وقوله : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لا تُدهنُوا وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو الركون إلى الشرك .
وقال أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم .
وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن ، أي : لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم ، { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } أي : ليس لكم من دونه{[14938]} من ولي ينقذكم ، ولا ناصر يخلصكم من عذابه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُوَاْ إِلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسّكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تميلوا ، أيها الناس ، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله ، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم ، { فتمسّكم النار } ، بفعلكم ذلك ، وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ يليكم . { ثُمّ لا تنْصُرونَ } ، يقول : فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله ، بل يخليكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ } ، يعني : الركون إلى الشرك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا } ، يقول : لا ترضوا أعمالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا } ، يقول : لا ترضوا أعمالهم ، يقول : الركون : الرضا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : { وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا } ، قال : لا ترضوا أعمالهم ، فتمسكم النار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا } ، قال : قال ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ } ، يقول : لا تلحقوا بالشرك ، وهو الذي خرجتم منه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ } ، قال : الركون : الإدهان . وقرأ : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } ، قال : تركن إليهم ، ولا تنكر عليهم الذي قالوا : وقد قالوا العظيم من كفرهم بالله وكتابه ورسله . قال : وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام ، أما أهل الذنوب من أهل الإسلام ، فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم ، ما ينبغي لأحد أن يصالح على شيء من معاصي الله ولا يركن إليه فيها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}، يعني: ولا تميلوا إلى أهل الشرك، يقول: ولا تلحقوا بهم، {فتمسكم النار}، يعني: فتصيبكم النار، {وما لكم من دون الله من أولياء}، يعني: من أقرباء يمنعونكم، يقول: لا يمنعونكم من النار، {ثم لا تنصرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا تميلوا، أيها الناس، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم، {فتمسّكم النار}، بفعلكم ذلك، وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ يليكم.
{ثُمّ لا تنْصُرونَ}، يقول: فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يخليكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم... قال ابن زيد، في قوله: {وَلا تَرْكَنُوا إلى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمُ النّارُ}، قال: الركون: الإدهان...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) قال الحسن: هو صلة قوله: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معكم ولا تطغوا) (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) قال الحسن: بينهما دين الله؛ بين الركون إلى الظلمة والطغيان في النعمة.
الآية، وإن كانت في أهل الشرك، فهي فيهم، وفي غيرهم من الظلمة؛ إن كل من ركن إلى الظلمة، يطيعهم، أو يودهم، فهو يخوَّف أن يكون في وعيد هذه الآية (وما لكم من دون الله من أولياء) في دفع العذاب عنكم أو إحداث نفع لكم...
وتأويل قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) في ظلمهم وفي ما يدعونكم إليه (فتمسكم النار)...
والركون إلى الشيء هو السكون إليه بالأنس والمحبة، فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم، وهو مثل قوله تعالى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"فتمسكم النار" جواب النهي وبيان، لأنهم متى خالفوا هذا النهي، وسكنوا إلى الظالمين نالتهم النار، ولم يكن لهم ناصر من دون الله يدفع عنهم ثم لا يجدون من ينصرهم، ويدفع عنهم على وجه المغالبة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تعملوا أعمالَهم، ولا ترضوا بأعمالِهم، ولا تمدحوهم على أعمالهم، ولا تتركوا الأمرَ بالمعروف لهم، ولا تأخذوا شيئاً من حرام أموالهم، ولا تساكنوهم بقلوبكم، ولا تخالطوهم، ولا تعاشروهم... كل هذا يحتمله الأمرُ، ويدخل تحت الخطاب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدّ العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمّل قوله: {وَلاَ تركنوا} فإن الركون هو الميل اليسير.
{إِلَى الذين ظَلَمُواْ} أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين... وما لكم من دون الله من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه...
{ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} ثم لا ينصركم هو، لأنه وجب في حكمته تعذيبكم وترك الإبقاء عليكم. فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: معناها الاستبعاد، لأنّ النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب واقتضاء حكمته له...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الركون معناه السكون إلى شيء والرضا به... فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، و {الذين ظلموا} هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ؛ وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ قَالَ اللَّهُ فِي الْأَوَّلِ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}. وَالْآيَةُ إنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي الْعُصَاةِ...
قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون...
ثم قال: {ثم لا تنصرون} والمراد: لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة. واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن إلى الظلمة لا بد وأن تمسه النار وإذا كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهي عن الإفراط في الدين، أتبعه النهي عن التفريط بالتقصير فيه بسفول الهمم على وجه عام، وكان الحب في الله والبغض منه أوثق عرى الإيمان، أشار إلى ضده الذي هو أوثق عرى الشيطان فقال: {ولا تركنوا} أي شيئاً من ركون، وقال: {إلى الذين ظلموا} أي وجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين، أي بالميل إليهم بأن تثاقل أنفسكم نحوهم للميل إلى أعمالهم ولو بالرضى به والتشبه بهم والتزيّي بزيهم،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} أي ولا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم فتجعلوهم ركنا لكم تعتمدون عليهم فتقرونهم على ظلمهم، وتوالونهم في سياستكم الحربية أو أعمالكم الملية. فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، فالركون من ركن البناء، وهو الجانب القوي منه، ومنه قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80]، والسند بمعنى الركن، وقد اشتق منه سند إلى الشيء [كركن إليه]، واستند إليه، وفسره الفيروزأبادي في قاموسه بالتبع للجوهري بالميل إلى الشيء والسكون له، وهو تفسير بالأعم كعادتهم، وفسره الزمخشري بالميل اليسير، وتبعه البيضاوي وغيره من المفسرين الذين يعتمدون عليه في تحريره للمعاني اللغوية، لدقة فهمه، وذوقه، وحسن تعبيره، وإنه لكذلك، وقلما يخطئ في اللغة إلا متحرفا إلى شيوخ المذهب [المعتزلة]، أو متحيزا إلى فئة رواة المأثور من الصحابة والتابعين، أو نقلة اللغة، وشيوخ المذهب يخطئون في الاجتهاد، وفئة الروايات تخطئ في اعتماد الأسانيد الضعيفة والإسرائيليات، ورواة اللغة يفسرون اللفظ أحيانا بما هو أعم منه، أو بلازمه، أو بغير ذلك من قرائن المجاز في بعض كلام العرب، ولا يعنون أن ذلك هو حد اللفظ بحقيقته، وقد فسر الركون بعضهم بالميل والسكون إلى الشيء، وهو من تساهلهم، ولكنهم قد ذكروا في مادته ما يدل على هذا التساهل ويؤيد ما حققناه.
قال في القاموس المحيط تبعا للصحاح: ركن إليه – كنصر- ركونا: مال وسكن، والركن بالضم الجانب الأقوى. [زاد الجوهري: من كل شيء]، والأمر العظيم، والعز والمنعة اه، ومثله في لسان العرب وذكر الآية، وأن الركون فيها من مال إلى الشيء واطمأن إليه، والاطمئنان أقوى من السكون، وفسره في المصباح المنير بالاعتماد على الشيء، وهو أقوى من الاطمئنان، والمعاني الأربعة أي الميل والسكون والاطمئنان والاعتماد من لوازم معنى الركون، ولا تحيط بحقيقته، وأقواها آخرها.
قال في اللسان كغيره: وركن الشيء جانبه الأقوى، والركن الناحية القوية، وما تقوى به من ملك وجند وغيره، وبه فسر قوله تعالى: {فتولى بركنه} [الذاريات: 39]، ودليل ذلك قوله تعالى: {فأخذناه وجنوده} [القصص: 40] أي أخذناه وركنه الذي تولى به الخ ما قال، وهو يدل على ما حققاه في معنى الركون الحقيقي، وإنما عنيت بتحقيقه لما جاءوا به تفسيره وتفسير الظلم المطلق المعاقب عليه من التشديد الذي لا ترضاه الآية، كما فعلوا في تفسير الاستقامة، إذا تجاوزوا بهما سماحة دين الفطرة ويسر الحنيفية السمحة، فإن الله تعالى جعل دينه يسرا لا عسر فيه، وسمحا لا حرج على متبعيه.
فسر الزمخشري الذين ظلموا بقوله: أي إلى الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل إلى الظالمين...
ومعنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل مَن مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل، أي ظلم كان، وهذا غلط أيضا، وإنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه، فهم كالذين كفروا في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين، لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي، وحسبك منها قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6]، والمخاطبون بالنهي هم المخاطبون بالآية السابقة بقوله {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112]، وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة في الآيات [27، 67 و94]، وعبر عنهم فيها بالظالمين أيضا كقوله: {وقيل بعدا للقوم الظالمين} [هود: 44]، فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف والتعبير بالذين وصلته، فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد.
فقوله تعالى: {فتمسكم النار} معناه فتصيبكم النار التي هي جزاء الظالمين، بسبب ركونكم إليهم بولايتهم، والاعتزاز بهم، والاعتماد عليهم في شؤونكم الملية؛ لأن الركون إلى الظلم وأهله ظلم {ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51]، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر الظلم هنا بالشرك، والذين ظلموا بالمشركين؛ إذ السورة مكية، ولم يكن في مكة وما حولها غير المشركين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا المؤمنين، ومعنى الآية عام في موضوعها، فولاية أهل الكتاب على المؤمنين كولاية المشركين، لا خلاف في هذا، وهو منصوص، ولكن قال بعض المفسرين: إن الآية عامة في كل نوع من أنواع الظلم، فيشمل ظلم المسلمين لأنفسهم في أحكامهم وأعمالهم، وسيأتي بيانه بعد تمام تفسيرها الذي نفهمه من مدلول ألفاظها وسياقها وحال المخاطبين بها مع الظالمين لهم في عصرهم، ويدل على ما حققناه قوله تعالى:
{وما لكم من دون الله من أولياء} أي وما لكم في هذه الحال التي تركنون إليهم فيها غير الله من أنصار يتولونكم.
{ثم لا تنصرون} بسبب من الأسباب، ولا بنصر الله تعالى، فإن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم، وهو لا ينصر الظالمين، كما قال {وما للظالمين من أنصار} [البقرة: 270]؛ بل تكون غايتكم الحرمان مما وعد الله رسله، ومن ينصره من المؤمنين من نصره الخاص، فالتعبير ب (ثم) للدلالة على الغاية والعاقبة المقدرة لهم إن ركنوا إلى أعدائه وأعدائهم الظالمين. وقال الزمخشري ومن تبعه: إنها دالة على استبعاد نصرهم في هذه الحالة؛ لأن حكمة الله اقتضت عقابهم بالنار، وما قلته أقرب ولله الحمد والمنة.
وفي معنى الآية ما ورد من الآيات الكثيرة في النهي عن ولاية الكفار واتخاذ وليجة من دون الله ورسوله منهم، وعن اتخاذ المؤمنين بطانة من دونهم، وقد اتخذ المشركون وسائل كثيرة لاستمالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الركون إليهم، فعصمه الله من ذلك بعد أن كاد يرجح له اجتهاده أن في بعض ذلك مصلحة واستمالة لهم إلى الإيمان، وذلك قوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} [الإسراء: 74، 75]، يعني لولا أن ثبتناك بالعصمة لقاربت أن تركن إليهم شيئا قليلا من الركون، كأن تصدقهم أنهم أهل لأن يعتمد عليهم بعض الاعتماد، إذا أقبلت عليهم وأعرضت عن فقراء المؤمنين لاستمالتهم كما فعلت مع الأعمى، ولكن تثبيتنا إياك عَصَمَك من مقاربة أقل الركون إليهم، فضلا عن مقارفة هذا الأقل، فالآية الأولى نص في أنه صلى الله عليه وسلم ما ركن أقل الركون ولا قارب أن يركن، والآية الثانية نص في أنه لو فعل ذلك [فرضا] لعاقبه الله عقابا مضاعفا في الحياة والممات معا، وهذه مبالغة في الزجر والوعيد لغيره صلى الله عليه وسلم على الركون إليهم لا تصل بلاغة الكلام البشري إلى مبادئها فضلا عن أوساطها أو غاياتها.
ولو كان معنى الركون في اللغة الميل اليسير مهما يكن نوعه -كما زعم الزمخشري ومقلدوه -لكان هذا الوعيد الشديد على قليل منه على قلته في نفسه مما لا يمكن أن تراد به حقيقته، لأنه أشد الوعيد على ما لا يستطيع بشر اتقاءه إلا بعصمة خاصة من الله تعالى، كما سترى في تفسيرهم له، أما والحق ما قلناه، وهو أن الركون إلى الشخص أو الشيء هو الاعتماد عليه، والاستناد إليه، وجعله ركنا شديدا للراكن، فأجدر بقليله أن يتعذر اجتنابه على أكمل البشر إلا بالعصمة والتثبيت الخاص من الله عز وجل، فكيف ينهى جميع المؤمنين عن الميل اليسير إلى من وقع منه أي نوع من الظلم؟
لم يكن ميل النفس الطبعي من المؤمنين إلى أولادهم وأرحامهم المشركين الظالمين، ولا البر بهم والإحسان إليهم محظورا عليهم، لأنه ليس من الركون إليهم الخاص بالولاية لهم والاعتماد عليهم، وهو المنهي عنه، ولا من الميل إليهم لأجل الظلم، ولما فعل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فعلته التي هي أقرب إلى الولاية الحربية منها إلى صلة الرحم- كما تأولها- أنزل الله تعالى سورة الممتحنة التي نهى فيها عن ولاية المشركين الظالمين المقاتلين في الدين والمودة فيها، وقال {ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} [التوبة: 23]، وأذن بالبر والقسط لغيرهم منهم، ولا تنس ما ورد في الصحيح من نزول قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} [القصص: 56] في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبي طالب الذي كفله في صغره، وكان يحميه ويناضل عنه في نوبته، واذكر قول السيدة خديجة رضي الله عنها له في حديث بدء الوحي: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل. الخ.
بل لم تكن الثقة ببعض المشركين والاعتماد عليهم في أهم الأعمال من الركون المنهي عنه، فقد وثق النبي صلى الله عليه وسلم والصديق الأكبر رضي الله عنه بمشرك من بني الديل، وائتمناه على الراحلتين اللتين هاجرا عليهما، ليوافيهما بهما في الغار بعد ثلاث، وكان المشركون الظالمون يبحثون عنهما، وقد جعلوا لمن يدلهم عليهما قدر ديتهما، واختلف أئمة العلم في استعانة المسلمين بالكافر في الحرب لتعارض الأحاديث فيها، وجمع الحافظ بينها في التلخيص بقوله: إن الاستعانة كانت ممنوعة، ثم رخص فيها. قال الشوكاني: وهذا أقربها، وعليه نص الشافعي اه. ولا شك أنهم لم يعدوها من الركون إليهم...
والكافرون- كما نعلم- قد عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، وأن يعبدوا هم الله سنة، ولكن الحق سبحانه قطع وفصل في هذا الأمر. ويأتي هنا توكيد هذا الأمر؛ فيقول سبحانه: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}: والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه أن لقوته شأنا في دعوتك. والركون أيضا يعني: المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزين للناس ما فعله هذا الظالم. وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم، والاستشراء فيه، وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم. وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت أن آفات المجتمعات الإنسانية إنما تنشأ من الركون إلى الظالم؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف يظن أنك لم تعرض عنه إلا لأنك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسبا حساب القوة التي تركن إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعله يرتدع عن ظلمه. والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لأن الحق سبحانه يقول: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنما تقعون في عداء مع منهج الله؛ فيتخلى الله عنكم ولا ينصركم أحد؛ لأنه لا ولي ولا ناصر إلا الله تعالى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم في الانحراف بالعقيدة عن مسارها الصحيح، والتحرك في خطوط الكفر والشرك والضلال، أو الذين ظلموا الناس، بسبب ما يملكونه من قوة وسيطرة وسلطان وذلك بالاستسلام لفكرهم وخططهم العملية، والخضوع لعمليات الإذلال للمؤمنين والمستضعفين التي يمارسونها، ومشاركتهم في التحرك السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يقومون به، لأن ذلك يؤدي إلى تعزيز قواعد الظلم في الأمة على مستوى التشريع والتنفيذ، فإن قوة الظلم تكبر وتنمو بانضمام أفراد من الأمة للظالم الذي يستفيد من ذلك لدعم حكمه وظلمه، ولذلك فلا بد من دراسة الخطوات الإيجابية التي يتحرك بها الناس مع الحكم الظالم، تحت ضغط الظروف الذاتية أو الخارجية الطارئة، وذلك بالتدقيق في تأثير تلك الخطوات على واقع الظلم، ومدى تقويتها للحكم والحاكم، سواءً كان الوصول إلى تلك النتائج مقصوداً من قبلهم أم لم يكن مقصوداً، لأن العبرة في مثل هذه الأمور النتائج لا النوايا...