فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (113)

قوله : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } ، قرأ الجمهور بفتح الكاف ، وقرأ طلحة بن مصرّف ، وقتادة ، وغيرهما { تركنوا } بضم الكاف . قال الفراء : وهي لغة تميم وقيس ، قال أبو عمرو : وقراءة الجمهور هي لغة أهل الحجاز ، قال : ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف ، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم . وقرأ ابن أبي عبلة بضم التاء وفتح الكاف على البناء للمفعول من أركنه . قال في الصحاح : ركن إليه يركن بالضم . وحكى أبو زيد : ركن إليه بالكسر ، يركن ركوناً فيهما : أي مال إليه وسكن قال الله تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } وأما ما حكى أبو زيد ركن يركن بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين . انتهى . وقال في شمس العلوم : الركون : السكون . يقال : ركن إليه ركوناً ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } انتهى . وقال في القاموس : ركن إليه ، كنصر وعلم ، ومنع ركوناً : مال وسكن ، انتهى . فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما قيده به صاحب الكشاف حيث قال : فإن الركون هو الميل اليسير ، وهكذا فسره المفسرون ، بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف ؛ ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيوداً لم يذكرها أئمة اللغة . قال القرطبي في تفسيره : الركون حقيقته الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به . ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخصّ من معناه اللغوي . فروي عن قتادة ، وعكرمة في تفسير الآية أن معناها : لا تودوهم ولا تطيعوهم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية : الركون هنا : الإدهان ، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم . وقال أبو العالية : معناه لا ترضوا أعمالهم .

وقد اختلف أيضاً الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة ؟ فقيل خاصة ، وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين ، وأنهم المرادون بالذين ظلموا ، وقد روي ذلك عن ابن عباس .

وقيل : إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم ، وهذا هو الظاهر من الآية ، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون ، لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . فإن قلت : وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة ، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح : «أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة » . وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة ، وما لم يظهر منهم الكفر البواح ، وما لم يأمروا بمعصية الله . وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه ، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح ، فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله ؛ ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم . والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله ؛ ومن جملة ما يأمرون به : الجهاد ، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا ، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم ، وإقامة الحدود على من وجبت عليه . وبالجملة ، فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله ، ولا بدّ في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ، ونحو ذلك مما لا بدّ منه ، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة ، لتواتر الأدلة الواردة به ، بل قد ورد به الكتاب العزيز : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة ، وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا كما في بعض الأحاديث الصحيحة : «أعطوهم الذي لهم ، واسألوا الله الذي لكم » بل ورد الأمر بطاعة السلطان ، وبالغ في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال : «وإن أخذ مالك وضرب ظهرك » فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون ، فمجرّد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون ، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهراً وباطناً فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر ، لأمر يقتضي ذلك شرعاً كالطاعة ، أو للتقية ومخافة الضرر منهم ، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة ، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة ، إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ، ولا محبة ، ولا رضا بأفعالهم . قلت : أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله ، فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها ، مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدّمنا الإشارة إليها ، ولا شك في هذا ولا ريب ، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله ، كالمناصب الدينية ، ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه ، فذلك واجب عليه فضلاً عن أن يقال جائز له .

وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة ، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين ، والأمراء جمعاً بين الأدلة ، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به ، كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة ، وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة ، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة ، مع كراهة ما هم عليه من الظلم ، وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم ، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة ، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا ، فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد ، والأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، ولا تخفى على الله خافية ؛ وبالجملة فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم ، فعليه أن يزن أقواله وأفعاله ، وما يأتي وما يذر بميزان الشرع ، فإن زاغ عن ذلك : «فعلى نفسها براقش تجني » ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته ، فهو الأولى له ، والأليق به .

يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ، اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم ، وقوّنا على ذلك ويسره لنا ، وأعنا عليه . قال القرطبي في تفسيره : وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار . انتهى . وقال النيسابوري في تفسيره : قال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة . أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب ؛ فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة ، فغير داخلة في الركون . قال : وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة ، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } انتهى .

قوله : { فَتَمَسَّكُمُ النار } بسبب الركون إليهم ، وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار ، أو كالنار ، ومصاحبة النار توجب لا محالة مسّ النار ، وجملة : { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } في محل نصب على الحال من قوله : فتمسكم النار . والمعنى : أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم ، وينقذكم منها { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } من جهة الله سبحانه ، إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب الركون الذي نهيتم عنه ، فلم تنتهوا عناداً وتمرّداً .

/خ115