا أحير إليه انطلق فلما استيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأراد الصلاة فلم يجد ماء. قالت: فأنزل الله تعالى آية التيمم. قالت: فقال ابن حضير: ما هذا بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر... ووجدت القلادة في مناخ البعير، فقال الناس: ما رأينا امرأة أعظم بركة منها.
{فلم تَجِدُوا مَاءً}: أو لمستم النساء، فطلبتم الماء لتتطهروا به، فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن، {فَتَيَمّمُوا} يقول: فتعمدوا، وهو تفعلوا من قول القائل: تيممت كذا: إذا قصدته...
{فَتيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا}: تحرّوا وتعمدوا صعيدا طيبا.
وأما الصعيد، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس.
وقال آخرون: بل هو الأرض المستوية.
وقال آخرون: بل الصعيد: التراب.
وقال آخرون: الصعيد: وجه الأرض.
وقال آخرون: بل هو وجه الأرض ذات التراب والغبار.
وأولى ذلك بالصواب قول من قال: هو وجه الأرض الخالية من النبات والغروس والبناء، المستوية. وأما قوله طيبا، فإنه يعني به: طاهرا من الأقذار والنجاسات.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: {طَيّبا}؛
فقال بعضهم: حلالاً. وقال بعضهم: عن ابن جريج قراءة، قال: قلت لعطاء: {فتيمّمُوا صَعيدا طيّبا} قال: الطيب: ما حولك. قلت: مكان جَرْدٌ غير أبطح، أيجزئ عني؟ قال: نعم.
ومعنى الكلام: فإن لم تجدوا ماء أيها الناس، وكنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لمستم النساء، فأردتم أن تصلوا فتيمموا، يقول: فتعمدوا وجه الأرض الطاهرة، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم.
{فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ}: فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم، ولكنه ترك ذكر «منه» اكتفاء بدلالة الكلام عليه. والمسح منه بالوجه أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض الطاهر، أو ما قام مقامه، فيمسح بما علق من الغبار وجهه، فإن كان الذي علق به الغبار كثيرا، فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو جائز. وإن لم يعلق بيديه من الغبار شيء، وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه أجزأه ذلك، لإجماع جميع الحجة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد وهو أرض رمل فلم يعلق بيديه منها شيء فتيمم به أن ذلك مجزئه، لم يخالف ذلك من يجوز أن يعتدّ بخلافه. فلما كان ذلك إجماعا منهم كان معلوما أن الذي يراد به من ضرب الصعيد باليدين مباشرة الصعيد بهما بالمعنى الذي أمر الله بمباشرته بهما، لا لأخذ تراب منه. وأما المسح باليدين، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحدّ الذي أمر الله بمسحه من اليدين؛
فقال بعضهم: حدّ ذلك الكفان إلى الزندين، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين... التيمم: ضربة للوجه والكفين.
وعلة من قال هذه المقالة من الأثر ما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيمم، فقال: «مَرّةً للكَفّيْنِ والوَجْهِ».
وقالوا: أمر الله في التيمم بمسح الوجه واليدين، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس.
وقال آخرون: حدّ المسح الذي أمر الله به في التيمم أن يمسح جميع الوجه واليدين إلى المرفقين...
وعلة من قال هذه المقالة أن التيمم بدل من الوضوء على المتيمم أن يبلغ بالتراب من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه بالماء منهما في الوضوء. واعتلوا من الأثر بما:
حدثني به موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا خارجة بن مصعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلمت عليه فلم يردّ عليّ، فلما فرغ قام إلى حائط، فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الحائط، فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم رد عليّ السلام.
وقال آخرون: الحدّ الذي أمر الله أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم الآباط
وعلة من قال ذلك أن الله أمر بمسح اليد في التيمم كما أمر بمسح الوجه، وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه، فكذلك عليه جميع اليد، ومن طرف الكف إلى الإبط يد. واعتلوا من الخبر بما:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا صيفي بن ربعي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح، فتغيظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه الرخصة المسح بالصعيد، فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة، نزل فيك رخصة! فضربنا بأيدينا ضربة لوجهنا، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط.
والصواب من القول في ذلك أن الحدّ الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصر عنه في مسحه بالتراب من يديه، الكفان إلى الزندين لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز، ثم هو فيما جاوز ذلك مخير إن شاء بلغ بمسحه المرفقين، وإن شاء الآباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرا فيما جاوز الكفين أن الله لم يحدّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدّا لا يجوز التقصير عنه، فما مسح المتيمم من يديه أجزأه، إلا ما أجمع عليه، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه، وقد أجمع الجميع على أن التقصير عن الكفين غير مجزئ، فخرج ذلك بالسنة، وما عدا ذلك فمختلف فيه، وإذ كان مختلفا فيه، وكان الماسح بكفيه داخلاً في عموم الآية كان خارجا مما لزمه من فرض ذلك.
واختلف أهل التأويل في الجنب، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم لا؟
فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء حكم من جاء من الغائط، وسائر من أحدث ممن جعل التيمم له طهورا لصلاته، وقد ذكرت قول بعض من تأوّل قول الله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ} أو جامعتموهنّ، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال ذلك. واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره بإجماع الحجة على ذلك نقلاً عن نبيها صلى الله عليه وسلم الذي يقطع العذر، ويزيل الشكّ.
وقال جماعة من المتقدمين: لا يجزئ الجنب غير الاغتسال بالماء، وليس له أن يصلي بالتيمم، والتيمم لا يطهره. قالوا: وإنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب، وتأوّلوا قول الله: {وَلا جُنُبا إلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} قالوا: وقد نهى الله الجنب أن يقرب مصلى المسلمين إلا مجتازا فيه حتى يغتسل، ولم يرخص له بالتيمم. قالوا: وتأويل قوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ}: أو لامستموهنّ باليد دون الفرج ودون الجماع. قالوا: فلم نجد الله رخص للجنب في التيمم، بل أمره بالغسل، وأن لا يقرب الصلاة إلا مغتسلاً. قالوا: والتيمم لا يطهره لصلاته... والصواب من القول في ذلك، أن الجنب ممن أمره الله بالتيمم إذا لم يجد الماء والصلاة بقوله: {أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعيدا طَيّبا}. وقد بينا ثم أن معنى الملامسة في هذا الموضع: الجماع بنقل الحجة التي لا يجوز الخطأ فيما نقلته مجمعة عليه ولا السهو ولا التواطؤ والتضافر، بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه التطهر لصلاته، مع ما قد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار التي قد ذكرنا بعضها وتركنا ذكر كثير منها استغناء بما ذكرنا منها عما لم نذكر، وكراهة منا إطالة الكتاب باستقصاء جميعه.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا} هل ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه طلب الماء أم ذلك أمر منه بالتيمم كلما لزمه الطلب وهو محدث حدثا يجب عليه منه الوضوء بالماء لو كان للماء واجدا؟ فقال بعضهم: ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه فرض الطلب بعد الطلب محدثا كان أو غير محدث. عن عليّ رضي الله عنه أنه كان يقول: التيمم لكل صلاة.
عن الشعبي، قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة.
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله بالتيمم بعد طلب الماء من لزمه فرض الطلب إذا كان محدثا، فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره بالتراب فلزمه فرض الطلب، فليس عليه تجديد تيممه، وله أن يصلي بتيممه الأوّل. عن الحسن، قال: التيمم بمنزلة الوضوء.
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: يتيمم المصلى لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضا، لأن الله جلّ ثناؤه أمر كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء، فإن لم يجد الماء فالتيمم، ثم أخرج القائم إلى الصلاة من كان قد تقدم قيامه إليها الوضوء بالماء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون قد أحدث حدثا ينقض طهارته، فيسقط فرض الوضوء عنه بالسنة. وأما القائم إليها وقد تقدم قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها، ففرض التيمم له لازم بظاهر التنزيل بعد طلبه الماء إذا أعوزه.
{إنّ اللّهَ كانَ عَفُوّا غَفُورا}: إن الله لم يزل عفوّا عن ذنوب عباده وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به، كما عفا عنكم أيها المؤمنون عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى. {غَفُورا} يقول: فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذاب على خطاياهم، كما ستر عليكم أيها المؤمنون بتركه معاجلتكم على صلاتكم في مساجدكم سكارى. يقول: فلا تعودوا لمثلها فينالكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك مَنْكَلة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
النّهيُ عن موجب السكر من الشراب لا من الصلاة، أي لا تصادفنكم الصلاة وأنتم بصفة السُّكْر، أي امتنعوا عن شُرْبِ ما يُسْكِر فإنكم إن شربتم سكرتم، ثم إذا صادفكم الصلاة على تلك الحالة لا تُقْبَل منكم صلاتكم. والسُّكْر ذهاب العقل والاستشعار، ولا تَصحُّ معه المناجاة مع الحق. المُصَلِّي يناجي ربَّه؛ فكلُّ ما أوجب للقلب الذهول عن الله فهو ملحق بهذا من حيث الإشارة؛ ولأجل هذه الجملة حَصَلَ. والسُكْرُ على أقسام: فسُكْرٌ من الخمر وسُكْرٌ من الغفلة لاستيلاء حب الدنيا. وأصعب السكر سكرك من نفسك فهو الذي يلقيك في الفرقة عنه، فإنَّ مَنْ سَكِرَ من الخمر فقصاراه الحرقة -إن لم يُغْفَر له. ومن سكر من نفسه فحاله الفرقة- في الوقت -عن الحقيقة... ثم إن التيمم- الذي هو بَدَلُ الماء -أعمُّ وجوداً من الماء، وأقلُّ استعمالاً من الأصل، فإن كل من كان أقرب كانت المطالبات عليه أصعب. ثم في الظاهر أمَرْنا باستعمال التراب وفي الباطن باستشعار الخضوع واستدامة الذبول...
وردَّ التيمم إلى التقليل، وراعى فيه صيانةً لرأسِك عن التُّراب ولقَدَمِك؛ فإنَّ العزَّ بالمؤمن- ومولاه باستحقاق الجلال -أوْلى من الذل لِمَا هو مفلس فيه من الحال، ولئن كان إفلاسه عن أعماله يوجب له التذلُّل فعرفانُه بجلال سيِّده يوجب كل تَعَزُّزٍ وتَجَمُّل...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} قيل: سكارى من كثر الهم وقيل من حب الدنيا. وقال وهب: المراد به ظاهره، ففيه تنبيه على سكر الدنيا إذ بين فيه العلة فقال: {حتى تعلموا ما تقولون}؛ وكم من مصل لم يشرب خمرا وهو لا يعلم ما يقول في صلاته. [نفسه: 1/178]. {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} وهذا خطاب للسكران. قلنا: إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية ولها تأويلان: أحدهما: أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادئ النشاط والطرب، ولم يزل عقله، فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك، ولكنه عاقل وقوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} معناه: حتى يسكن غضبك فيكمل علمك، وإن كان أصل عقله باقيا، وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة مثل هذا السكران، وقد يعسر عليه تصحيح مخارج وتمام الخشوع. الثاني: أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر، وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان، ومعناه: لا تشبع فيثقل عليك التهجد. [المستصفى: 1/ 84-85]...
- {حتى تعلموا ما تقولون} تعليل لنهي السكران، وهو مطرد في الغافل المستغرق الهم بالوسواس وأفكار الدنيا. [الإحياء: 1/]
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِيهَا ثَمَان وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا:
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَمْرٍو -أَنَّهُ صَلَّى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَرَجُلٍ آخَرَ فَقَرَأَ:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَخَلَطَ فِيهَا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الْخَمْرِ؛ فَنَزَلَتْ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}.
وَقَالَ عَلِيُّ ابنُ أَبي طَالِب: «صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا، فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةَ، فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى...} الْآيَةَ. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِأَبْيَنَ مِنْ هَذَا، لَكِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إلَيْهَا هَاهُنَا، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ}:
سَمِعْت الشَّيْخَ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ وَهُوَ يَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي مَجْلِسِ النَّظَرِ؛ قَالَ: يُقَالُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: لَا تَقْرَبْ كَذَا بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ لَا تَلبسْ بِالْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُ مِنْ الْمَوْضِعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ مَسْمُوعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى}:
السُّكْرُ: عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْعَقْلِ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى الْقَانُونِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ النِّظَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أَيْ حُبِسَتْ عَنْ تَصَرُّفِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا، وَمِنْهُ سُكْرُ الْأَنْهَارِ؛ وَهُوَ مَحْبِسُ مَائِهَا، فَكُلُّ مَا حَبَسَ الْعَقْلَ عَنِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ سُكْرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْخَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّوْمِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْفَرَحِ وَالْجَزَعِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّكْرِ سُكْرُ الْخَمْرِ، وَأَنَّ ذَلِكَ إبَّانَ كَانَتِ الْخَمْرُ حَلَالًا، خَلَا الضَّحَّاك فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ سُكَارَى مِنَ النَّوْمِ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ سُكْرِ الْخَمْرِ نَهْيٌ عَنْ سُكْرِ النَّوْمِ فَقَدْ أَصَابَ، وَلَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ؛ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ»: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ كُلِّ قَضَاءٍ فِي حَالِ شُغْلِ الْبَالِ بِنَوْمٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ حَقْنٍ أَوْ حَزْقٍ، فَلَا يَفْهَمُ مَعَهُ كَلَامَ الْخُصُومِ، كَمَا لَا يَعْلَمُ مَا يَقْرَأُ، وَلَا يَعْقِلُ فِي الصَّلَاةِ إذَا دَافَعَهُ الْأَخْبَثَانِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ، بِأَيِّ سَبَبٍ وُجِدَتْ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَقَدْ أَغْنَى هَذَا اللَّفْظُ عَنْ عِلْمِ سَبَبِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ نَائِمٌ؛ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ، فَيَسُبُّ نَفْسَهُ»، فَهَذَا أَيْضًا مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، وَالْحَقُّ يَعْضُدُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فَقَدْ نَرَى الْإِنْسَانَ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ صَلَاتَهُ لِشُغْلِ بَالِهِ، فَلَا يَشْعُرُ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى تَكْمُلَ، وَلَا بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مَا كَانَ عَدَدُهُ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ».
قُلْنَا: إنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْعَبْدِ الِاسْتِشْعَارُ وَإِحْضَارُ النِّيَّةِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ، فَإِنْ ذَهِلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ سُومِحَ فِيهِ مَا لَمْ يُكْثِرْ؛ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَكْلِيفُ الْعِبَادِ بِهِ؛ وَلَيْسَ حَالُ عُمَرَ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ نَظَرٌ فِي عِبَادَةٍ لِعِبَادَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْهَا، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لَحْظَةً مَعَ الْغَلَبَةِ ثُمَّ يَصْحُو إلَى نَفْسِهِ، بِخِلَافِ السَّكْرَانِ وَالنَّائِمِ وَالْغَاضِبِ وَمُدَافِعِ الْأَخْبَثَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُ ذِهْنِهِ لِغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: فَائِدَةُ الْوُجُودِ الِاسْتِعْمَالُ وَالِانْتِفَاعُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}، فَلَمْ تَقْدِرُوا؛ لِيَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوُجُوهَ الْمُتَقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا، وَهِيَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ صُورَةً، وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ لِضَرُورَةٍ صَارَ مَعْدُومًا حُكْمًا؛ فَالْمَعْنَى الَّذِي يَجْمَعُ نَشْرَ الْكَلَامِ (فَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ). وَهَذَا يَعُمُّ الْمَرَضَ وَالصِّحَّةَ إذَا خَافَ مِنْ أَخْذِ الْمَاءِ لِصًّا أَوْ سَبُعًا، وَيَجْمَعُ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ؛ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الصَّرِيحُ، وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ، وَالْأَصْوَبُ بِالتَّصْحِيحِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بِزَائِدٍ عَلَى قِيمَتِهِ جَعَلَهُ مَعْدُومًا حُكْمًا، وَقِيلَ لَهُ تَيَمَّمْ.
وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوُجُودُ الْحُكْمِيُّ، لَيْسَ الْوُجُودَ الْحِسِّيَّ؛ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: إنَّ مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، إنَّهُ يَتَمَادَى وَلَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ: يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ لِعَيْنِهِ لَا يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ، كَمَا لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَعَلَيْهِ لِصٌّ أَوْ سَبُعٌ، أَوْ رَآهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِوُجُودِ مَقْرُونٍ بِالْقُدْرَةِ؛ وَإِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَلَا قُدْرَةَ لَهُ إلَّا بَعْدَ إبْطَالِهَا، وَلَا تَبْطُلُ إلَّا بَعْدَ اقْتِرَانِ الْقُدْرَةِ بِالْمَاءِ، فَلَا بُطْلَانَ لَهَا؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَوْرِيَّةٌ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي "كِتَابِ التَّلْخِيصِ "فَلْتُنْظَرْ فِيهِ؛ وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةٌ؛ هِيَ إذَا نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ، فَإِنَّ النَّاسِيَ لَا يُعَدُّ وَاجِدًا وَلَا يُخَاطَبُ فِي حَالِ نِسْيَانِهِ؛ فَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ: إنَّهُ يُجْزِئُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ: دُخُولُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَانْتِظَامِهَا بِهِمَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَفْوَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إسْقَاطُهُ لِحُقُوقِهِ أَوْ بَذْلُهُ لِفَضْلِهِ، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ فَوَجْهُ الْإِسْقَاطِ هَاهُنَا تَخْفِيفُ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ رُدَّ بِأَكْثَرَ لَلَزِمَ، وَوَجْهُ بَدَلِهِ إعْطَاؤُهُ الْأَجْرَ الْكَثِيرَ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ، وَرَفْعُهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ وَضَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، وَمَغْفِرَتُهُ سَتْرُهُ عَلَى الْمُقَصِّرِينَ فِي الطَّاعَاتِ..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم، ومنعت قوة يد القهر والجبر أن يكتم حديثاً، وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم، والذي خطرت معاني اللطف والجمال فهي الالتفات إلى غيره، وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال: {يا أيها الذين أمنوا} أي أقروا بالتصديق بالرسل وما أتوا به عن الله، وأوله وأولاه أن لا تشركوا به شيئاً من الإشراك {لا تقربوا الصلاة} أي بأن لا تكونوا في موضعها فضلاً عن أن تفعلوها {وأنتم} أي والحال أنكم {سكارى} أي غائبو العقل من الخمر أو نحوها، فإنه يوشك أن يسبق اللسان -بتمكن الشيطان بزوال العقل- إلى شيء من الإشراك، فيكون شركاً لسانياً وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان، فيوشك أن يعرض ذلك عليه يوم الوقوف الأكبر، فإن من أنتم بين يديه لا يكتم حديثاً، فيود من نطق لسانه بذلك -لما يحصل له من الألم- لو كان من أهل العدم! وأصل السكر في اللغة: سد الطريق؛ وسبب نزولها ما رواه مسدد بإسناد -قال شيخنا البوصيري: رجاله ثقات- عن علي رضي الله تعالى عنه "أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمهم علي رضي الله تعالى عنه في المغرب وقرأ
{قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] فنزلت "هكذا رواه، وقد رواه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري، فبينوا المراد، وهو أن الذي صلى بهم قرأ: أعبد ما تعبدون، وفي رواية الترمذي: ونحن نعبد ما تعبدون.
ولما أفهم النهي عن قربانها ي هذا الحال زواله بانقضائه، صرح به في قوله: {حتى} أي ولا يزال هذا النهي قائماً حتى {تعلموا} بزوال السكر {ما تقولون} فلا يقع منكم حينئذ تبديل؛ وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المراد بالصلاة نفسها وموضعها وهو المسجد، وذلك من أدلته على استعمال الشيء في حقيقته ومجازه؛ نهى السكران أن يصلي إلى أن يفهم، أي يصحو، ونهى كل واحد أن يكون في المسجد وهو جنب بقوله عطفاً على محل {وأنتم سكارى}: {ولا} أي ولا تقربوا الصلاة بالكون في محالها فضلاً عنها {جنباً} أي ممنين بالفعل أو القوة القريبة منه بالتقاء الختانين، لأن الجنابة المني سواء كان عن جماع أو لا في حال من أحوال الجنابة {إلا عابري سبيل} أي مارين مروراً من غير مكث ولا صلاة؛ ولما غيَّى منع الجنابة بقوله: {حتى تغتسلوا} أي تغسلوا البدن عمداً، ولما كان للإنسان حالات يتعسر أو يتعذر فيها عليه استعمال الماء؛ ذكرها فقال مرتباً لها على الأحوج إلى الرخصة فالأحوج: {وإن كنتم مرضى} أي بجراحة أو غيرها مرضاً يمنع من طلب الماء أو استعماله {أو على سفر} كذلك سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً {أو جاء أحد منكم} أي أيها المؤمنون! ولو كان حاضراً صحيحاً {من الغائط} أي المكان المطمئن من الأرض الواسع الذي يقصد للتخلي، أي: أو جاء من التخلي فقضى حاجته التي لا بد له منها، فهو بها أحوج إلى التخفيف مما بعده.
ولما تقدم أمر الجنابة التي هي المني أعم من أن تكون بجماع أو غيره، ذكر هنا ما يعمها وغيرها من وجه فقال: {أو لامستم النساء} أي بمجرد التقاء البشرتين أو بالجماع سواء حصل إنزال أو لا، وأخر هذا لأنه مما منه بد، و لا يتكرر تكرر قضاء الحاجة {فلم تجدوا ماء} أي إما بفقده أو بالعجز عن استعماله {فتيمموا} اقصدوا قصداً صادقاً بأن تلابسوا ناوين {صعيداً} أي تراباً {طيباً} أي طهوراً خالصاً فهو بحيث ينبت والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} [الأعراف: 58] {فامسحوا} وهذه عبادة خاصة بنا.
ولما كان التراب لا يتمكن من جميع العضو وإن اجتهد الإنسان في ذلك أدخل الباء قاصراً للفعل في قوله: {بوجوهكم} أي أوقعوا المسح بها سواء عم التراب منبت الشعر أم لا {وأيديكم} أي منه كما صرح به في المائدة، لا فيه ولا عليه مثلاً، ليفهم التمعك، أو أن الحجر مثلاً يكفي، والملامسة جوز الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً أن يراد بها المس -أي ملاقاة البشرتين- الذي هو حقيقة اللمس والجماع الذي هو مسبب عن المس، أو هو مماسة خاصة، فهو من تسمية الكل باسم البعض حينئذ.
ولما نهى عما يدني من وقوع صورة الذنب الذي هو جري اللسان بما لا يليق به سبحانه وتعالى، وخفف ما كان شديداً بالتيمم؛ ختم الآية بقوله: {إن الله} أي الذي اختص بالكمال {كان عفوّاً} أي بترك العقاب على الذنب، وكأن هذا راجع إلى ما وقع حالة السكر {غفوراً} أي بترك العقاب وبمحو الذنب حتى لا يذكر بعد ذلك أصلاً، وكأن هذا راجع إلى التيمم، فإن الصلاة معه حسنة، ولولاه كانت سيئة مذكورة ومعاقباً عليها، إما على تركها لمشقة استعمال الماء عند التساهل، أو على فعلها بغير طهارة في بعض وجوه التنطع، وذلك معنى قوله سبحانه وتعالى في المائدة
{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] ومن كانت عادته العفو والمغفرة كان ميسراً غير معسر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أمر الله تعالى في الآيات السابقة بعبادته وترك الشرك به وبالإحسان للوالدين وغيرهم وتوعد الذين لا يقومون بهذه الأوامر والنواهي وقد عرفنا من سور أخرى أن الله تعالى يأمر بالاستعانة بالصلاة على القيام بأمور الدين وتكاليفه كما قال: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة:153] وقال: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [البقرة:238] وقال: {إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا* وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين} [المعارج:18 21] وقد كثر في القرآن الأمر بالصلاة لا بالصلاة هكذا مطلقا بل بإقامتها وإنما إقامتها القيام بها على الوجه الأكمل وهو أن ينبعث المؤمن إليها بباعث الشعور بعظمة الله وجلاله ويؤديها بالخشوع له تعالى فهذه الصلاة هي التي تعين على القيام بالأوامر وترك النواهي ولذلك جاء ذكرها ههنا عقب تلك الأوامر والنواهي الجامعة، وقد ذكرت الصلاة في القرآن بأساليب مختلفة وذكرت ههنا في سياق النهي عن الإتيان بها في حال السكر الذي لا يتأتى معه الخشوع والحضور مع الله تعالى بمناجاته بكتابه وذكره ودعائه فالمراد بالصلاة حقيقتها لا موضعها وهو المساجد كما قال الشافعية والنهي عن قربانها دون مطلق الإتيان بها لا يدل على إرادة المسجد إذ النهي عن قربان العمل معروف في الكلام العربي وفي التنزيل خاصة {ولا تقربوا الزنا} [الإسراء:32] والنهي عن العمل بهذه الصيغة يتضمن النهي عن مقدماته ومن مقدمات الصلاة الإقامة فقد سنها الله لنا لإعدادنا للدخول في الصلاة. وقال بعض المفرقين الذين يحملون القرآن على مذاهبهم المستحدثة أن الآية تدل على جواز بل وقوع التكليف بالمحال إذ وجه الأمر إلى السكران وهو لا يعي الخطاب. والجواب عنه من وجوه أحدها: أن الخطاب موجه إلى المسلم قبل السكر بأن يجتنبه إذا ظن أنه ينتهي به إلى التلبس بالصلاة في أثنائه فهو أمر بالاحتياط واجتناب السكر في أكثر الأوقات. أقول سيأتي ما يؤيده من العبارة ولذلك قال العلماء إن هذه الآية تمهيد لتحريم السكر تحريما قطعيا لا هوادة فيه. فإن من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران يترك الشرب عامة النهار وأول الليل لانتشار الصلوات الخمس في هذه المدة فالوقت الذي يبقى للسكر هو وقت النوم من بعد العشاء إلى السحر فيقلّ الشر فيه لمزاحمته للنوم الذي لابد منه وأما أول النهار من صلاة الفجر إلى وقت الظهيرة فهو وقت العمل والكسب لأكثر الناس ويقل أن يسكر فيه غير المترفين الذين لا عمل لهم وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء فلا يصبحون إلا وقد زال السكر وصاروا يعلمون ما يقولون. قال: ثانيها: أن الأمر موجه إلى جمهور المؤمنين لأنهم متكافلون مأمورون بمنع المنكر فعليهم أن يمنعوا السكران من الدخول في الصلاة فالأمر على حد: {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء:35] أي على أحد الأقوال إذ يدخل فيه الزوجان ثالثها: أن السكر الذي يطلبه الغواة لا ينافي فهم الخطاب وهو النشوة والسرور ففي هذه الحالة يفهم السكران ويفهم ويصح أن يوجه إليه الخطاب ولكنه لا يضبط أعماله وأفكاره وأقواله بالتفصيل ولذلك قال تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} فأما ما ينتهي إليه السكران مما لا يقصد فصاحبه لا يخاطب فيه وهو ما عرف به أبو حنيفة السكران إذ قال إنه من لا يفرق بين الأرض والسماء وهناك قول آخر في معنى هذا القول. وهذا التعليل للنهي يفيد أن العلم بما يقوله الإنسان في الصلاة من تلاوة وذكر واجب أو شرط والعلم به فهمه ولهذا المعنى أجاز أبو حنيفة الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها أي إلى أن يحسنها أو يعجز. هذا هو حاصل المعنى على القول بأن المراد بالصلاة حقيقتها كما هو الظاهر فإن أريد بها موضعها فالمراد تنزيه المساجد وهي بيوت الله عن اللغو والكلام الباطل الذي من شأنه أن يبدر من السكران...
{إن الله كان عفوا غفورا} العفو ذو العفو العظيم ويطلق العفو بمعنى اليسر والسهولة ومنه في التنزيل {خذ العفو} وفي الحديث (قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق) أي أسقطتها تيسيرا عليكم. ومن عفوه تعالى أن أسقط في حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل. ومن معاني العفو محو الشيء يقال عفت الريح الأثر ويقال عفا الأثر (لازم) أي امّحى ومنه العفو عن الذنب عفا عنه له ذنبه وعفا عن ذنبه أي محاه فلم يرتب عليه عقابا فالعفو أبلغ من المغفرة لأن المغفرة من الغفر وهو الستر وستر الذنب بعدم الحساب والعقاب عليه لا ينافي بقاء أثر خفي له ومعنى العفو ذهاب الأثر فالعفو عن الذنب جعله كأن لم يكن بأن لا يبقى له أثر في النفس لا ظاهر ولا خفي. فهذا التذييل للآية مبين منشأ الرخصة واليسر الذي فيها وهو عفو الله تعالى ومشعر بأن ما كان من الخطأ في صلاة السكارى كقولهم قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون مغفور لهم لا يؤاخذون عليه. وإننا نختم تفسير الآية بمسائل في أحكام التيمم لابد منها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بدأ الدرس بالأمر بعبادة الله والنهي عن إشراك شيء به.. والصلاة أمس الشعائر بمعنى العبادة. وفي الآية التالية بيان لبعض أحكامها، وأحكام الطهارة الممهدة لها:
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى -حتى تعلموا ما تقولون- ولا جنبا -إلا عابري سبيل- حتى تغتسلوا. وإن كنتم مرضى أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيدا طيبا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. إن الله كان عفوا غفورا)
إنها حلقة في سلسلة التربية الربانية للجماعة المسلمة -التي التقطها المنهج الإسلامي من سفح الجاهلية- وكانت الخمر إحدى تقاليد المجتمع الجاهلي الأصلية الشاملة؛ وإحدى الظواهر المميزة لهذا المجتمع. كما أنها تكاد تكون ظاهرة مميزة لكل جاهلية في القديم والحديث أيضا.. الخمر كانت ظاهرة مميزة للمجتمع الروماني في أوج جاهليته؛ وللمجتمع الفارسي أيضا. وكذلك هي اليوم ظاهرة مميزة للمجتمع الأوربي والمجتمع الأمريكي في أوج جاهليته! والشأن أيضا كذلك في جاهلية المجتمع الإفريقي المتخلفة من الجاهلية الأولى!
في السويد -وهي أرقى أو من أرقى أمم الجاهلية الحديثة- كانت كل عائلة في النصف الأول من القرن الماضي تعد الخمر الخاصة بها. وكان متوسط ما يستهلكه الفرد، حوالي عشرين لترا. وأحست الحكومة خطورة هذه الحال، وما ينشره من إدمان؛ فاتجهت إلى سياسة احتكار الخمور، وتحديد الاستهلاك الفردي، ومنع شرب الخمور في المحال العامة.. ولكنها عادت فخففت هذه القيود منذ أعوام قليلة! فأبيح شرب الخمر في المطاعم بشرط تناول الطعام. ثم أبيحت الخمر في عدد محدود من المحال العامة، حتى منتصف الليل فقط! وبعد ذلك يباح شرب "النبيذ والبيرة "فحسب! وإدمان الخمر عند المراهقين يتضاعف..!
أما في أمريكا، فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانونا في سنة 1919 سمي قانون "الجفاف "! من باب التهكم عليه، لأنه يمنع "الري "بالخمر! وقد ظل هذا القانون قائما مدة أربعة عشر عاما، حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933. وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما والمحاضرات للدعاية ضد الخمر. ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليونا من الدولارات. وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة. وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيه. وقد أعدم فيها 300 نفس؛ وسجن كذلك 335ر532 نفسا. وبلغت الغرامات 16 مليون جنيه. وصادرت من الأملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة بلايين جنيه.. وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون.
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي.. ببضع آيات من القرآن.
وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني.. بين منهج الله، ومناهج الجاهلية قديما وحديثا على السواء!
ولكي ندرك تغلغل هذه الظاهرة في المجتمع الجاهلي، يجب أن نعود إلى الشعر الجاهلي؛ حيث نجد" الخمر "عنصرا أساسيا من عناصر المادة الأدبية؛ كما أنه عنصر أساسي من عناصر الحياة كلها.
لقد بلغ من شيوع تجارة الخمر، أن أصبحت كلمة التجارة، مرادفة لبيع الخمر...
ووصف مجالس الشراب، والمفاخرة بها تزحم الشعر الجاهلي، وتطبعه طابعا ظاهرا...
ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم، والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث.. وفيهم عمر، وعلي، وحمزة، وعبدالرحمن بن عوف.. وأمثال هذا الطراز من الرجال.. تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية. وتكفي عن الوصف المطول المفصل:
يقول عمر رضي الله عنه في قصة إسلامه.. في رواية.." كنت صاحب خمر في الجاهلية. فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب... "
وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام. حتى إذا نزلت آية: (يسألونك عن الخمر والميسر. قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما).. قال: "اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر".. واستمر.. حتى إذا نزلت هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون).. قال: اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر! حتى إذا نزلت آية التحريم الصريحة: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون).. قال: انتهينا انتهينا! وانتهى..
وفي سبب نزول هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) ترد روايتان يشترك في أحداثهما علي وعبد الرحمن بن عوف من المهاجرين. وسعد بن معاذ من الأنصار.
روى ابن أبى حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود -بإسناده- عن مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت في أربع آيات. صنع رجل من الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار. فأكلنا وشربنا، حتى سكرنا، ثم افتخرنا، فرفع رجل لحي بعير [عظم الفك] فغرز بها أنف سعد. فكان سعد مغروز الأنف. وذلك قبل تحريم الخمر. فنزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى).. والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار. حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله الدشتكي أبو جعفر. عن عطاء بن السائب، عن أبى عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب قال:"صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموا فلانا قال: فقرأ: قل يا أيها الكافرون. ما أعبد ما تعبدون. ونحن نعبد ما تعبدون! فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون.
ولا نحتاج إلى مزيد من الأمثلة والروايات؛ لندلل على تغلغل ظاهرة الخمر في المجتمع الجاهلي. فهي كانت والميسر، الظاهرتين البارزتين؛ المتداخلتين، في تقاليد هذا المجتمع..
فماذا صنع المنهج الرباني لمقاومة هذه الظاهرة المتغلغلة؟ ماذا صنع لمكافحة هذه الآفة، التي لا يقوم معها مجتمع جاد صالح مستقيم واع أبدا؟ ماذا صنع ليقف في وجه عادة أصلية قديمة، تتعلق بها تقاليد اجتماعية؛ كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟
لقد عالج المنهج الرباني هذا كله ببضع آيات من القرآن؛ وعلى مراحل، وفي رفق وتؤدة. وكسب المعركة، دون حرب، ودون تضحيات. ودون إراقة دماء.. والذي أريق فقط هو دنان الخمر وزقاقها وجرعات منها كانت في أفواه الشاربين -حين سمعوا آية التحريم- فمجوها من أفواهم. ولم يبلعوها. كما سيجيئ!
في مكة -حيث لم يكن للإسلام دولة ولا سلطان.. إلا سلطان القرآن- وردت في القرآن المكي تلميحة سريعة إلى نظرة الإسلام للخمر. تدرك من ثنايا العبارة. وهي مجرد إشارة:
جاء في سورة النحل: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنًا).. فوضع "السكر" وهو الشراب المسكر الذي كانوا يتخذونه من ثمرات النخيل والأعناب، وفي مقابل الرزق الحسن! ملمحا بهذا التقابل إلى أن السكر شيء. والرزق "الحسن" شيء آخر.. وكانت مجرد لمسة من بعيد؛ للضمير المسلم الوليد!
ولكن عادة الشراب، أو تقليد الشراب -بمعنى أدق- فقد كان أعمق من عادة فردية. كان تقليدا اجتماعيا، له جذور اقتصادية.. كأن أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة.
وفي المدينة حيث قامت للإسلام دولة وكان له سلطان.. لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان. إنما كان أولا سلطان القرآن..
وبدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر، وفي خبرة بالنفس البشرية، والأوضاع الاجتماعية..
بدأ بآية البقرة ردا على أسئلة تدل على فجر اليقظة في الضمير المسلم ضد الخمر والميسر: (يسألونك عن الخمر والميسر. قل: فيهما إثم كبير، ومنافع للناس.. وإثمهما أكبر من نفعهما..)
وكانت هي الطرقة الأولى، ذات الصوت المسموع.. في الحس الإسلامي، وفي الضمير الإسلامي، وفي المنطق الفقهي الإسلامي.. فمدار الحل والحرمة.. أو الكراهية.. على رجحان الإثم أو رجحان الخير، في أمر من الأمور.. وإذا كان إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما.. فهذا مفرق الطريق..
ولكن الأمر كان أعمق من هذا.. وقال عمر -رضي الله عنه -: "اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر".. عمر!!! وهذا وحده يكفي لبيان عمق هذا التقليد في نفس العربي!
ثم حدثت أحداث- كالتي رويناها -ونزلت هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون)..
وأخذ المنهج البصير الرفيق يعمل..
لقد كانت هذه هي المرحلة الوسيطة، بين التنفير من الخمر، لأن إثمها أكبر من نفعها، وبين التحريم البات، لأنها رجس من عمل الشيطان. وكانت وظيفة هذه المرحلة الوسيطة: هي" قطع عادة الشراب "أو" كسر الإدمان".. وذلك بحظر الشراب قرب أوقات الصلاة. وأوقات الصلاة موزعة على مدار النهار. وبينها فترات لا تكفي للشراب- الذي يرضي المدمنين -ثم الإفاقة من السكر الغليظ! حتى يعملوا ما يقولون! فضلا على أن للشراب كذلك أوقاتا ومواعيد خاصة من الصبوح والغبوق.. صباحا ومساء.. وهذه تتخللها وتعقبها أوقات الصلاة.. وهنا يقف ضمير المسلم بين أداء الصلاة وبين لذة الشراب.. وكان هذا الضمير قد بلغ أن تكون الصلاة عنده عماد الحياة..
ومع ذلك.. فقد قال عمر رضي الله عنه- وهو عمر!!! -"اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر"..
ثم مضى الزمن. ووقعت الأحداث. وجاء الوعد المناسب- وفق ترتيب المنهج -للضربة الحاسمة. فنزلت الآيتان في المائدة: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟)..
وانتهى المسلمون كافة. وأريقت زقاق الخمر، وكسرت دنانها في كل مكان.. بمجرد سماع الأمر.. ومج الذين كان في أفواههم جرعات من الخمر ما في أفواههم- حين سمعوا ولم يبلعوها وهي في أفواههم وهم شاربون..
لقد انتصر القرآن. وأفلح المنهج. وفرض سلطانه -دون أن يستخدم السلطان!!!
ولكن كيف كان هذا؟ كيف تمت هذه المعجزة، التي لا نظير لها في تاريخ البشر؛ ولا مثيل لها في تاريخ التشريعات والقوانين والإجراءات الحكومية في أي مكان، ولا في أي زمان؟
لقد تمت المعجزة، لأن المنهج الرباني، أخذ النفس الإنسانية، بطريقته الخاصة.. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته، وبحضور الله- سبحانه -فيها حضورا لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان.. أخذها جملة لا تفاريق.. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة..
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغا تملؤه بنشوة الخمر، وخيالات السكر، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء.. في الهواء..
ملأ فراغها باهتمامات. منها: نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها، من تيه الجاهلية الأجرد، وهجيرها المتلظي، وظلامها الدامس، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق، إلى رياض الإسلام البديعة، وظلاله الندية، ونوره الوضيء، وحريته الكريمة، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة!
وملأ فراغها- وهذا هو الأهم -بالإيمان. بهذا الإحساس الندي الرضي الجميل البهيج. فلم تعد في حاجة إلى نشوة الخمر، تحلق بها في خيالات كاذبة وسمادير! وهي ترف بالإيمان المشع إلى الملأ الأعلى الوضيء.. وتعيش بقرب الله ونوره وجلاله.. وتذوق طعم هذا القرب، فتمج طعم الخمر ونشوتها؛ وترفض خمارها وصداعها؛ وتستقذر لوثتها وخمودها في النهاية!
إنه استنفذ الفطرة من ركام الجاهلية؛ وفتحها بمفتاحها، الذي لا تفتح بغيره؛ وتمشى في حناياها وأوصالها؛ وفي مسالكها ودروبها.. ينشر النور، والحياة، والنظافة، والطهر، واليقظة، والهمة، والاندفاع للخير الكبير والعمل الكبير، والخلافة في الأرض، على أصولها، التي قررها العليم الخبير، وعلى عهد الله وشرطه، وعلى هدى ونور..
إن الخمر- كالميسر. كبقية الملاهي. كالجنون بما يسمونه" الألعاب الرياضية "والإسراف في الاهتمام بمشاهدها.. كالجنون بالسرعة.. كالجنون بالسينما.. كالجنون" بالمودات ""والتقاليع".. كالجنون بمصارعة الثيران.. كالجنون ببقية التفاهات التي تغشى حياة القطعان البشرية في الجاهلية الحديثة اليوم، جاهلية الحضارة الصناعية!
إن هذه كلها ليست إلا تعبيرا عن الخواء الروحي.. من الإيمان أولا.. ومن الاهتمامات الكبيرة التي تستنفد الطاقة ثانيا.. وليست إلا إعلانا عن إفلاس هذه الحضارة في إشباع الطاقات الفطرية بطريقة سوية.. ذلك الخواء وهذا الإفلاس هما اللذان يقودان إلى الخمر والميسر لملء الفراغ، كما يقودان إلى كل أنواع الجنون التي ذكرنا.. وهما بذاتهما اللذان يقودان إلى" الجنون "المعروف، وإلى المرض النفسي والعصبي.. وإلى الشذوذ..
إنها لم تكن كلمات.. هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة.. إنما كان منهج. منهج هذه الكلمات متنه وأصله. منهج من صنع رب الناس. لا من صنع الناس! وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج، لا تؤدي إلى كثير!
إنه ليست المسألة أن يقال كلام! فالكلام كثير. وقد يكتب فلان من الفلاسفة. أو فلان من الشعراء. أو فلان من المفكرين. أو فلان من السلاطين! قد يكتب كلاما منمقا جميلا يبدو أنه يؤلف منهجا، أو مذهبا، أو فلسفة.. الخ.. ولكن ضمائر الناس تتلقاه، بلا سلطان. لأنه (ما أنزل الله به من سلطان)! فمصدر الكلمة هو الذي يمنحها السلطان.. وذلك فوق ما في طبيعة المنهج البشري ذاته من ضعف ومن هوى ومن جهل ومن قصور!
فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج، غير منهج العليم الخبير؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير؟
متى؟ متى ينتهون عن هذا الغرور؟؟؟...
وطريقة التيمم: إما خبطة واحدة بالكفين على الصعيد الطاهر. ثم نفضهما. ثم مسح الوجه. ثم مسح اليدين إلى المرفقين بهما.. وإما خبطتان: خبطة يمسح بها الوجه، وخبطة يمسح بها الذراعان.. ولا داعي هنا لذكر الخلافات الفقهية الدقيقة فيما وراء هذا.. فهذا الدين يسر، وفي شرعية التيمم يتجلى معنى التيسير واضحا:
وهو التعقيب الموحي بالتيسير. وبالعطف على الضعف، وبالمسامحة في القصور. والمغفرة في التقصير.
وقبل أن ننهي الحديث عن هذه الآية وعن هذا الدرس.. نقف أمام بضع لمسات في هذه الآية القصيرة: نقف أمام" حكمة التيمم "نحاول استيضاح ما ييسره لنا الله من حكمتها..
إن بعض الباحثين في حكمة التشريعات والعبادات الإسلامية، يندفعون أحيانا في تعليل هذه الأحكام؛ بصورة توحي بأنهم استقصوا هذه الحكمة؛ فلم يعد وراء ما استقصوه شيء! وهذا منهج غير سليم في مواجهة النصوص القرآنية والأحكام التشريعية.. ما لم يكن قد نص على حكمتها نصا.. وأولى: أن نقول دائما: إن هذا ما استطعنا أن نستشرفه من حكمة النص أو الحكم. وأنه قد تكون دائما هنالك أسرار من الحكمة لم يؤذن لنا في استجلائها! وبذلك نضع عقلنا البشري -في مكانه- أمام النصوص والأحكام الإلهية. بدون إفراط ولا تفريط..
أقول هذا، لأن بعضنا -ومنهم المخصلون- يحبون أن يقدموا النصوص والأحكام الإسلامية للناس، ومعها حكمة محددة، مستقاة مما عرفه البشر من واقعهم أو مما كشف عنه" العلم الحديث "! وهذا حسن -ولكن في حدود- هي الحدود التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة.
وكثيرا ما ذكر عن حكمة الوضوء -قبل الصلاة- أنها النظافة..
وقد يكون هذا المعنى مقصودا في الوضوء. ولكن الجزم بأنه هو.. وهو دون غيره.. هو المنهج غير السليم. وغير المأمون أيضا:
فقد جاء وقت قال بعض المماحكين: لا حاجة بنا إلى هذه الطريقة البدائية: فالنظافة الآن موفورة. والناس يجعلونها في برنامج حياتهم اليومي. فإذا كانت هذه هي "حكمة الوضوء" فلا داعي للوضوء إذن للصلاة! بل.. لا داعي للصلاة أيضا!!
وكثيرا ما ذكر عن "حكمة الصلاة".. تارة أنها حركات رياضية تشغل الجسم كله وتارة بأنها تعويد على النظام: أولا في مواقيتها. وثانيا في حركاتها. وثالثا في نظام الصفوف والإمامة.. الخ. وتارة أنها الاتصال بالله في الدعاء والقراءة.. وهذا وذاك وذلك قد يكون مقصودا.. ولكن الجزم بأن هذا أو ذاك أو ذلك هو" حكمة الصلاة "يتجاوز المنهج السليم والحد المأمون.
وقد جاء حين من الدهر قال بعضهم فيه: إنه لا حاجة بنا إلى حركات الصلاة الرياضية. فالتدريبات الرياضية المنوعة كفيلة بهذا بعد أن أصبحت الرياضة فنا من الفنون!
وقال بعضهم: ولا حاجة بنا إلى الصلاة لتعود النظام. فعندنا الجندية -مجال النظام الأكبر. وفيها غناء! وقال بعضهم: لا حاجة لتحتيم شكل هذه الصلاة. فالاتصال بالله يمكن أن يتم في خلوة ونجوة بعيدا عن حركات الجوارح، التي قد تعطل الاستشراف الروحي!
وهكذا.. إذا رحنا" نحدد "حكمة كل عبادة. وحكمة كل حكم. ونعلله تعليلًا وفق (العقل البشري) أو وفق" العلم الحديث "ثم نجزم بأن هذا هو المقصود.. فإننا نبعد كثيرا عن المنهج السليم في مواجهة نصوص الله وأحكامه. كما نبعد كذلك عن الحد المأمون. ونفتح الباب دائما للمماحكات. فوق ما تحتمله تعليلاتنا من خطأ جسيم. وبخاصة حين نربطها بالعلم. والعلم قلب لا يثبت على حال. وهو كل يوم في تصحيح وتعديل!
وهنا في موضوعنا الحاضر! موضوع التيمم- يبدو أن حكمة الوضوء أو الغسل، ليست هي" مجرد "النظافة. وإلا فإن البديل من أحدهما أو من كليهما، لا يحقق هذه" الحكمة "! فلا بد إذن من حكمة "أخرى" للوضوء أو الغسل. تكون متحققة كذلك في "التيمم".
ولا نريد نحن أن نقع في الغلطة نفسها فنجزم! ولكننا نقول فقط: إنها -ربما- كانت هي الاستعداد النفسي للقاء الله، بعمل ما، يفصل بين شواغل الحياة اليومية العادية، وبين اللقاء العظيم الكريم.. ومن ثم يقوم التيمم -في هذا الجانب- مكان الغسل او مكان الوضوء..
ويبقى وراء هذا علم الله الكامل الشامل اللطيف؛ بدخائل النفوس، ومنحنياتها ودروبها، التي لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.. ويبقى أن نتعلم نحن شيئا من الأدب مع الجليل العظيم العلي الكبير..
ونقف مرة أخرى أمام حرص المنهج الرباني على الصلاة؛ وعلى إقامتها في وجه جميع الأعذار والمعوقات. وتذليل هذه المعوقات. والتيسير البادي في إحلال التيمم محل الوضوء، ومحل الغسل، أو محلهما معا، عند تعذر وجود الماء؛ أو عند التضرر بالماء [أو عند الحاجة إلى الماء القليل للشرب وضروريات الحياة] وكذلك عند السفر [حتى مع وجود الماء في أقوال]..
إن هذا كله يدل -بالإضافة إلى ما سيأتي في السورة من بيان كيفية الصلاة عند الخوف- في ميدان القتال -على حرص شديد من المنهج الرباني، على الصلاة.. بحيث لا ينقطع المسلم عنها لسبب من الأسباب [ويبدو ذلك كذلك في المرض حيث تؤدي الصلاة من قعود، أو من اضطجاع، أو من نوم. وتؤدى بحركات من جفني العين عندما يشق تحريك الجسم والأطراف!]
إنها هذه الصلة بين العبد والرب. الصلة التي لا يحب الله للعبد أن ينقطع عنها. لأنه- سبحانه -يعلم ضرورتها لهذا العبد. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولا يناله من عبادة العباد شيء. إلا صلاحهم هم. وإلا ما يجدون في الصلاة والاتصال بالله، من العون على تكاليفهم، والاسترواح لقلوبهم، والاطمئنان لأرواحهم. والإشراق في كيانهم؛ والشعور بأنهم في كنف الله، وقربه، ورعايته، بالطريقة التي تصلح لفطرتهم.. والله أعلم بفطرتهم هذه، وبما يصلح لها وما يصلحها.. وهو أعلم بمن خلق. وهو اللطيف الخبير.
ونقف كذلك أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذا النص القصير:
ذلك حين يعبر عن قضاء الحاجة في الغائط بقوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط).. فلا يقول: إذا عملتم كذا وكذا.. بل يكتفي بالعودة من هذا المكان، كناية عما تم فيه! ومع هذا لا يسند الفعل إلى المخاطبين. فلا يقول: أو جئتم من الغائط. بل يقول: (أو جاء أحد منكم من الغائط) زيادة في أدب الخطاب، ولطف الكناية. ليكون هذا الأدب نموذجا للبشر حين يتخاطبون!
وحين يعبر عما يكون بين الرجل والمرأة بقوله: (أو لامستم النساء) والتعبير بالملامسة أرق وأحشم وأرقى- والملامسة قد تكون مقدمة للفعل أو تعبيرا عنه -وعلى أية حال فهو أدب يضربه الله للناس، في الحديث عن مثل هذه الشؤون. عندما لا يكون هناك مقتض للتعبير المكشوف.
وحين يعبر عن الصعيد الطاهر، بأنه الصعيد الطيب. ليشير إلى أن الطاهر طيب. وأن النجس خبيث.. وهو إيحاء لطيف المدخل إلى النفوس..
وسبحان خالق النفوس. العليم بهذه النفوس!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إن الله كان عفوا غفورا} ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النص الكريم لبيان أن الله تعالى متصف بالعفو، فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذي يسهل عليهم أداؤه من غير مشقة مرهقة، ويعفو عن التقصير في الواجبات الأصلية للأعذار، ويفتح باب الرخص، ويحب أن تؤتى رخصة كما تؤتى عزائمه، ويجعل كل ما هو شاق مرهق في مرتبة العفو دائما، وهو الغفار كثير المغفرة لمن يتوب إليه، وقد أكد سبحانه هذين الوصفين بثلاثة أمور: أولا: (إن) فهي من أقوى ألفاظ التوكيد، و (كان) فهي تدل على استمرار عفوه ومغفرته سبحانه، وبالجملة الإسمية فلها فضل توكيد في المعنى الذي اشتملت عليه.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم تتناول الآيات الكريمة فريضة الصلاة التي هي عماد الدين، وما يجب للدخول فيها من استعداد فكري ونفسي وجسمي خاص، فلا صلاة مع ضياع العقل وخبال الفكر وشرود الذهن، ولا صلاة مع قيام ما يمنع المصلي من استيفاء جميع أركانها على الوجه المطلوب {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} ثم لا صلاة مع الحدث الأصغر والحدث الأكبر، المنافيين لمناجاة الله والوقوف بين يديه. ونظرا لحرص الإسلام على عدم تضييع المؤمن للصلاة التي هي أوثق صلة بينه وبين ربه، وضرورة قيامه بأدائها في الحضر والسفر والصحة والمرض، أباح التيمم بدلا من الطهارة المائية للمريض والمسافر والمحدث والجنب، ولم يوجب التيمم بالنسبة لجميع الأعضاء والأطراف المطلوب تطهيرها بالماء، بل اكتفى في التيمم بالوجه واليدين دون ما عداهما زيادة في التخفيف، وأشار كتاب الله إلى أن هذا التخفيف منبثق من الرفق والعفو الذي هو من صفات الله، ومن مقتضيات حكمته {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يتساءل كثيرون: ما الفائدة من ضرب اليدين بالتراب ومسح الجبين وظهر اليدين بهما خاصّة أنّنا نعلم أن كثيراً من الأتربة ملوثة، وناقلة للميكروبات والجراثيم؟
في جواب هذه الأسئلة نشير إِلى نقطتين مهمتين:
الأُولى: الفائدة الخلقية، فإِن التيمم إحدى العبادات، وتتجلى فيها روح العبادة بكل معنى الكلمة، لأن الإِنسان يمس جبهته التي هي أشرف الأعضاء في بدنه بيديه المتربتين ليظهر بذلك خضوعه لله وتواضعه في حضرته ولسان حاله يقول: يا ربّي إِنّ جبهتي وكذا يداي خاضعات أمامك إِلى أبعد حدود الخضوع والتواضع، ثمّ يتوجه عقيب هذا العمل إِلى القيام بالصلاة وسائر العبادات المشروطة بالغُسل والوضوء، وبهذا الطريق يزرع التيمم في نفس الإِنسان روح الخضوع لله، وينمي فيه صفة التواضع في حضرة ذي الجلال، ويدرّبه على العبودية له سبحانه، والشكر لأنعمه تعالى.
الثّانية: الفائدة الصحية، فقد ثبت اليوم بأنّ التراب بحكم احتوائه على كميات كبيرة من البكتريا تزيل التلوثات، إِن البكتريات الموجودة في التراب والتي تعمل على تحليل الموارد العضوية وإبادة كل أنواع العفونة، توجد في الأغلب بوفرة في سطح الأرض، والأعماق القريبة التي يمكن لها الانتفاع بنور الشمس والهواء بصورة أكثر، ولهذا عند ما تدفن جثث الأموات من البشر أو الحيوان في الأرض، وكذا ما يشابهها من المواد العضوية، نجدها تتحلل في مدّة قصيرة تقريباً وتتلاشى بؤر التعفن على أثر هجوم البكتريات عليها، ومن المسلّم أنّ هذه الخاصّية لو لم تكن في التربة لتحولت الكرة الأرضية في مدّة قصيرة إِلى بؤرة عفونة قاتلة.
إِنّ للتربة خاصّية تشبه مواد «الأنتوبيوتيك» التي لها أثر فعال جدّاً في قتل وإِبادة الميكروبات.
وعلى هذا لا يكون التراب عارياً عن التلوث فقط، بل هو مطهر فعال للتلوثات، ويمكنه من هذه الجهة أن يحل محل الماء بفارق واحد، هو أن الماء يحلل الميكروبات، ويذهب بها معه، في حين أن مفعول التراب يقتصر على قتل الميكروبات فقط.
ولكن يجب الانتباه إِلى أنّ التراب الذي يستعمل في التيمم يجب أن يكون طاهراً نظيفاً، كما أشار إليه القرآن الكريم في تعبيره الجميل إِذ يقول: (طيباً).
والجدير بالانتباه أنّ التعبير ب«الصعيد» المشتق من «الصعود» يشير إِلى أن أفضل أنواع التربة الذي ينبغي أن تختاره للتيمم هو التربية الموجودة في سطح الأرض، يعني تلك التربة التي هي عرضة لأشعة الشمس والمليئة بالهواء والبكتريا المبيدة للميكروبات، فإِذا كانت تلك التربة المستعملة في التيمم طيبة وطاهرة أيضاً كان التيمم بها ينطوي على الآثار المذكورة من دون أن يكون فيه أي ضرر أو أية مضاعفات. (وسنتحدث في هذا المجال أيضاً عند تفسير المقطع الأخير من الآية (6) في سورة المائدة).