وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا } : قال مجاهد : عن الحق ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } قال مجاهد : عن الحق ، فهم يترددون . وقال قتادة : في الضلالات .
وقوله : { فَأَغْشَيْنَاهُمْ } أي : أغشينا أبصارهم عن الحق ، { فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } أي : لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه .
قال ابن جرير : وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : " فأعشيناهم " بالعين المهملة ، من العشا وهو داء في العين .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ثم قال : من منعه الله لا يستطيع .
وقال عكرمة : قال أبو جهل : لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا } إلى قوله : { [ فَهُمْ ] لا يُبْصِرُونَ }{[24670]} ، قال : وكانوا يقولون : هذا محمد . فيقول : أين هو أين هو ؟ لا يبصره . رواه ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب قال : قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه{[24671]} كنتم ملوكا ، فإذا متم{[24672]} بعثتم بعد موتكم ، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها . وخرج [ عليهم ]{[24673]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله على أعينهم دونه ، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم ، ويقرأ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } حتى انتهى إلى قوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ، وباتوا رُصَدَاء على بابه ، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار ، فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمدًا . قال قد خرج عليكم ، فما بقي منكم من رجل إلا [ قد ]{[24674]} وضع على رأسه ترابا ، ثم ذهب لحاجته . فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب . قال : وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أبي{[24675]} جهل فقال : " وأنا أقول ذلك : إن لهم مني لذبحا ، وإنه أحدهم " .
وقوله : وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا يقول تعالى ذكره : وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدّا ، وهو الحاجز بين الشيئين إذا فتح كان من فعل بني آدم ، وإذا كان من فعل الله كان بالضمّ . وبالضمّ قرأ ذلك قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين . وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفيين بفتح السين سَدّا في الحرفين كلاهما والضم أعجب القراءتين إليّ في ذلك ، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة .
وعنى بقوله : وَجَعَلْنا مِن بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا أنه زيّن لهم سوء أعمالهم ، فهم يَعْمَهون ، ولا يبصرون رشدا ، ولا يتنبهون حقا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا قال : عن الحقّ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَجَعَلْنا مِنْ بين أيْديهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفهِمْ سَدّا عن الحقّ فهم يتردّدون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجَعَلْنا مِنْ بينِ أيْدِيهِمْ سدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا قال : ضلالات .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَجَعَلْنا مِنْ بَينِ أيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : جعل هذا سدّا بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، وقرأ : إنّ الّذِينَ حَقّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ . . . الاَية كلها ، وقال : من منعه الله لا يستطيع .
وقوله : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يقول : فأغشينا أبصار هؤلاء : أي جعلنا عليها غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ هُدًى ، ولا ينتفعون به .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أبي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة . ذكر الرواية بذلك :
حدثني عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا عُمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلنّ ولأفعلنّ ، فأنزلت : إنّا جَعَلْنا فِي أعْناقِهِمْ أغْلالاً . . . إلى قوله فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : فكانوا يقولون : هذا محمد ، فيقول : أين هو ، أين هو ؟ لا يبصره .
وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : «فَأَعْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ » بالعين بمعنى أعشيناهم عنه ، وذلك أن العَشَا هو أن يمشي بالليل ولا يبصر .
وقرأ الجمهور «سُداً » بضم السين في الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب وعكرمة والنخعي وابن كثير «سَداً » بفتح السين ، وقال أبو علي : قال قوم هما بمعنى واحد أي حائلاً يسد طريقهم ، وقال عكرمة : ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح .
قال القاضي أبو محمد : والسد ما سد وحال ، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب : طلع سد مع انتشار الطفل{[9773]} ، أي سحاب سد الأفق ، ومنه قولهم : جراد سد{[9774]} ، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد دونهم ، وقرأ جمهور الناس «فأغشيناهم » بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة ، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين «فأعشيناهم » بالعين غير منقوطة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم{[9775]} والمعنى { فهم لا يبصرون } رشداً ولا هدى ، وقرأ يزيد البربري «فأغشيتهم » بتاء دون ألف وبالغين منقوطة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.