يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ } أي : أرض مصر ، { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } قال السُّدِّي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يتصرف فيها كيف يشاء . وقال ابن جرير : يتخذ منها منزلا حيث يشاء{[15215]} بعد الضيق والحبس والإسار .
{ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي : وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته ، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز ؛ فلهذا أعقبه الله عز وجل السلامة والنصر والتأييد ، { وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكّنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وهكذا وطأنا ليوسف في الأرض ، يعني أرض مصر . { يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ } يقول : يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء بعد الحبس والضيق . { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ } من خلقنا ، كما أصبنا يوسف بها ، فمكنّا له في الأرض بعد العبودة والإسار وبعد الإلقاء في الجبّ . { وَلا نُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ } يقول : ولا نُبطل جزاء عمل من أحسن فأطاع ربه وعمل بما أمره وانتهى عما نهاه عنه ، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله . وكان تمكين الله ليوسف في الأرض ، كما :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما قال يوسف للملك : { اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ إنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } قال الملك : قد فعلت فولاه فيما يذكرون عمل إطفير وعزل إطفير عما كان عليه ، يقول الله : وكذلكَ مَكّنا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ . . . الآية . قال : فذكر لي والله أعلم أن إطفير هلك في تلك الليالي ، وأن الملك الرّيان بن الوليد زوّج يوسف امرأة إطفير راعيل ، وأنها حين دخلت عليه قال : أليس هذا خير مما كنت تريدين ؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيها الصدّيق لا تلُمني ، فإني كنتُ امرأة كما ترى حُسنا وجمالاً ، ناعمة في مُلك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنتَ كما جعَلك الله في حُسنك وهيئتك ، فغلبتني نفسي على ما رأيت . فيزعمون أنه وجدها عذراء ، فأصابها ، فولدت له رجلين : إفراثيم بن يوسف ، وميشا بن يوسف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : { وكذلكَ مَكّنا ليُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ } قال : استعمله الملك على مصر ، وكان صاحب أمرها ، وكان يلي البيع والتجارة وأمرها كله ، فذلك قوله : { وكذلكَ مَكنّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يشاءُ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { يَتَبَوّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ } قال : ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا ، يصنع فيها ما يشاء ، فُوّضَتْ إليه . قال : ولو شاء أن يجعل فرعون من تحت يديه ، ويجعله فوقه لفعل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن مجاهد ، قال : أسلم الملك الذي كان معه يوسف .
وقوله تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف } الآية ، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به كهذه الفعال المنصوصة ، درجناه في الرتب ونقلناه فمكنا له في الأرض .
قال القاضي أبو محمد : فروي أن العزيز مات في تلك الليالي ، وقال ابن إسحاق : بل عزله الملك ثم مات أطفير ، فولاه الملك مكانه وزوجه زوجته ، فلما دخلت عليه عروساً قال لها : أليس هذا خيراً مما كنت أردت ؟ فقالت له : أيها الصديق كنت في غاية الجمال ، وكنت شابة عذراء ، وكان زوجي لا يطأ ، فغلبتني نفسي في حبك ، فدخل يوسف بها فوجدها بكراً ، وولدت له ولدين . وروي أن الملك عزل العزيز ، وولاه موضعه ، ثم عظم ملك يوسف وتغلب على حال الملك أجمع ، قال مجاهد : وأسلم الملك آخر أمره ، ودرس أمر العزيز وذهبت دنياه ، ومات وافتقرت زوجته ، وزمنت وشاخت ، فلما كان في بعض الأيام . لقيت يوسف في طريق ، والجنود حوله ووراءه ، وعلى رأسه بنود عليها مكتوب { هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله ، وما أنا من المشركين }{[6734]} [ يوسف : 108 ] فصاحت به وقالت : سبحان من أعز العبيد بالطاعة ، وأذل الأرباب بالمعصية ، فعرفها ، وقالت له : تعطف عليَّ وارزقني شيئاً فدعاها وكلمها ، وأشفق لحالها ، ودعا الله تعالى ، فرد عليها جمالها وتزوجها .
قال القاضي أبو محمد : وروي في نحو هذا من القصص ما لا يوقف على صحته ، ويطول الكلام بسوقه . وقرأ الجمهور : { حيث يشاء } على الإخبار عن يوسف ؛ وقرأ ابن كثير وحده { حيث نشاء } بالنون على ضمير المتكلم . أي حيث يشاء الله من تصرف يوسف على اختلاف تصرفه ، وحكى أبو حاتم هذه القراءة عن الحسن وشيبة ونافع وأبي جعفر بخلاف عن الثلاثة المدنيين ؛ وقال أبو علي : إما أن يكون تقدير هذه القراءة : حيث يشاء من المحاريب والمتعبدات وأحوال الطاعات ، فهي قرب يريدها الله ويشاؤها ؛ وإما أن يكون معناها : حيث يشاء يوسف ، لكن أضاف الله عز وجل المشيئة التي ليوسف إليه من حيث هو عبد من عبيده ، وكانت مشيئته بقدرة الله تعالى وقوته كما قال : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }{[6735]} [ الأنفال : 17 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله من أبي علي نزعة اعتزالية ، وتحفظ من أن أفعال العباد من فاعلين ، فتأمله .
واللام في قوله : { مكنا ليوسف } يجوز أن تكون على حد التي في قوله { ردف لكم }{[6736]} [ النمل : 72 ] و { للرؤيا تعبرون }{[6737]} [ يوسف : 43 ] . وقوله : { يتبوأ } في موضع نصب على الحال ، و { حيث يشاء } نصب على الظرف أو على المفعول به ، كما قال الشماخ : حيث تكوى النواحز{[6738]} . وباقي الآية بين .