وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وامتثلوا ما أمروا ، به فعملوا الصالحات ، بأنه سيهديهم بإيمانهم .
يحتمل أن تكون " الباء " هاهنا سببية فتقديره : بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة
على الصراط ، حتى يجوزوه ويخلصُوا إلى الجنة . ويحتمل أن تكون للاستعانة ، كما قال مجاهد في قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال : [ يكون لهم نورا يمشون به ]{[14072]} . وقال ابن جُرَيْج في [ قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال ]{[14073]} : يمثُل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره ، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك . فيجعل{[14074]} له نورا . من بين يديه حتى يدخله{[14075]} الجنة ، فذلك قوله تعالى : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } والكافر يَمْثُلُ له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازُّه{[14076]} حتى يقذفه في النار .
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ إن الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات ، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره . يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ يقول : يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأنهارُ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ بلغنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ المُؤْمِنَ إذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَة حَسَنَة ، فَيُقُولُ لَهُ : ما أنْتَ ، فوَاللّهِ إنّي لأرَاكَ امْرأ صِدْقٍ ؟ فَيَقُولُ : أنا عَمَلُكَ ، فَيَكُون لَهُ نُورا وَقائِدا إلى الجَنّةِ . وأمّا الكافِرُ إذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ صُوّرَ لَهُ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ سَيّئَةٍ وَبِشارَةٍ سَيّئَةٍ ، فَيَقُولُ : ما أنْتَ فَواللّهِ إنّي لأَرَاكَ أمْرأَ سَوْءٍ ؟ فَيَقُولُ : أنا عَمَلُكَ . فَيَنْطَلِقُ بِهِ حتى يُدْخِلَهُ النّارُ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ قال : يكون لهم نورا يمشون به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال ابن جريج : يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ قال : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة ، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك فيجعل له نورا من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله : يَهْدِيهِمْ رَبّهُمْ بإيمانِهِمْ . والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة ، فيلازم صاحبه ويُلادّه حتى يقذفه في النار .
وقال آخرون : معنى ذلك : بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه ، يقول : بتصديقهم هداهم . ذكر من قال ذلك :
وقوله : تَجْرِي مِنْ تَحْتَهِمُ الأنهارُ يقول : تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم أنهار الجنة . في جَنّاتِ النّعِيمِ يقول : في بساتين النعيم الذي نعمّ الله به أهل طاعته والإيمان به .
فإن قال قائل : وكيف قيل تجري من تحتهم الأنهار ، وإنما وصف جلّ ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات ؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها ، وليس ذلك من صفة أنهار الجنة ، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ ، وإنما معنى ذلك : تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم ، وذلك نظير قول الله : قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا ومعلوم أنه لم يجعل السريّ تحتها وهي عليه قاعدة ، إذ كان السريّ هو الجدول ، وإنما عني به جعل دونها : بين يديها ، وكما قال جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل فرعون : ألَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي بمعنى : من دوني بين يدي .
جاءت هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتكون أحوال المؤمنين مستقلة بالذكر غير تابعة في اللفظ لأحوال الكافرين ، وهذا من طرق الاهتمام بالخبر . ومناسبة ذكرها مقابلة أحوال الذين يكذبون بلقاء الله بأضدادها تنويهاً بأهلها وإغاضة للكافرين .
وتعريف المسند إليه بالموصولية هنا دون اللام للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر وهي أن إيمانهم وعملهم هو سبب حصول مضمون الخبر لهم .
والهداية : الإرشاد على المقصد النافع والدلالة عليه . فمعنى { يهديهم ربهم } يرشدهم إلى ما فيه خيرهم . والمقصود الإرشاد التكويني ، أي يخلق في نفوسهم المعرفة بالأعمال النافعة وتسهيل الإكثار منها . وأما الإرشاد الذي هو الدلالة بالقول والتعليم فالله يخاطب به المؤمنين والكافرين .
والباء في { بإيمانهم } للسببية ، بحيث إن الإيمان يكون سبباً في مضمون الخبر وهو الهداية فتكون الباء لتأكيد السببية المستفادة من التعريف بالموصولية نظير قوله : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } إلى { بما كانوا يكسبون } [ يونس : 7 ، 8 ] في تكوين هدايتهم إلى الخيرات بجعل الله تعالى ، بأن يجعل الله للإيمان نُوراً يوضع في عقل المؤمن ولذلك النور أشعة نورانية تتصل بين نفس المؤمن وبين عوالم القدس فتكون سبباً مغناطيسياً لانفعال النفس بالتوجه إلى الخير والكمالِ لا يزال يزداد يوماً فيوماً ، ولذلك يقترب من الإدراك الصحيح المحفوظ من الضلال بمقدار مراتب الإيمان والعمل الصالح . وفي الحديث : « قد يكون في الأمم محدَّثون فإن يك في أمتي أحدٌ فعمر بن الخطاب »{[247]} قال ابن وهب : تفسير محدَّثون ملهمون الصواب ، وفي الحديث : « اتقوا فراسة المؤمن فإنه يَنظر بنور الله »{[248]} ولأجل هذا النور كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً لأنهم لما تلقوا الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت أنواره السارية في نفوسهم أقوى وأوسع .
وفي العدول عن اسم الجلالة العَلَم إلى وصف الربوبية مضافاً إلى ضمير { الذين آمنوا } تنويه بشأن المؤمنين وشأن هدايتهم بأنها جعل مولًى لأوليائه فشأنها أن تكون عطية كاملة مشوبة برحمة وكرامة .
والإتيان بالمضارع للدلالة على أن هذه الهداية لا تزال متكررة متجددة . وفي هذه الجملة ذكر تهيؤ نفوسهم في الدنيا لعُروج مراتب الكمال .
وجملة : { تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم } خبر ثان لِذكر ما يحصل لهم من النعيم في الآخرة بسبب هدايتهم الحاصلة لهم في الدنيا . وتقدم القول في نظير { تجري من تحتها الأنهار } في سورة [ البقرة : 25 ] . والمراد من تحت منازلهم . والجنات تقدم . والنعيم تقدم في قوله تعالى : { لهم فيها نعيم مقيم } في سورة [ براءة : 21 ] .