وبعد أن تستريح القلوب ، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون ، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور ، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير . . ثم على حقيقة الأجل المكتوب ، والموت المقدور ، الذي لا يؤجله قعود ، ولا يقدمه خروج ، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير . .
بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى . . حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها . . حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء . أحياء عند ربهم يرزقون ؛ لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها ، فهم متأثرون بها ، مؤثرون فيها ، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة .
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم ، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة ، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح ، وخرجت تتعقب قريشا بعد ذهابها خوفا من كرة قريش على المدينة ، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش ، متوكلة على الله وحده ، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته :
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم : ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول ، من بعد ما أصابهم القرح ، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ، واتبعوا رضوان الله ، والله ذو فضل عظيم . . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) . .
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل ، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى : ( لو أطاعونا ما قتلوا ) فقال يتحداهم : قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . .
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة . . أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة . فكشف لها عن مصير الشهداء : الذين قتلوا في سبيل الله - وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى ، مجردة من كل ملابسة أخرى - فإذا هؤلاء الشهداء أحياء ، لهم كل خصائص الأحياء . فهم " يرزقون " عند ربهم . وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله . وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين . وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم . . فهذه خصائص الأحياء : من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير . فما الحسرة على فراقهم ؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث ، فوق ما نالهم من فضل الله ، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة ؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه ؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة ؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين ، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله . . ؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور . إنها تعدل - بل تنشىء إنشاء - تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها ، وهي موصولة لا تنقطع ؛ فليس الموت خاتمة المطاف ؛ بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق !
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين ، واستقبالهم للحياة والموت ، وتصورهم لما هنا وما هناك .
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) . .
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله ، وفارقوا هذه الحياة ، وبعدوا عن أعين الناس . . أموات . . ونص كذلك في إثبات أنهم " أحياء " . . " عند ربهم " . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات ، وصف ما لهم من خصائص الحياة . فهم " يرزقون " . .
ومع أننا نحن - في هذه الفانية - لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء ، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح . . إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة ، وما بينهما من انفصال والتئام . وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها ؛ وإننا حين ننشىء مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها . لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها ؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى .
فهؤلاء ناس منا ، يقتلون ، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها ، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها . ولكن لأنهم : قتلوا في سبيل الله ؛ وتجردوا له من كل الاعراض والأغراض الجزئية الصغيرة ؛ واتصلت أرواحهم بالله ، فجادوا بأرواحهم في سبيله . . لأنهم قتلوا كذلك ، فإن الله - سبحانه - يخبرنا في الخبر الصادق ، أنهم ليسوا أمواتا . وينهانا أن نحسبهم كذلك ، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده ، وأنهم يرزقون . فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء . .
قوله : { ولا تحسبن } عطف على { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } [ آل عمران : 168 ] ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى ، فقيل لهم : إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم .
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليماً له ، وليُعلِّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن .
والحسبان : الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهياً عن الجزم بأنَّهم أموات .
وقرأ الجمهور : الذين قُتِلوا بتخفيف التاء وقرأه ابن عامر بتشديد التاء أي قُتِّلوا قتلاً كثيراً .
وقوله : { بل أحياء } للإضراب عن قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا } فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تُضرب عن مفردٍ من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير : بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة بالرفع ، وقرىء بالنصب على أنّ الجملة فعلية ، والمعنى : بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها أبو علي الفارسي .
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله : { قتلوا } ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله : { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة . فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله : أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله : { يرزقون } فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره {وَلا تَحْسَبنّ}: ولا تظننّ. وقوله: {الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ} يعني: الذين قُتِلوا بأُحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {أمواتا} يقول: ولا تحسبنهم يا محمد أمواتا، لا يحسون شيئا، ولا يلتذّون، ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي، متنعمون في رزقي، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي، وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي...
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمّا أُصِيبَ إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللّهُ أرْوَاحَهُمْ فِي أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أنْهارَ الجَنّةِ، وَتأكُلُ مِنِ ثِمَارِها، وَتأْوِي إلى قَنادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلّ العَرْشِ¹ فَلَمّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمأْكَلِهِمْ وَحُسْنِ مَقِيِلهِمْ، قالوا: يا لَيْتَ إخْوَانَنا يَعْلَمونَ ما صَنَعَ اللّهُ بِنا! لِئَلاّ يَزْهَدُوا فِي الجِهادِ وَلا يَنْكَلوا عَنِ الحَرْبِ، فَقالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: أنا أُبَلّغُهمْ عَنْكمْ» فأنزل الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات.
قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}... قال الجمهور: إن الله تعالى يحييهم بعد الموت فيُنِيلهم من النعيم بقدر استحقاقهم إلى أن يفنيهم الله تعالى عند فناء الخلق، ثم يعيدهم في الآخرة ويدخلهم الجنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد...
{أَحْيَاءٌ} والمعنى: هم أحياء... {عِندَ رَبّهِمْ} مقرّبون عنده ذوو زلفى... {يُرْزَقُونَ} مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون. وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، قال الحسن بن أبي الحسن: ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حياً لا يموت بالشهادة في سبيل الله، فقوله: {بل أحياء} مقدمة قوله: {يرزقون} إذ لا يرزق إلا الحي...
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا: الجهاد يفضي إلى القتل، كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد، والقتل شيء مكروه، فوجب الحذر عن الجهاد، ثم إن الله تعالى بين أن قولهم: الجهاد يفضي إلى القتل باطل، بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره، فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه، ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل، ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم أن القتل في سبيل الله شيء مكروه، وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة، وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله إلى أجل مراتب الفرح والسرور؟ فأي عاقل يقول إن مثل هذا القتل يكون مكروها، فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين، والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين إلى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل إلى نعيم الدنيا وربما لم يصل، وبتقدير أن يصل إليه فهو حقير وقليل، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن الإقبال على الجهاد أفضل من تركه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد أن تستريح القلوب، وتستقر الضمائر على حقيقة السنن الجارية في الكون، وعلى حقيقة قدر الله في الأمور، وعلى حقيقة حكمة الله من وراء التقدير والتدبير.. ثم على حقيقة الأجل المكتوب، والموت المقدور، الذي لا يؤجله قعود، ولا يقدمه خروج، ولا يمنعه حرص ولا حذر ولا تدبير..
بعد ذلك يمضي السياق في بيان حقيقة أخرى.. حقيقة ضخمة في ذاتها وضخمة في آثارها.. حقيقة أن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتا بل أحياء. أحياء عند ربهم يرزقون؛ لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها، فهم متأثرون بها، مؤثرون فيها، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة.
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح، وخرجت تتعقب قريشا بعد ذهابها خوفا من كرة قريش على المدينة، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش، متوكلة على الله وحده، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته:
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم: ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. الذين استجابوا لله والرسول، من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم.. إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)..
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: (لو أطاعونا ما قتلوا) فقال يتحداهم: قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين..
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة.. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة. فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله -وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى- فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء. فهم "يرزقون "عند ربهم. وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله. وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين. وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير. فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث، فوق ما نالهم من فضل الله، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله..؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور. إنها تعدل -بل تنشئ إنشاء- تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها، وهي موصولة لا تنقطع؛ فليس الموت خاتمة المطاف؛ بل ليس حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق!
إنها نظرة جديدة لهذا الأمر، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين، واستقبالهم للحياة والموت، وتصورهم لما هنا وما هناك.
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)..
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله، وفارقوا هذه الحياة، وبعدوا عن أعين الناس.. أموات.. ونص كذلك في إثبات أنهم "أحياء".." عند ربهم". ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات، وصف ما لهم من خصائص الحياة. فهم "يرزقون"..
ومع أننا نحن -في هذه الفانية- لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح.. إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة، وما بينهما من انفصال والتئام. وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها؛ وإننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها. لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها؛ وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى.
فهؤلاء ناس منا، يقتلون، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها. ولكن لأنهم: قتلوا في سبيل الله؛ وتجردوا له من كل الاعراض والأغراض الجزئية الصغيرة؛ واتصلت أرواحهم بالله، فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قتلوا كذلك، فإن الله -سبحانه- يخبرنا في الخبر الصادق، أنهم ليسوا أمواتا. وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده، وأنهم يرزقون. فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله: {قتلوا}، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح، غير مضمحلّة، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم، ومسرّتهم بإخوانهم، ولذلك كان قوله: {عند ربهم} دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق، ونبضات القلب، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة. فإن علّقنا {عند ربهم} بقوله: أحياء كما هو الظاهر، فالأمر ظاهر، وإن علقناه بقوله: {يرزقون} فكذلك، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ما ناله أهل الشهادة باستشهادهم، وما هم عليه من روح وريحان، وما يستقبلونه من جنات النعيم، وقد بين في هذه الآيات الكريمة ما أعده الله سبحانه للمؤمنين المجاهدين الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح، من اجر لا يضيع، وعمل صالح يرى، وقول طيب هدوا إليه يسمع، وقد قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء}. وفي هذا النص الكريم رد على شماتة المنافقين، وتحريض للمؤمنين، وتقرير لحقيقة إسلامية ثابتة، وهي أن الاستشهاد في سبيل الله تعالى ليس فناء، بل هو بقاء، وأن الموت ليس إنهاء للحياة، ولكنه امتداد لها بصورة أكمل وأبقى، أو بعبارة أخرى هو انتقال من دور الحياة المادية إلى دور الحياة الروحية حتى تكون القيامة، وتجزئ كل نفس بما كسبت، عن خيرا فخير، وإن شرا فشر. نهى الله سبحانه وتعالى نبيه الأمين عن أن يظن أي ظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله تعالى أموات بل هم احياء، والتأكيد هنا تأكيد للنهي، أي أن الله تعالى ينهى نبيه نهيا مؤكدا عن أن يظن ذلك الظن، ف" نون التأكيد "ليست لتأكيد الظن المنهى عنه، بل هي لتأكيد النهي، كما يقال: لا تفعلن كذا، فليست النون لتأكيد الفعل، بل هي لتأكيد النهي، ولاشك أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم نهى لغيره، وغيره أولى بهذا النهي منه وأجدر؛ لأن الناس منهم من ظنوا بالله الظنون، وقد أصابتهم حسرة شديدة، وبعضهم أصابتهم خيبة آمال، ومنهم من كان في ألم شديد للذين قتلوا منهم، وقد وجه النهي للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء ليكون انتهاء النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لهم، والنبي أقرب البشر إلى الله سبحانه، فنهيه فيه تأكيد النهي لغيره. والذين قتلوا في سبيل الله تعالى هم الذين قتلوا في سبيل الحق والدعوة إليه، سواء أكان ذلك في ميدان القتال، أم كان في ميدان الدعوة إلى الله تعالى وعلى صراط مستقيم، وكل داع لله إذا قتل في سبيله أو مات في طلبه فهو قد قتل في سبيل الله تعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" فمن قتل في هذه السبيل فقد قتل في سبيل الله تعالى.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أنتم تخافون الموت، ولكن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا بميتين، لأن حياتهم حياة موصولة؛ إن هناك فارقا كبيرا بين الموت والشهادة، فالذي يقتل شهيدا تكون حياته موصولة، ولن يمر بفترة موتنا نحن، ولنفهم أنهم أحياء عند ربهم، أي بقانونه سبحانه، فلا تُحَكّم قانونك أنت، فأنت -كما قلت- لو فتحت القبر ستجد هؤلاء القتلى مجرد أشلاء. هم عندك أشلاء وأموات في قانونك أنت. لكنهم أحياء عند ربهم يرزقون؟ فالحياة تختلف عن الموت في ماذا؟ إن الإنسان إذا زهقت روحه وفارقت جسده انقطعت حياته، في ظاهر الأمر انتهى ولم يعد ينتفع برزق ولا بأكل؛ لأن الرزق جُعل لاستبقاء الحياة إذن فلا رزق، لكن الله سبحانه يريد أن يعطينا مواصفات تؤكد أن الشهيد حي. ومن ضروريات الحياة أنه يٌرزق أي ينتفع باستبقاء الحياة، وعلينا أن نفهم أن العندية عندك غير العندية عند الله. فالشهيد حي عند ربه ويُرزق عند ربه رزقا يناسب الحياة التي أرادها له ربه. ونعلم أن الرزق هو الخاصية التي توجد للأحياء. وعندما نقرأ قول الله: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قد يقول قائل: من الجائز أنك تأخذ إنسانا وتُبقيه حيا وتعطيه طعاما وشرابا لكن أهو فرح بموقعه؟ لا. لذلك يجب أن ندرك ونعرف أن حياة الشهيد ليست في قبره ولكنها عند ربه وهو فَرِح بموقعه لذلك يقول الحق: {فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}