48- وأنزلنا إليك - أيها النبي - الكتاب الكامل ، وهو القرآن ، ملازماً الحقّ في كل أحكامه وأنبائه ، موافقاً ومصدِّقاً لما سبقه من كتبنا ، وشاهداً عليها بالصحة ، ورقيباً عليها بسبب حفظه من التغيير . فاحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك بما أنزل الله عليك ، ولا تتبع في حكمك شهواتهم ورغباتهم ، فتنحرف عما جاءك منا من حق . لكل أمة منكم - أيها الناس - جعلنا منهاجاً لبيان الحق ، وطريقاً واضحاً في الدين يمشي عليه ، ولو شاء الله لجعلكم جماعة متفقة ذات مشارب واحدة ، لا تختلف مناهج إرشادها في جميع العصور ، ولكنه جعلكم هكذا ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع ، ليتبين المطيع والعاصي . فانتهزوا الفرص ، وسارعوا إلى عمل الخيرات ، فإن رجوعكم جميعاً سيكون إلى الله - وحده - فيخبركم بحقيقة ما كنتم تختلفون فيه ، ويجازى كلا منكم بعمله .
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه [ عليه السلام ]{[9925]} ومدحها وأثنى عليها ، وأمر{[9926]} باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع ، وذكر الإنجيل ومدحه ، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه ، كما تقدم بيانه ، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم ، الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم ، فقال : { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله ، { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } أي : من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكْرَه ومَدْحَه ، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان نزوله كما أخبرت به ، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر ، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله ، وصدقوا رسل الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [ الإسراء : 107 ، 108 ] أي : إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين ، من مجيء محمد ، عليه السلام ، { لَمَفْعُولا } أي : لكائنًا لا محالة ولا بد .
وقوله : { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } قال سفيان الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، أي : مؤتمنًا عليه . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : المهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله .
وروي عن عِكْرِمَة ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، وعطية ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وابن زيد ، نحو ذلك .
وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه منها فهو باطل .
وعن الوالبي ، عن ابن عباس : { وَمُهَيْمِنًا } أي : شهيدًا . وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي .
وقال العَوْفِي عن ابن عباس : { وَمُهَيْمِنًا } أي : حاكمًا على ما قبله من الكتب .
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإن اسم " المهيمن " يتضمن هذا كله ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم ، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، أشملها وأعظمها وأحكمها{[9927]} حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها . وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة ، فقال [ تعالى ]{[9928]} { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي نَجيح عن مجاهد ؛ أنهم قالوا في قوله : { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن ، فإنه صحيح في المعنى ، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر ، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر . وبالجملة فالصحيح الأول ، قال أبو جعفر بن جرير ، بعد حكايته له عن مجاهد : وهذا التأويل بعيد من المفهوم في{[9929]} كلام العرب ، بل هو خطأ ، وذلك أن " المهيمن " عطف على " المصدق " ، فلا يكون إلا من صفة ما كان " المصدق " صفة له . قال : ولو كان كما قال مجاهد لقال : " وأنزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه " . يعني من غير عطف .
وقوله : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } أي : فاحكم يا محمد بين الناس : عَرَبهم وعجمهم ، أُميهم وكتابيهم { بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } إليك في{[9930]} هذا الكتاب العظيم ، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك . هكذا وجهه ابن جرير بمعناه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم . فردهم إلى أحكامهم ، فنزلت : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا .
وقوله : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } أي : آراءهم التي اصطلحوا عليها ، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله ؛ ولهذا قال : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } أي : لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء .
وقوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يوسف بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن التميمي ، عن ابن عباس : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً } قال : سبيلا .
وحدثنا أبو سعيد ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : { وَمِنْهَاجًا } قال : وسنة . وكذا روى العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } سبيلا وسنة .
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة ، والضحاك ، والسُّدِّي ، وأبي إسحاق السبيعي ؛ أنهم قالوا في قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : سبيلا وسنة .
وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : سنة وسبيلا والأول أنسب ، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا ، هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال : " شرع في كذا " أي : ابتدأ فيه . وكذا الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء . أما " المنهاج " : فهو الطريق الواضح السهل ، والسنن : الطرائق ، فتفسير قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس ، والله أعلم .
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان ، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام ، المتفقة في التوحيد ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ، ديننا واحد " {[9931]} يعني بذلك التوحيد ، الذي بعث الله به كل رسول أرسله ، وضمنه كل كتاب أنزله ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } الآية [ النحل : 36 ] ، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي ، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى ، وبالعكس ، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه . وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة .
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } يقول : سبيلا وسنة ، والسنن مختلفة : هي في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة ، وفي الفرقان شريعة ، يحل الله فيها ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين الذي لا يقبل الله غيره : التوحيد والإخلاص لله ، الذي جاءت به الرسل .
وقيل : المخاطب بهذا هذه الأمة ، ومعناه : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا } القرآن { مِنْكُمْ } أيتها الأمة { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : هو لكم كلكم ، تقتدون به . وحُذف الضمير المنصوب في قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ } أي : جعلناه ، يعني القرآن ، { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : سبيلا إلى المقاصد الصحيحة ، وسنة أي : طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا .
هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد ، رحمه الله ، والصحيح القول الأول ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } وهم أمة واحدة ، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم ، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع{[9932]} الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة ، لا ينسخ شيء منها . ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة ، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده{[9933]} حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة ، وجعله خاتم الأنبياء كلهم ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ } أي : أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ، ليختبر عباده فيما شرع لهم ، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله .
وقال عبد الله بن كثير : { فِيمَا آتَاكُمْ } يعني : من الكتاب .
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها ، فقال : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } وهي طاعة الله واتباع شرعه ، الذي جعله ناسخًا لما قبله ، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله .
ثم قال تعالى : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي : معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق ، فيجزي الصادقين بصدقهم ، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق ، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان ، بل هم معاندون للبراهين القاطعة ، والحجج البالغة ، والأدلة الدامغة .
وقال الضحاك : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . والأظهر الأول .
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلََكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . .
وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول تعالى ذكره : وأنْزَلْنا إلَيْكَ يا محمد الكِتابَ ، وهو القرآن الذي أنزله عليه . ويعني بقوله : بالحَقّ : بالصدق ، ولا كذب فيه ، ولا شكّ أنه من عند الله . مُصَدّقا لِمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يقول : أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها إلى أنبيائه . وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ يقول : أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد مصدقا للكتب قبله ، وشهيدا عليها أنها حقّ من عند الله ، أمينا عليها ، حافظا لها . وأصل الهيمنة : الحفظ والارتقاب ، يقال إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده : قد هيمن فلان عليه ، فهو يهيمن هيمنة ، وهو عليه مهيمن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه ، فقال بعضهم : معناه : شهيدا . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ يقول : شهيدا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : شهيدا عليه .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِما بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يقول : الكتب التي خلت قبله ، وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ : أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ : مؤتمنا على القرآن وشاهدا ومصدّقا . وقال ابن جريج وآخرون : القرآن أمين على الكتب فيماإذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمر إن كان في القرآن فصدَقوا ، وإلا فكذَبوا .
وقال بعضهم : معناه : أمين عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا وكيع جميعا ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا عليه .
حدثنا محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس في قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتَمنا عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق بإسناده ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرّف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من تميم ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : والمهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كلّ كتاب قبله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وهو القرآن ، شاهد على التوراة والإنجيل ، مصدقا لهما . مُهَيْمِنا عَلَيْهِ يعني : أمينا عليه ، يحكم على ما كان قبله من الكتب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحن ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن زهير ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا يحيى الحمانيّ ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مؤتمنا على ما قبله من الكتب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسين ، عن قوله : وأنْزَلْنا لَيْكَ الكِتابَ بالحَقّ مَصَدّقا لمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مصدّقا لهذه الكتب وأمينا عليها . وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع ، فقال : مؤتمنا عليه .
وقال آخرون : معنى المهيمن المصدّق . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : مصدّقا عليه . كلّ شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدّق على ذلك ، وكلّ شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدّق عليها وعلى ما حدّث عنها أنه حقّ .
وقال آخرون : عنى بقوله : مُصَدّقا لِمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، مؤتمن على القرآن .
فتأويل الكلام على ما تأوله مجاهد : وأنزلنا الكتاب مصدّقا الكتب قبله إليك ، مهيمنا عليه . فيكون قوله «مصدّقا » حالاً من الكتاب وبعضا منه ، ويكون التصديق من صفة الكتاب ، والمهيمن حالاً من الكاف التي في «إليك » ، وهي كناية عن ذكر اسم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والهاء في قوله : عَلَيْهِ عائدة على الكتاب . وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب ، بل هو خطأ ، وذلك أن المهيمن عطف على المصدّق ، فلا يكون إلا من صفة ما كان المصدّق صفة له ، ولو كان معنى الكلام ما رُوي عن مجاهد لقيل : وأنزلنا إليك مصدّقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه لأنه متقدّم من صفة الكاف التي في «إليك » ، وليس بعدها شيء يكون مهيمنا عليه عطفا عليه ، وإنما عطف به على المصدّق ، لأنه من صفة «الكتاب » الذي من صفته «المصدّق » .
فإن ظنّ ظانّ أن المصدّق على قول مجاهد وتأويله هذا من صفة الكاف التي في «إليك » ، فإن قوله : لِمَا بينَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك ، وأن يكون المصدّق من صفة الكاف التي في «إليك » ، لأن الهاء في قوله : بينَ يَدَيْهِ كناية اسم غير المخاطب ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله «إليك » ، ولو كان المصدّق من صفة الكاف لكان الكلام : وأنزلنا إليك الكاب مصدقا لما بين يديك من لكتاب ومهيمنا عليه ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتّبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقّ .
وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل ، بكتابه الذي أنزله إليه ، وهو القرآن الذي خصه بشريعته . يقول تعالى ذكره : احكم يا محمد بين أهل الكتاب والمشركين بما أنزل إليك من كتابي وأحكامي ، في كلّ ما احتمكوا فيه إليك من الحدود والجروح والقود والنفوس ، فارجم الزاني المحصن ، واقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلما ، وافقأ العين بالعين ، واجدع الأنف بالأنف ، فإن أنزلت إليك القرآن مصدّقا في ذلك ما بين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليه ، رقيبا يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبله . ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين يقولون : إن أوتيتم الجلد في الزاني المحصن دون الرجم ، وقتل الوضيع بالشريف إذا قتله ، وترك قتل الشريف بالوضيع إذا قتله ، فخذوه ، وإن لم تُؤتوه فاحذروا عن الذي جاءك من عند الله من الحقّ ، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك . يقول له : اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك ، فاختر الحكم عليهم ، ولا تتركن العمل بذلك اتباعا منك أهواءهم وإيثارا لها على الحقّ الذي أنزلته إليك في كتابي . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ يقول : بحدود الله ، وَلا تَتَبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ الحَقّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن عنبسة ، عن جابر ، عن عامر ، عن مسروق : أنه كان يحلّف اليهودي والنصراني بالله ثم قرأ : وأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ وأنزل الله : أنْ لا يُشْرِكُوا بِه شَيْئا .
القول في تأويل قوله تعالى : لِكُلّ جَعَلنْا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا .
يقول تعالى ذكره : لكلّ قوم منكم جعلنا شرعة . والشرعة : هي الشريعة بعينها ، تجمع الشرعة شراعا ، والشريعة شرائع ، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا ، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد ، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها . وكلّ ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ، ومن ذلك قيل لشريعة الماء : شريعة ، لأنه يشرع منها إلى الماء ، ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع ، لشروع أهله فيه ، ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء : هم شَرَعٌ سواء . وأما المنهاج ، فإن أصله : الطريق البين الواضح ، يقال منه : هو طريق نَهْجٌ ومَنْهجٌ بيّن ، كما قال الراجز :
مَنْ يَكُ فِي شَكَ فَهَذَا فَلْجٌ ***ماءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجٌ
ثم يستعمل في كلّ شيء كان بينا واضحا يعمل به .
ثم اختلف أهل التأويل في المنىّ بقوله : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ فقال بعضهم : عني بذلك أهل الملل المختلفة ، أي أن الله جعل لكلّ ملة شريعة ومنهاجا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول سبيلاً وسنة . والسنن مختلفة : للتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحلّ الله فيها ما يشاء ويحرّم ما يشاء بلاءً ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : لكلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : الدين واحد ، والشريعة مختلفة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ ، قال : الإيمان منذ بعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، لكلّ قوم ما جاءهم من شرعة أو منهاج ، فلا يكون المقرّ تاركا ولكنه مطيع .
وقال آخرون : بل عني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقالوا : إنما معنى الكلام : قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيها الناس لكلكم : أي لكلّ من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيّ ، شِرعة ومنهاجا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة ومنهاجا السبيل لكلكم ، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجا ، يقول : القرآن هو له شرعة ومنهاج .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معناه : لكلّ أهل ملة منكم أيها الأمم جعلنا شرعة ومنهاجا .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لقوله : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً ولو كان عني بقوله : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ أمة محمد وهم أمة واحدة ، لم يكن لقوله : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنى مفهوم ، ولكن معنى ذلك على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة ، وتقدّم إليهم بالعمل بما فيها . ثم ذكر أنه قفى بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله ، وأنزل عليه الإنجيل ، وأمر من بعثه إليه بالعمل بما فيه . ثم ذكر نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأخبرها أنه أنزل إليه الكتاب مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ، وأمره بالعمل بما فيه والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله الذين قصّ عليهم قصصهم ، وإن كان دينه ودينهم في توحيد الله والإقرار بما جاءهم به من عنده والانتهاء إلى أمره ونهيه واحدا ، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكلّ واحد منهم ، ولأمته فيما أحلّ لهم وحرم عليهم .
وبنحو الذي قلنا في الشرعة والمنهاج من التأويل قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن التميمّي ، عن ابن عباس : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان وإسرائيل وأبيه ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن أبي شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن يحيى بن وثاب ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميميّ ، عن ابن عباس : شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سنة وسبيلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن مطرف ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من بني تميم ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لِكلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يعني : سبيلاً وسنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، قال : سمعت الحسن يقول : الشرعة : السنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أي يحيى القتات ، عن مجاهد ، قال : سنة وسبيلاً .
حدثني محمد عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكله : شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : الشرعة : السنة ، ومنهاجا ، قال : السبيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : لِكُلَ جَعَلنْا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول : سبيلاً وسنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحوضي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : سمعت رجلاً من بني تميم ، عن ابن عباس بنحوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول : سبيلاً وسنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : السنة والسبيل .
حدثنا بشرب بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : لِكُلّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا يقول : سبيلاً وسنة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرني عبيد بن سلمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله شِرْعَةً وَمِنْهاجا قال : سبيلاً وسنة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ .
يقول تعالى ذكره : ولو شاء ربكم لجعل شرائعك واحدة ، ولم يجعل لكلّ أمة شريعة ومنهاجا غير شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم ، فكنتم تكونون أمة واحدة ، لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم . ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك ، فخالف بين شرائعك ليختبركم فيعرف المطيع منكم من العاصي والعامل بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من المخالف . والابتلاء : هو الاختبار ، وقد ثبت ذلك بشواهده فيما مضى قبل . وقوله فِيما آتاكُمْ يعني : فيما أنزل عليكم من الكتب . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَلَكِنْ لِيَبْلُوكُمْ فِيما آتاكُمْ قال عبد الله بن كثير : لا أعلمه إلا قال : ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب .
فإن قال قائل : وكيف قال : ليبلوكم فيما آتاكم ، ومن المخاطب بذلك ، وقد ذكرت أن المعنى : لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لكلّ نبيّ مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ، والمخاطب النبيّ وحده ؟ قيل : إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم ، ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانا وضمت إليه غائبا فأرادت الخبر عنه أن تغلّب المخاطب فيخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب ، فلذلك قال تعالى ذكره : لِكُلَ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجا .
القول في تأويل قوله تعالى : فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعا فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .
يقول تعالى ذكره : فبادروا أيها الناس إلى الصلحات من الأعمال والقرب إلى ربكم بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى نبيكم ، فإنه إنما أنزله امتحانا لكم وابتلاء ، ليتبين المحسن منكم من المسيء ، فيجازي جميعكم على عمله جزاءه عند مصيركم إليه ، فإن مصيركم إليه جميعا ، فيخبر كلّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرق الأخرى ، فيفصل بينهم بفصل القضاء ، ويبين المحقّ بمجازاته إياه بجناته من المسيء بعقابه إياه بالنار ، فيتبين حينئذٍ كلّ حزب عيانا ، المحقّ منهم من المبطل .
فإن قال قائل : أو لم ينبئنا ربنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون ؟ قيل : إنه بين ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج ، دون الثواب والعقاب عيانا ، فمصدّق بذلك ومكذّب . وأما عند المرجع إليه ، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكون معها في معرفة المحقّ والمبطل ، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم ، فكذلك خبره تعالى ذكره أنه يبنئنا عند المرجع إليه بما كنا فيه نختلف في الدنيا . وإنما معنى ذلك : إلى الله مرجعكم جميعا ، فتعرفون المحقّ حينئذٍ من المبطل منكم . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن أبي سنان ، قال : سمعت الضحاك يقول : فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم البرّ والفاجر .
جالت الآيات المتقدّمة جولة في ذكر إنزال التّوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن ؛ فكان كردّ العجز على الصّدر لقوله : { يأيها الرسول لا يُحزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] ليبيّن أنّ القرآن جاء نسخاً لما قبله ، وأنّ مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتّوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام ، وليعلمهم أنّهم لا يطمعون من محمّد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام ، فوقْعُ قوله : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ } إتماماً لترتيب نزول الكُتب السماويّة ، وتمهيداً لقوله : { فاحْكم بينهم بما أنزل الله } . ووقع قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } موقع التّخلّص المقصود ، فجاءت الآيات كلّها منتظمة متناسقة على أبدع وجه .
والكتاب الأوّل القرآن ، فتعْريفه للعهد . والكتاب الثّاني جنس يشمل الكتب المتقدّمة ، فتعريفه للجنس . والمُصدّق تقدّم بيانه .
والمهيمن الأظهر أنّ هاءه أصلية وأنّ فعله بوزن فيْعَل كسَيْطَر ، ولكن لم يسمع له فعل مجرّد فلم يسمع هَمَن .
قال أهل اللّغة لا نظير لهذا الفعل إلاّ هَيْنَم إذا دعا أو قرأ ، وبيقر إذا خرَج من الحِجاز إلى الشّام ، وسيطر إذا قَهر . وليس له نظير في وزن مفيعل إلاّ اسم فاعل هذه الأفعال ، وزادوا مُبيطر اسم طبيب الدّواب ، ولم يسمع بَيْطَر ولكن بَطَر ، ومُجيمر اسم جبل ، ذكره امرؤ القيس في قوله :
كأنّ ذرى رأس المُجَيْمِر غُدوة *** من السيل والغثاء فلكة مغزل
وفسّر المهيمن بالعالي والرقيب ، ومن أسمائه تعالى المهيمن .
وقيل : المهيمن مشتقّ من أمِن ، وأصله اسم فاعل من آمنَه عليه بمعنى استحفظه به ، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة ، فأصله مُؤَأْمِن ، فكأنّهم راموا أن يفرّقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمَن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه ، لأنّ هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلّة فقلبوا الهمزة الثّانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء ، كما قالوا في أراق هَراق ، فقالوا : هَيْمَن .
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنّسبة لما قبله من الكتب ، فهو مؤيّد لبعض ما في الشّرائع مُقرّر له من كلّ حكم كانت مصلحته كلّيّة لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان ، وهو بهذا الوصف مُصَدّق ، أي مُحقّق ومقرّر ، وهو أيضاً مبطل لبعض ما في الشّرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كلّ ما كانت مصالحه جزئيّة مؤقّتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصّة .
وقوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } أي بما أنزل الله إليك في القرآن ، أو بما أوحاه إليك ، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التّوراة والإنجيل ما لم ينسخه اللّهُ بحكم جديد ، لأنّ شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لِمَنْ قبلنا . فحكم النّبيء على اليهوديين بالرجم حكم بما في التّوراة ، فيحتمل أنّه كان مؤيّداً بالقرآن إذا كان حينئذٍ قد جَاء قوله : « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما » .
ويحتمل أنّه لم يؤيّد ولكن الله أوحى إلى رسوله أنّ حكم التّوراة في مثلهما الرجم ، فحكم به ، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم . وقد اتّصل معنى قوله : { فاحكم بينهم بما أنزل الله } بمعنى قوله : { وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط } [ المائدة : 42 ] ؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] ، ولكنه بيان سمّاه بعضُ السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحيّة .
والنّهي عن اتّباع أهوائهم ، أي أهواء اليهود حين حكّموه طامعين أن يَحكم عليهم بما تَقَرّر من عوائِدهم ، مقصود منه النّهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه ، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة ، لأنّ نزول القرآن مهيمناً أبطل ما خالفه ، ونزولَه مصدّقاً أيَّد ما وافقه وزكّى ما لم يخالفه .
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله ، فالمقصود من هذا النّهي : إمَّا إعلان ذلك ليعلمه النّاس وييأس الطّامعون أن يحكم لهم بما يشتهون ، فخطاب النّبيء صلى الله عليه وسلم بقوله : { ولا تتّبع أهواءهم } [ المائدة : 49 ] مراد به أن يتقرّر ذلك في علم النّاس ، مثل قوله تعالى : { لئنْ أشركت ليحبَطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] . وإمَّا تبيين الله لرسوله وجهَ ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلّة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرُقاً للترجيح ، وذلك أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لشدّة رغبته في هُدى النّاس قد يتوقّف في فصل هذا التّحكيم ، لأنّهم وعَدوا أنّه إن حكم عليهم بما تقرّر من عوائدهم يؤمنون به . فقد يقال : إنّهم لمّا تراضَوا عليه لِم لا يُحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام ، فبيّن الله له أنّ أمور الشّريعة لا تهاون بها ، وأنّ مصلحةَ احترام الشّريعة بين أهلها أرجحُ من مصلحة دخول فريق في الإسلام ، لأنّ الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفاً لمريديه ، قال تعالى : { يمُنّون عليكَ أنْ أسلموا قل لا تُمُنّوا عليّ إسلامَكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } [ الحجرات : 17 ] .
وقوله : { لكلَ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } كالتعليل للنّهي ، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسَّكوا بشرعكم . .
والشرعة والشريعة : الماء الكثير من نهر أو واد . يقال : شريعة الفرات . وسمّيت الديانة شريعة على التشبيه ، لأنّ فيها شفاء النّفوس وطهارتَها . والعرب تشبّه بالماء وأحواله كثيراً ، كما قدمناه في قوله تعالى : { لَعَلِمه الّذين يستنبطونه منهم } في سورة النساء ( 83 ) .
والمنهاج : الطريق الواسع ، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء ، كقول قيس بن الخطيم :
فذكر الرشاء مجرّد تخييل . ويصحّ أن يجعل له رديف في المشبَّه بأن تشبّه العوائد المنتزعة من الشّريعة ، أو دلائل التّفريع عن الشريعة ، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصّل إلى السماء .
فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتّصال بالإسلام ، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء ، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم ، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم ، فذلك كالمنهاج الموصّل إلى غير المورود . وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرْق بين حاليهما وبالتّأمّل يظهر لهم .
وقوله : ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة } . الجعل : التقدير ، وإلاّ فإنّ الله أمر النّاس أن يكونوا أمّة واحدة على دين الإسلام ، ولكنّه رتّب نواميس وجبلاّت ، وسبَّب اهتداء فريق وضلال فريق ، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبّر عنه بالتّوفيق أو الخذلان ، والميللِ أو الانصراففِ ، والعزم أو المكابرة . ولا عذر لأحد في ذلك ، لأنّ علم الله غير معروف عندنا وإنّما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات .
والأمّة : الجماعة العظيمة الّذين دينهم ومعتقدهم واحد ، هذا بحسب اصطلاح الشّريعة . وأصل الأمّة في كلام العرب : القوم الكثيرون الّذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلّمون بلسان واحد ، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد ، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزّيادة ولا للتطوّر من أنفسها .
ومعنى { ليبلوكم فيما آتاكم } هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه . والبلاء : الخبرة . والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للنّاس ، والمرادُ لازم المعنى على طريق الكناية ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا *** لأعْلَمَ مَن جَبَانُهَا مِن شجاعها
لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللنّاس . ومعناه أنّ الله وَكَل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول النّاس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابَق النّاس إلى إعمال مواهبهم العقليّة فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علماً وتقام الأدلّة على الاعتقاد الصّحيح . وكلّ ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلّة البشر من الصلاحيّة للخير والإرشاد على حسب الاستعداد ، وذلك من الاختبار . ولذلك قال { ليبلوكم فيما آتاكم } ، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنّظر . فيظهر التّفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتّى يَبلغ بعضُها درجاتتٍ عالية ، ومن الشرائع الّتي آتاكموها فيظهر مقدارُ عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل .
وفرّع على { ليبلوكم } قوله : { فاستبقوا الخيرات } لأنّ بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التّوفيق أوضَح وأجلى .
والاستباق : التسابق ، وهو هنا مجاز في المنافسة ، لأنّ الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر ، فشابه التّسابق . ولتضمين فعل { استبقوا } بمعنى خذوا ، أو ابتدروا ، عدّي الفعل إلى { الخيرات } بنفسه وحقّه أن يعدّى بإلى ، كقوله { سَابقوا إلى مغفرة من ربّكم } [ الحديد : 21 ] . وقوله : { فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي من الاختلاف في قبول الدّين .