جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم أنه أجاب القوم إلى ما سألوه من مسألة ربه مائدة تنزل عليهم من السماء.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"تَكُونُ لَنا عِيدا لأَوّلِنا وآخِرِنا"؛ فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا.
وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعا. عن ابن عباس، أنه قال: أكل منها يعني من المائدة حين وضعت بين أيديهم آخر الناس كما أكل منها أوّلهم.
وقال آخرون: معنى قوله "عِيدا "عائدة من الله تعالى علينا حجة وبرهانا.
وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: تكون لنا عيدا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه ونصلي له فيه، كما يعيّد الناس في أعيادهم. لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في العيد ما ذكرنا دون القول الذي قاله من قال معناه: عائدة من الله علينا وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به أولى من توجيهه إلى المجهول منه ما وجد إليه السبيل.
وأما قوله: "لأَوّلِنا وآخِرِنا" فإن الأولى من تأويله بالصواب قول من قال: تأويله للأحياء منا اليوم ومن يجيء بعدنا منا للعلة التي ذكرناها في قوله: "تَكُونُ لَنا عِيدا" لأن ذلك هو الأغلب من معناه.
"وآيَةً مِنْكَ": وعلامة وحجة منك يا ربّ على عبادك في وحدانيتك، وفي صدق على أني رسول إليهم بما أرسلتني به. "وَارْزُقْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ ": وأعطنا من عطائك، فإنك يا ربّ خير من يعطي وأجود من تفضّل، لأنه لا يدخل عطاءه منّ ولا نكد.
وقد اختلف أهل التأويل في المائدة، هل أنزلت عليهم أم لا؟ وما كانت؟ فقال بعضهم: نزلت وكانت حوتا وطعاما، فأكل القوم منها، ولكنها رفعت بعد ما نزلت بأحداث منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى.
وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم.
وقال آخرون: لم ينزل الله على بني إسرائيل مائدة: ثم اختلف قائلو هذه المقالة؛ فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى لخلقه نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات.
وقال آخرون: إن القوم لما قيل لهم:"فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أعذّبُه أحَدا مِنَ العالَمِينَ "استعْفَوا منها فلم تنزل.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألته ذلك ربه. وإنما قلنا ذلك للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم غير من انفرد بما ذكرنا عنه. وبعد، فإن الله تعالى لا يخلف وعده ولا يقع في خبره الخلف، وقد قال تعالى مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك:"إنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ"، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره إني منزلها عليكم، ثم لا ينزلها لأن ذلك منه تعالى خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: إني منزلها عليكم، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول: "فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِن العالَمِينَ" ثم يكفر منهم بعد ذلك فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة، وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى بذلك.
وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة، فأن يقال: كان عليها مأكول، وجائز أن يكون كان سمكا وخبزا، وجائزٌ أن يكون كان ثمرا من ثمر الجنة، وغير نافع العلم به ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيلُ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) أي طعاما دائما. قال بعضهم: قوله: (تكون لنا عيدا) أي مجتمعا، وسمى يوم العيد عيدا لاجتماع الخلق. ثم قيل: نزلت يوم الأحد، فجعلوا ذلك اليوم يوم عيدهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وارزقنا" قيل في معناه قولان: أحدهما: واجعل ذلك رزقا لنا. الثاني: وارزقنا الشكر عليها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شَتَّان بين أمة طلب لهم نبيُّهم سكوناً بإنزال المائدة عليهم، وبين أمة بدأهم -سبحانه بإنزال السكينة عليهم، من غير سؤال أحد، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]. وقال في صفتهم: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. وفَرْقٌ بين مَنْ زيادةُ إيمانه بآياته التي تتلى عليهم وبين من يكون سكونهم إلى كرامات وعطايا تُبَاحُ لهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة... والعيد: المجتمع واليوم المشهود، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر والجمعة ونحوه. وهو من عاد يعود...
المسألة الثانية: تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا، فقدموا ذكر الأكل فقالوا {نريد أن نأكل منها} وأخروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال {وارزقنا} وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية، ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله {وارزقنا} لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال {وأنت خير الرازقين} فقوله {ربنا} ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى، وقوله {أنزل علينا} انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله {تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة، بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله {وآية منك} إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله {وارزقنا} إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال. فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون. ثم قال: {وأنت خير الرازقين} وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف، وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها، اللهم اجعلنا من أهله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال عيسى} ونسبه زيادة في التصريح به تحقيقاً ولأنه لا أب له وتسفيهاً لمن أطراه أو وضع من قدره فقال: {ابن مريم اللهم} فافتتح دعاءه بالاسم الأعظم ثم بوصف الإحسان فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {أنزل علينا} وقدم المقصود فقال: {مائدة} وحقق موضع الإنزال بقوله: {من السماء} ثم وصفها بما تكون به بالغة العجب عالية الرتب فقال: {تكون} أي هي أو يوم نزولها {لنا عيداً} وأصل العيد كل يوم فيه جمع، ثم قيد بالسرور فالمعنى: نعود إليها مرة بعد مرة سروراً بها، ولعل منها ما يأتي من البركات حين ترد له عليه السلام -كما في الأحاديث الصادقة، ويؤيد ذلك قوله مبدلاً من "لنا ": {لأولنا وآخرنا}. ولما ذكر الأمر الدنيوي، أتبعه الأمر الديني فقال: {وآية منك} أي علامة على صدقي {وارزقنا} أي رزقاً مطلقاً غير مقيد بها؛ ولما كان التقدير: فأنت خير المسؤولين، عطف عليه قوله: {وأنت خير الرّازقين} أي فإنك تغني من تعطيه وتزيده عما يؤمله ويرتجيه بما لا ينقص شيئاً مما عندك، ولا تطلب منه شيئاً غير أن ينفع نفسه بما قويته عليه من طاعتك بذلك الرزق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما علم عيسى عليه السلام صحة قصدهم وأنهم لا يريدون تعجيزا ولا تجربة دعا الله تعالى بهذا الدعاء، فناداه باسم الذات الجامع لمعنى الألوهية والقدرة والحكمة والرحمة وغير ذلك فقال: «اللهم» ومعناه يا الله، ثم باسم الرب الدال على معنى الملك والتدبير والتربية والإحسان خاصة، فقال: «ربنا» أي يا ربنا ومالكنا كلنا ومتولي أمورنا لأمر بينا، أنزل علينا مائدة سماوية، جثمانية أو ملكوتية، يراها هؤلاء المقترحون بأبصارهم، وتتغذى بها أبدانهم أو أرواحهم، ولو لم يقل من السماء لشمل الطلب إعطاءهم مائدة من الأرض ولو بطريقة عادية، فإن كل ما يعطى من الله تعالى يسمى إنزالا لتحقق معنى العلو المطلق غير المقيد بجهة من الجهات لله سبحانه فإنه هو العلي القاهر فوق عباده.
ثم وصف عيسى عليه السلام هذه المائدة بما أحب أن يستفاد من إنزالها فقال في وصفها «تكون لنا عيدا» أي عيدا خاصا بنا معشر المؤمنين دون غيرنا، أو تكون كرامة ومتاعا لنا في عيدنا. ثم قال: «لأولنا وآخرنا» وهو بدل من قوله: «لنا» الذي ذكر أولا لإفادة الحصر والاختصاص، أي عيدا لأول من آمن منا وآخر من آمن، والمتبادر أنه أراد بأولهم من كان آمن عند ذلك الدعاء وبآخرهم من يؤمن بعد نزول المائدة ممن يشهد لهم من شهدها وغيرهم، ويحتمل على بعد أن يراد أول جماعته الحاضرين معهم إيمانا وآخرهم، وروي أن المعنى يأكل منها آخر القوم كما يأكل أولهم أو كافية للفريقين.
وكلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور، وبمعنى الموسم الديني أو المدني الذي يجتمع له الناس في يوم معين أو أيام معينة من السنة للعبادة أو لشيء آخر من أمور الدنيا، ولذلك قال السدي في تفسير العبارة: أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثوري: يعني يوما نصلي فيه. وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم. وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه عظة لنا ولمن بعدنا، ويصح أن يسمى طعام العيد عيدا على سبيل المجاز كما أشرنا إليه آنفا وقوله: «وآية منك» معناه وتكون آية وعلامة منك على صحة نبوتي ودعوتي، ولعل المراد بنص قوله: «منك» – مع العلم بأن كل شيء منه تعالى ولا سيما الآيات – النص على أن الآيات إنما تكون من الله وحده، أو أن تكون المائدة من لدنه تعالى بغير واسطة منه عليه السلام تشبه السبب كالآيات السابقة...
وأما قوله عليه السلام: {وارزقنا وأنت خير الرازقين (114)} فمعناه وارزقنا منها أو من غيرها ما تتغذى به أجسامنا أيضا وأنت خير الرازقين ترزق من تشاء بحساب، وترزق من تشاء بغير حساب. ومن محاسنه أنه أخر ذكر فائدة المائدة المادية عن ذكر فائدتها الدينية الروحية، أو معناها وارزقنا الشكر عليها، وربما يقويه إنذار الله من يكفر بعد إنزالها إذ قال: {قال الله إني منزلها عليكم}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. وقوله: {اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة} اشتمل على نداءين، إذ كان قوله: {ربّنا} بتقدير حرفِ النداء. كرّر النداء مبالغة في الضراعة. وليس قوله: {ربّنا} بدلاً ولا بياناً من اسم الجلالة، لأنّ نداء {اللهمّ} لا يتبع عند جمهور النحاة لأنّه جار مجرى أسماء الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير حتى صار كأسماء الأفعال. ومن النحاة من أجاز إتْباعه، وأيّاً ما كان فإنّ اعتباره نداء ثانياً أبلغ هنا لا سيما وقد شاع نداء الله تعالى {ربّنا} مع حذف حرف النداء كما في الآيات الخواتم من سورة آل عمران. وجمع عيسى بين النداء باسم الذات الجامع لصفات الجلال وبين النداء بوصف الربوبية له وللحواريّين استعطافاً لله ليجيب دعاءهم.
ومعنى {تكون لنا عيداً} أي يكون تذكّر نزولها بأن يجعلوا اليوم الموافق يوم نزولها من كلّ سنة عيداً، فإسناد الكون عيداً للمائدة إسناد مجازي، وإنّما العيد اليوم الموافق ليوم نزولها، ولذلك قال: {لأوّلنا وآخرنا}، أي لأوّل أمّة النصرانية وآخرها، وهم الذين ختمت بهم النصرانية عند البعثة المحمدية.
والعيد اسم ليوم يعود كلّ سنة، ذكرى لنعمة أو حادثة وقعت فيه للشكر أو للاعتبار. وقد ورد ذكره في كلام العرب. وأشهر ما كانت الأعياد في العرب عند النصارى منهم..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من الواضح هنا أنّ الأُسلوب الذي عرض به عيسى بن مريم الأمر على الله كان أليق وأنسب، ويحكي عن روح البحث عن الحقيقة ورعاية الشؤون العامّة للمجتمع.